الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المستقدمون والمستأخرون

المستقدمون والمستأخرون

المستقدمون والمستأخرون

القرآن الكريم مملوء بالتوجيهات التي تغني حياة المؤمنين، وتملؤها حركة وفعالية وحيوية، ومن هذه التوجيهات ما تضمنته هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} (الحجر:24)، فهذه الآية الكريمة مع أنها من حيث بنائها اللغوي جملة إخبارية، بيد أن مضمونها ينطوي على توجيه إرشادي، نكشف عنه بعد أن نقف على المراد من قوله سبحانه: {المستقدمين} و{المستأخرين}.

يذكر المفسرون أقوالاً عديدة من المراد من هذين الوصفين {المستقدمين} و{المستأخرين}، أوصلها بعضهم كـالماوردي والقرطبي إلى ثمانية أقوال، وأوصلها الطبري إلى ستة أقوال، ونحن نذكر أهم ما ذكروه في هذا الصدد.

أولاً: أن المراد من {المستقدمين} الأمم الماضية الهالكة، و{المستأخرين} من لم يخلق بعد ممن سيخلق. وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم. وكأن المراد -بحسب هذا القول- الإخبار عن علم الله بالأموات السابقين، والأحياء اللاحقين.

وروى الطبري هنا خبراً جاء فيه: أن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كان يذاكر محمد بن كعب في قول الله: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين}، فقال: عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: خير صفوف الرجال المقدَّم، وشر صفوف الرجال المؤخَّر، وخير صفوف النساء المؤخَّر، وشر صفوف النساء المقدَّم، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا، {ولقد علمنا المستقدمين منكم}: الميت والمقتول، و{المستأخرين}: من يلحق بهم مِن بعدُ، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله، وجزاك خيراً.

ثانياً: أن المراد من {المستقدمين} أول الخلق، و{المستأخرين} آخرهم. روي عن الشعبي قوله: ما استقدم في أول الخلق، وما استأخر في آخر الخلق. وغير خاف أن ثمة فرقاً بين هذا القول وسابقه.

ثالثاً: أن المراد من {المستقدمين} الأمم السابقة، و{المستأخرين} أمة محمد صلى الله عليه وسلم. روي عن مجاهد قوله: {المستقدمين منكم}، قال: القرون الأُوَل، و{المستأخرين}: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: أن المراد من {المستقدمين} السابقون إلى الخيرات، و{المستأخرين} المقصرون في الطاعات. روي عن الحسن قوله: {المستقدمين} في الخير، و{المستأخرين} المبطئين عنه.

خامساً: أن المراد من {المستقدمين} السابقون إلى الصفوف الأُوَل في الصلاة، و{المستأخرين} المصلون في أواخر الصفوف. وقد ذكر بعض المفسرين حديثاً هنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف، فأنزل الله في شأنها هذه الآية.

قال ابن كثير منتقداً هذه الرواية: حديث غريب جداً...فيه نكارة شديدة. وقال ابن عاشور: وهو خبر واهٍ، لا يلاقي انتظام هذه الآيات - يقصد أنه لا يتفق وسياق الآية -، ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة. وما يضعف هذا الخبر من جهة المعنى أيضاً أنه ينسب إلى الصحابة ما لم يكن من أخلاقهم وسلوكهم. وقد أخرج الحديث نفسه عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء من غير ذكر المرأة. قال الترمذي: هذا أشبه أن يكون أصح.

وقد رجح الطبري من بين هذه الأقوال القول الأول، وأيد ترجيحه بالسياق والسباق، فقال: "وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ؛ لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله: {وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} (الحجر:23)، وما بعده وهو قوله: {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} (الحجر:25)".

وتابع ابن عطية الطبري في ترجيحه، فقال: "وإن كان اللفظ يتناول كل تقدم وتأخر على جميع وجوهه، فليس يطرد سياق معنى الآية إلا كما قدمنا"، وقال أيضاً: "وما تقدم الآية من قوله: {ونحن الوارثون} وما تأخر من قوله: {وإن ربك يحشرهم}، يضعف هذه التأويلات؛ لأنها تذهب اتصال المعنى". وسار على دربهما الآلوسي، فبعد أن ذكر قول من قال إن المراد الأموات السابقين والأحياء اللاحقين، قال: "وهو من المناسبة بمكان"، يريد: أن سياق الآيات يدل على أن المراد من {المستقدمين} الأموات، و{المستأخرين} الأحياء.

فإذا غضضنا الطرف عما ذكرته كتب التفاسير حول المراد من {المستقدمين}، و{المستأخرين}، وأعملنا النظر في هذين اللفظين، أمكننا أن نسجل الملاحظات التالية:

أولاً: أن هذين اللفظين يدلان على القدر الإلهي، وأنه سبحانه قدر كل شيء تقديراً حكيماً، فهو يخلق بقدر، ويميت بقدر، ويرفع بقدر ويخفض بقدر، ويعطي بقدر ويمنع بقدر، وقس على هذا كل ما هو قدر ومقدور.

ثانياً: يفيد هذان اللفظان توحيد الله سبحانه؛ وذلك أنه سبحانه هو المتفرد في الخلق والإيجاد والإمداد والإعدام، فله الأمر من قبل ومن بعد، ولا راد لأمره ومراده سبحانه، {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف:54).

ثالثاً: أن هذين اللفظين يحثان المسلم على أن يبادر إلى الصلاة في وقتها، وأن يكون في الصفوف الأُوَل عند إقامتها، ولا يأتها على عجل، أو في أواخرها، وقد اقترب انقضاؤها. وأن يُقبل على الصلاة ليرتاح بها من هموم الحياة ومشاغلها ومغرياتها، لا ليرتاح منها!

رابعاً: إن هذين اللفظين يحثان المسلم على أن يكون متقدماً في كل ما هو خير، وأن يكون متحليًّا بروح المبادرة إلى العمل، هذه الروح التي فقدها كثير من المسلمين اليوم. وقد قال الرازي في هذا المقام: "فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود، وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات، ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة". وأكد الآلوسي هذا المنحى العام في فهم الآية بقوله: "وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا قال بعضهم: الأولى الحمل على العموم، أي: علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة