الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (الإسراف) في القرآن الكريم

لفظ (الإسراف) في القرآن الكريم

لفظ (الإسراف) في القرآن الكريم

من السلوكيات التي ذمها القرآن الكريم، وتوعد مرتكبيها بالعقاب سلوك (الإسراف). فما هو (الإسراف) في اللغة؟ وما هي دلالاته في القرآن الكريم؟ هذا ما نخصص للجواب عنه هذه السطور.

لفظ (الإسراف) مأخوذ من (السَّرَف)، وهو في أصله اللغوي يدل على تعدي الحد، تقول: في الأمر سَرَفٌ، أي: مجاوزة القدر. و(السرف) تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في المال أشهر. ويقال تارة اعتباراً بالقَدْر، كقول سفيان: "ما أنفقتَ في غير طاعة الله، فهو سرف، وإن كان قليلاً". ويقال تارة اعتباراً بالكيفية، كقول سفيان أيضاً: "سمي قوم لوط عليه السلام مسرفين، من حيث إنهم تعدوا في وضع البذر في غير المحل المخصوص". ويقولون: إن السرف أيضاً: الضراوة بالشيء والولوع به. وروي: (إن للحم سَرَفاً، كسرف الخمر)، أي: ضراوة. وليس هذا بالبعيد من الكلمة الأولى.

ويأتي (السرف) في اللغة بمعنى (الإغفال)، كقول القائل: (مررت بكم فسرفتكم)، أي: أغفلتكم. وفلان سَرِف الفؤاد: غافله. و(السَّرَف) الجهل. و(السَّرِف) الجاهل. و(السُّرْفَةُ) دودة القز. وسَرَفَتِ السُّرْفَةُ الشجرةَ: أكلت ورقها.

ولفظ (الإسراف) ومشتقاته ورد في القرآن الكريم في ثلاثة وعشرين موضعاً، ورد في ستة مواضع بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} (الزمر:53)، وورد في سبعة عشر موضعاً بصيغة الاسم، منها قوله سبحانه في أموال اليتامى: {ولا تأكلوها إسرافا} (النساء:6).

ولفظ (الإسراف) ورد في القرآن الكريم على ستة معان، هي وفق التالي:

(الإسراف) بمعنى (التجاوز عن الحد المشروع)، من ذلك قوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف:31)، أي: لا تسرفوا في الأكل والشرب، وتجاوز الحد الذي شرعه الله لكم. روى ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} في الطعام والشراب. وذكر البغوي: أن (الإسراف) المنهي عنه هنا، إنما هو تحريم ما أحل الله؛ إذ إن تحريم ما أحله الله، أو تحليل ما حرمه يدخل في باب (الإسراف)؛ لأنه تجاوز لحدود الله، وتعدٍّ على ما شرعه لعباده.

ونظير هذا قوله عز وجل: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا} (الأنعام:141)، اختار الطبري أن المراد: النهي عن (الإسراف) في كل شيء. وقد عقب ابن كثير على قول الطبري، فقال: "لا شك أنه صحيح، لكن الظاهر من سياق الآية، أن يكون عائداً على الأكل، أي: ولا تسرفوا في الأكل؛ لما فيه من مضرة العقل والبدن".

(الإسراف) بمعنى (الشرك بالله)، حملوا على هذا المعنى قوله عز وجل: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} (غافر:43)، قال قتادة: يعني المشركين. وقال عكرمة: الجبارون والمتكبرون. وقيل: هم الذين تعدوا حدود الله، وهذا جامع لما ذُكر. قال الطبري: المشركين بالله المتعدين حدوده، القتلة النفوس التي حرم الله قتلها، هم أصحاب نار جهنم عند مرجعنا إلى الله.

ونظير هذا قوله تعالى: {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} (يونس:83)، قال البغوي: أي: المجاوزين الحد؛ لأنه كان عبداً، فادعى الربوبية. ومثل ذلك قوله عز وجل: {فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} (الأنبياء:9)، قال قتادة: {وأهلكنا المسرفين}، المسرفون: هم المشركون.

(الإسراف) بمعنى (الحرام)، جاء على هذا المعنى قوله تعالى في أموال اليتامى: {فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا} (النساء:6)، أي: حراماً، قال الطبري: يعني: بغير ما أباحه الله لك. وقال البغوي: بغير حق. وقال القرطبي: بغير الواجب المباح لهم. وكل هذه الأقوال مؤداها واحد، وهو حرمة أخذ مال اليتيم بغير وجه مشروع.

(الإسراف) بمعنى (خلاف ما يجب فعله شرعاً)، من ذلك قوله عز وجل: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} (الإسراء:33)، أي: لا يقتل غير القاتل تشفياً وانتقاماً. وقد قالوا في معناه: فلا يسرف الولي في قتل القاتل، بأن يمثل به، أو يقتص من غير القاتل.

(الإسراف) بمعنى (النفقة في المعصية)، جاء على هذا المعنى قوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} (الفرقان:67)، أي: لم ينفقوا أموالهم في معصية الله. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} الآية، قال: هم المؤمنون، لا يسرفون، فينفقون في معصية الله. وقال ابن زيد: كل ما أنفق في معصية الله، وإن قلَّ، فهو إسراف. وروي عن بعضهم أن المراد بـ (الإسراف) في الآية هنا: التجاوز في النفقة عن الحد المشروع، قال ابن كثير: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة. فتكون الآية هنا على وَفْق المعنى الأول المتقدم.

(الإسراف) بمعنى (الإفراط في المعاصي)، من ذلك قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} (الزمر:53)، أي: أكثروا من فعل الذنوب، وأفرطوا على أنفسهم بارتكاب المعاصي. وذهب بعض المفسرين إلى أن (الإسراف) هنا يشمل إسراف المؤمن، وإسراف المشرك، قال الطبري: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك؛ لأن الله عمَّ بقوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفاً دون مسرف.

وبما تقدم يتبين، أن المعنى الرئيس الذي يدور حوله لفظ (الإسراف) إنما هو تجاوز الحد المشروع، فكل من تجاوز ما شرعه الله فهو مسرف، و(الإسراف) قد يكون بفعل المعاصي، وقد يكون بفعل الشرك، وقد يكون زيادة في فعل مباح أو مطلوب، وقد يكون نقصاً في فعل مطلوب، فكل ذلك تجاوزٌ لما شرعه الله لعباده، ورضيه لهم.

وقد تبين أيضاً، أن لفظ (الإسراف) أكثر ما جاء في القرآن الكريم بمعنى (الشرك بالله، والكفر به)، يلي ذلك مجيئه بمعنى التجاوز في (الإنفاق). ويضاف إلى ما تقدم، أن جميع المعاني التي جاء عليها لفظ (الإسراف) في القرآن الكريم، إنما هي معاني متداخلة ومترابطة، ويجمعها قاسم مشترك، هو تجاوز الحد المشروع، كما هو واضح لمن تأمل فيما تقدم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة