الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المناهج الخاصة للمحدثين - منهج الإمام أحمد

المناهج الخاصة للمحدثين - منهج الإمام أحمد

المناهج الخاصة للمحدثين - منهج الإمام أحمد

كان الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني محدثا فقيها بارعا، عارفا بالعلل وناقدا للرجال، وكان يحفظ ألف ألف حديث عن ظهر قلب، فأراد أن يصنف كتابا يكون مرجعًا للمسلمين في الحديث، فألّف "المسند" وجعله مرتبًا على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث -كما هي طريقة المسانيد-، فجاء كتابًا حافلاً كبير الحجم، يبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفًا تقريبًا.

وقد انتقى الإمام أحمد ما وضعه في مسنده من العدد الهائل من محفوظه، ولم يُدخل فيه إلاَّ ما يُحتج به، وبالغ بعضهم فأطلق أن جميع ما فيه صحيح، ولكن الأمر ليس كذلك، بل فيه الصحيح والحسن والضعيف.

ورغم أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن أول من صَنَّف على طريقة المسانيد، إلا أن مسنده لاقى من الشهرة والذيوع والانتشار ما لم يكن لما صُـنِّـف قبله أو بعده، حيث صار أعظم المسانيد قدراً وأكثرها نفعاً، فشهد له المحدثون قديماً وحديثاً بأنه أجـمع كتب السنة وأوعاها، قال الإمام ابن كثير: "لا يوازي مسند أحمد كتابٌ مسندٌ في كثرته وحسن سياقاته"، وكان من أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد - أي بين راويها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة -.

وقد ظهرت معالم منهج الإمام أحمد في طريقة التصنيف التي اتبعها في مسنده، وهذه أبرز سمات منهجه وطريقته الحديثية:

أولاً: شروطه في أسانيد "المسند":

1- عدم اتفاق النقاد على ترك الحديث: أن يُخرج جميع الأحاديث التي لم يُجمع النقاد على تركها، أي أنه لا يترك حديث محدث حتى يجتمع أهل مصرٍ على ترك حديثه.

2- الرجال (الرواة): أن لا يكون رواة الحديث أو أحدهم معروفاً بالكذب، فهذا سبب كاف للتيقن من ضعف الحديث.

ثانياً: منهجه في ترتيب أحاديث "المسند":

رتب الإمام أحمد مسنده على مسانيد الصحابة - والمسند: هو الكتاب الذي جمع فيه مؤلفه مرويات كل صحابي على حدة، كأن يجمع مثلا أحاديث أبي بكر الصديق في تبويب مستقل يحمل اسمه ، وأحاديث غيره من الصحابة كذلك ، من غير مراعاة للأبواب الفقهية، ودون تفريق بين صحيح وضعيف .

إضافة إلى ذلك فإنه قسَّم المسانيد تقسيما آخر، بحيث جعل كتابه يشتمل على ثمانية عشر مسنداً، ينضوي تحت كل منها عدد من المسانيد أو يكون مسنداً برأسه للمكثرين من الحديث.

والمسانيد الرئيسية هي: الأول: مسند العشرة المبشرين بالجنة, الثاني: مسند أهل البيت, الثالث: مسند عبد الله بن مسعود, الرابع: مسند عبد الله بن عمر, الخامس: مسند عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي رمثة, السادس: مسند العباس وأبنائه الكرام, السابع: مسند عبد الله بن عباس, الثامن: مسند أبي هريرة, التاسع: مسند أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، العاشر: مسند أبي سعيد الخدري, الحادي عشر: مسند جابر بن عبد الله الأنصاري, الثاني عشر: مسند المكيين, الثالث عشر: مسند المدنيين, الرابع عشر: مسند الكوفيين, الخامس عشر: مسند البصريين, السادس عشر: مسند الشاميين, السابع عشر: مسند الأنصار, الثامن عشر: مسند عائشة مع مسند النساء.

وقد بلغ عدد الصحابة الذين لهم مسانيد في مسند الإمام أحمد (904) صحابي.

ثالثاً: منهجه في تكرار الحديث:

اعتاد الإمام أحمد تكرير الأحاديث، حتى بلغ عدد المكرر في مسنده عشرة آلاف حديث - أي ربع أحاديث المسند تقريبا -، وربما أخرج النص الواحد بعدة أسانيد في أماكن متفرقة من مرويات صاحب المسند، وربما أدخل مرويات صحابي في مرويات صحابي آخر، ولم يتبع ترتيبا معيناً للنصوص المذكورة تحت كل صحابي.

رابعاً: منهجه في نقد الرجال:

يُعد الإمام أحمد من المعتدلين في نقد الرجال، إلا أنه كان لديه تساهل في بعض الأحيان، مما دفع بعض الأئمة للتقليل من رتبة أحاديث المسند، ولكن الحافظ ابن حجر ألّف كتابًا سماه: القول المسدد في الذب عن المسند حقق فيه نفي الوضع عن أحاديث المسند، وظهر من بحثه أن غالبها جياد وأنه لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعًا، إلا الفرد النادر مع الاحتمال القوي في دفع ذلك.

ومما يؤيد ذلك ما قاله الإمام السيوطي في خطبة كتابه الجامع الكبير ما لفظه: "وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول ، فإن الضعيف فيه يقرب من الحسن".

خامساً: منهجه في إعلال الأحاديث:

كان الإمام أحمد من الأئمة الذين برعوا في إبراز الأخطاء والأوهام التي وقع فيها رواة الأخبار، وكيف وقعوا فيها، ولأن الخطأ مما جبل عليه البشر، وأسباب طروه لا تنحصر، فكان من الصعوبة بمكان وضع قواعد جامدة لا مرونة فيها تكون هي المعولة في الحكم على الراوي بالخطأ في روايته، ومن أجل ذلك كان من أبرز سمات منهج الإمام أحمد العمل مع القرائن في كل حديث بمفرده.

ومع تلك الصعوبة فلا يستحيل على من درس منهج الإمام أحمد الاطلاع على أهم الأصول التي بنى عليها كلامه في الإعلال، ولا يقال إنها قواعد بل هي قرائن - كادت لكثرة استعمالها أن تكون قواعد في هذا العلم - تكاد تنحصر في عشرة أمور:

1) التفرد ممن لا يحتمل تفرده وبخاصة عن حافظ مكثر ذي تلاميذ كثر.
2) المخالفة لرواية الأوثق أو الأكثر عددا.
3) مخالفة الراوي لمقتضى ما رواه.
4) مخالفة الرواية للثابت المعروف.
5) سلوك الجادة عند بعض الرواة في حالة الرواية.
6) معرفة الملابسات المتعلقة بمجالس التحمل والأداء.
7) معرفة ما ينفي السماع الموهوم في السند.
8) معرفة من ضُعِّف من الثقات تضعيفا مقيدا، إما في بعض شيوخه، أو في بعض الأوقات، أو الحالات أو في حديثه في بعض البلدان، أو في حديث بعض أهل البلدان عنه.
9) معرفة مراتب الرواة عن الأعلام المكثرين في الرواية وعدد التلاميذ.
10) الفهم الخاص بأن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان.

سادساً: منهجه في صنوف متفرقة:

1- موقفه مما اتفق عليه شيوخه أو أقرانه: لا ينفرد الإمام أحمد في أغلب مسائل علوم الحديث بما لا يوافقه عليه غيره من أقرانه أو شيوخه، ففي عدم اعتبار عدد محدود لرفع الجهالة - حيث جعل الضابط في ذلك شهرة الراوي- فقد وافقه غيره من أقرانه، وكذلك في اعتبار ثبوت السماع للحكم بالاتصال على السند المعنعن، وكذلك في ضابطه في الحكم بالنكارة على ما تفرد به الراوي الذي لا يحتمل منه ذلك التفرد وإن كان ثقة.

2- مصطلحاته التي اشتهرت عنه: كانت مصطلحات الإمام أحمد في علوم الحديث أكثر شمولا من المصطلحات التي وضعها المتأخرون، ومن ذلك إطلاقه للألفاظ المرادفة للحديث الموضوع (كذب، باطل، ليس له أصل، منكر) على تركيب الإسناد، وسرقة الحديث، والحديث المقلوب، والمطروح أو المنكر، وهذا يدل على توسّع المتقدمين في استعمال المصطلحات، وإنما ساغ تسمية هذه الأنواع بـ(الموضوع، والباطل، والكذب) لأن بينها وبين الحديث المختلق المصنوع وصف مشترك، وهو بطلان نسبة الكلام إلى من أضيف إليه تحقيقاً أو في الظن الغالب، وإنما الفرق بينها كون ذلك وقع عمداً أو خطأً؟ وهل أُضيف الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره؟ ومن هذا الوجه لم ير بعض الأئمة التقييد بالتعمّد في تعريف الحديث الموضوع.

3- مواقفه من بعض الرواة والأئمة: قد تكون مواقف الإمام أحمد في بعض مسائل علوم الحديث تعكس منزلته من الإمامة في السنة والدين، فلا تقتصر على مجرد منظار أهل الاختصاص بعلم الرواية، مثل موقفه مع المشتهرين بالبدعة والهوى الداعين إليها، وكذلك الذين أجابوا في محنة خلق القرآن في عصره، حيث ترك الرواية عنهم ونهى غيره عن ذلك، لا لعدم صحة الاحتجاج بمروياتهم لكن لواجب الديانة المقتضي هجران أصحاب الفرق المخالفين للسنة والجماعة.

وختاما: فقد اعتنى بمسند الإمام أحمد وبيان منهجه وطريقته فيه خلقٌ كثيرون، خصوصا في الأزمان المتأخرة، وإنما أردنا الإشارة إلى شيء يسير يعين كل من أراد إمتاع النظر في هذا المؤلَّف الجامع العظيم، وبالله التوفيق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة