الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وما أُهلَّ به لغير الله

وما أُهلَّ به لغير الله

وما أُهلَّ به لغير الله

من الآيات المتفقة في المضمون والمختلفة في بعض الألفاظ، الآيات الأربع التالية:

الأولى: قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} (البقرة:173).

الثانية: قوله سبحانه: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (المائدة:3).

الثالثة: قوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام:145).

الرابعة: قوله عز من قائل: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} (النحل:115).

هذه الآيات الأربع يتعلق بها أسئلة أربعة، هي وفق التالي:

السؤال الأول: لماذا قُدِّم المجرور (به) في آية البقرة في قوله سبحانه: {وما أهل به لغير الله}، وأُخِّر في الآيات الثلاث الأُخَر، في قوله سبحانه: {وما أهل لغير الله به

السؤال الثاني: لماذا خُتمت آية الأنعام بقوله تعالى: {فإن ربك غفور رحيم}، بينما ختمت الآيات الأُخر بقوله عز وجل: {فإن الله غفور رحيم

السؤال الثالث: لماذا زِيْدَ في آية المائدة جملة من المحرمات على المحرمات الأربعة التي ذُكِرت في الآيات الثلاث الأُخر؟

السؤال الرابع: لماذا خُصت آية المائدة بقوله سبحانه: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم}، وليس هذا في الآيات الثلاث الأُخر؟

الجواب على هذه الأسئلة هو موضوع هذه السطور.

جواب السؤال الأول: أن من عادة العرب في كلامها أن تقدم الأهم، قال سيبويه: "كأنهم يقدمون الذي هو أهم لهم، وهم ببيانه أعنى"، وآية البقرة قد تقدم قبلها قوله سبحانه: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} (البقرة:168)، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (البقرة:172)، فذكر سبحانه لعباده ما أباحه لهم، ووسعه عليهم من الطيبات، وأكده بقوله: {إنما}، المفيدة للحصر، ثم أمرهم سبحانه بشكر نعمته. فلما تحصَّل في هذه الآية ما أشير إليه من تأكيد هذا المحرم، ناسبه تقديم المضمر المجرور في قوله: {وما أهل به لغير الله}؛ ليكون الكلام بتقديم المجرور يفيد التأكيد ، ولم يكن تأخير المجرور ليفيد هذا المعنى، ولا يناسب ما تقدمه، فجرى الكلام في آية البقرة على أسلوب من البلاغة ملحوظ في آخره وأوله.

ولما كانت هذه المعاني المشار إليها في آية سورة البقرة غير موجودة في الآيات الثلاث الأُخر، فقد تأخر الضمير المجرور إلى محله الذي هو موضعه؛ إذ لم يقصد هذا القصد، ولم يكن ليلائمه التقديم.

جواب السؤال الثاني: أن كل موضع يوجب اختصاص اللفظ الذي ذُكر فيه، فأما آية البقرة؛ فلأنه لما قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} (البقرة:172)، كان بما قدمه مثبتاً عليهم إلهيته؛ لأن الإله هو الذي تحق له العبادة، بما له من النعمة، فلما قَدَّم ذكر ما رزقهم منها، وطالبهم بشكرها، أتبعه بقوله: {إن كنتم إياه تعبدون}، وختم الآية التالية بأن قال: {إن الله غفور رحيم}، أي: إن من أنعم عليكم غاية النعمة، واستحق بها غاية التعبد والتذلل، هو الذي يغفر لكم عند الضرورة تناوُلَ ما حرم عليكم حال الاختيار، رحمة بكم.

وكذلك آية النحل مبنية على مثل هذا؛ لأن أولها: {فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} (النحل:114)، فكان مشبهاً ما تقدم ذكره في آية البقرة، فقال: {فإن الله غفور رحيم} (النحل:115).

وأما آية الأنعام، فقد تقدمها ذكر أصناف ما خلقه الله تعالى لتربية الأجسام، وذلك قوله سبحانه: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها} (الأنعام:141)، فذكر الثمار والحَبَّ، وأتبعه بذكر الحيوان من الإبل والبقر والغنم، وخصَّ هذا الموضع بذكر (الرب)؛ لأن (الرب) هو القائم بمصالح المربوب، فكان هذا أليق بهذا المكان.

جواب السؤالين الثالث والرابع: لما كانت آية المائدة من آخر ما نزل من القرآن، فقد ورد فيها استيفاء ما حكم سبحانه بتحريمه، وإلحاقه بالميتة، والدم، ولحم الخنزير،، وأعقب الكلام بقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} (المائدة:3)؛ تتميماً لبيان حال المضطر ومظنة الاضطرار زيادة على ما ورد في الآيات الأُخر؛ ليرتفع ما عسى أن يكون باقياً فيها من إجمال أو إشكال؛ وليجري مع قوله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة:3).

هذا، وقد ذكر الرازي كلاماً يتعلق بالسور الأربع التي وردت فيها هذه الآيات الأربع من المفيد ذكره، قال رحمه الله: "هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، سورتان مكيتان، وسورتان مدنيتان، فإن سورة البقرة مدنية. وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعاً ثابتاً في أول أمر مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها، وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعاً للأعذار، وإزالة للشبهة".

والذي يُفهم من كلام الرازي أن الغرض من تكرار هذه الآيات، إنما هو التأكيد على الأحكام التي تضمنتها، وقطع العذر على من يريد أن يعتذر بعدم التزامها.

والملاحظ من هذه التوجيهات التي ذكرها العلماء أنها قائمة انطلاقاً من اعتبارات عدة، منها: تقديم ما هو أهم؛ تأكيداً له . ومنها: مراعاة السياق الذي وردت فيه هذه الآية أو تلك . ومنها: النظر في وقت نزول الآية، والبناء عليه. وكل ذلك اجتهاد ونظر، وإعمال للرأي والفكر، قد يكون صواباً، وقد لا يكون كذلك، لكنه على كل حال يفتح آفاقاً لفهم النص القرآني، ويعين على تفهم أوجه الفرق بين الآيات المتشابهة في ألفاظها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة