الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حذف جواب (لو) في القرآن

حذف جواب (لو) في القرآن

حذف جواب (لو) في القرآن

ثمة باب في كتب النحو واللغة يسمونه باب (حروف المعاني)، يبحثون فيه من الكلام ما لم يكن اسماً، ولا فعلاً، بل حرفاً، ويقررون لكل حرف من هذه الحروف معاني أصلية، ومعاني فرعية. ومن هذه الحروف حرف (لو). فلنتحدث عن هذا الحرف ومورده في القرآن.

(لو) في القرآن

ورد هذا الحرف في القرآن الكريم في سبعة وعشرين ومائة موضع، جاء في خمسة وستين منها مفرداً، من ذلك قوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} (الإسراء:100)، وجاء مقترناً بـ (الواو) في ستين موضعاً، منها قوله سبحانه: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} (البقرة:103)، وجاء في موضعين فقط مقترناً بـ (الفاء)، أحدهما: قوله عز وجل: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} (الأنعام:149). وثانيهما: قوله تعالى: {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} (محمد:21).

معاني (لو)

وحرف (لو) -كما قال ابن هشام- يقتضي في الماضي امتناع ما يليه، واستلزامه لتاليه. ويأتي هذا الحرف على أربعة معان، هي:

الأول: بمعنى الشرط، فيفيد عقد السببية والمسببية بين جملتين بعده. نحو قوله سبحانه: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} (الأنفال:23).

الثاني: أن يكون حرف شرط في المستقبل، إلا أنه لا يجزم. نحو قوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} (النساء:9).

الثالث: أن يكون حرفاً مصدرياً، بمنزلة (أن) إلا أنه لا ينصب، وأكثر وقوعه في هذه الحال بعد الفعل (ودَّ)، نحو قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا} (البقرة:109)، أو بعد الفعل (يود)، نحو قوله سبحانه: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر:2).

الرابع: أن يكون للتمني، نحو قوله عز وجل: {لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} (البقرة:167). أي: يا ليت لنا كرة.

أحكام (لو)

تختص (لو) ببعض الأحكام، منها:

- أنها تدخل على الفعل خاصة، وقد يليها اسم مرفوع معمول لمحذوف يفسره ما بعده، أو اسم منصوب كذلك، أو خبر لكان محذوفة، أو اسم هو في الظاهر مبتدأ وما بعده خبر.

- تقع (أنَّ) بعدها كثيراً، نحو قوله سبحانه: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة}، {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا}، وهذا كثير في القرآن.

- لغلبة دخول (لو) على الماضي لم تجزم، ولو أريد بها معنى إن الشرطية.

- جواب (لو) إما فعل مضارع منفي بـ (لم). والغالب على الفعل المثبت -غير المنفي- دخول (اللام) عليه نحو قوله سبحانه: {لو نشاء لجعلناه حطاما} (الواقعة:65)، وقد يتجرد منها، نحو قوله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجا} (الواقعة:70). والغالب على الفعل المنفي تجرده منها، نحو قوله عز وجل: {ولو شاء ربك ما فعلوه} (الأنعام:112). وقد يدخل على الفعل (الفاء)، نحو قوله سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله} (النساء:9).

- قد يكون جواب (لو) جملة اسمية مقرونة باللام، أو بالفاء، كقوله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة}. وليس غيرها في القرآن.

- الغالب أن يكون جواب (لو) المحذوف من جنس المذكور قبل الشرط؛ ليكون ما قبل الشرط دليلاً على الجواب المحذوف.

- لا يسوغ حذف جواب (لو) في أي موضع كان من الكلام، وإنما يحذف ما دل عليه مكان المحذوف، وقد ورد في القرآن الكريم غير محذوف، كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} (الحجر:14-15).

حذف جواب (لو)

من سَنَن العرب في كلامها، أن كل ما عُلِم، تكتفي بترك جوابه؛ ألا ترى أن الرجل يشتم الرجل، فيقول المشتوم: أما والله لولا أبوك...فيُعلم أنك تريد: لشتمتك. وها نحن نذكر شيئاً من عبارات العلماء بخصوص حذف جواب (لو).

قال ابن الأثير: "حذف (لو) و(جوابها) من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها". وقال أيضاً: "وأما حذف جواب (لو)، فإنه كثير شائع". وقال بعد أن ذكر عدداً من المحذوفات: "وهذا الضَرْب من المحذوفات، أظهر الضروب المذكورة وأوضحها، لعلم المخاطب به". وذكر الزركشي عدداً من المحذوفات، ثم قال: "ويكثر ذلك في جواب (لو) و(لولا)". وقال المرزوقي: "حذف الجواب أبلغ وأدل على المراد؛ بدليل أن السيد إذا قال لعبده: لئن قمتُ إليك، ثم سكتَ، تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضَرْب من العذاب". وقال ابن عاشور: "وحذف جواب (لو) كثير في القرآن"، وقال أخرى: "حذف جواب (لو)...نظائره كثيرة في القرآن".

الغرض من حذف جواب (لو)

يذكر المفسرون أن حذف جواب (لو) في القرآن يأتي لأغراض، وقد عبر عن هذه الأغراض الزركشي بقوله: "والسر في حذفه...أنها لما ربطت إحدى الجملتين بالأخرى حتى صارا جملة واحدة، أوجب ذلك لها فضلاً وطولاً؛ فخفف بالحذف، خصوصاً مع الدلالة على ذلك. قالوا: وحذف الجواب يقع في مواقع التفخيم والتعظيم، ويجوز حذفه لعلم المخاطب؛ وإنما يحذف لقصد المبالغة؛ لأن السامع مع أقصى تخيله، يذهب منه الذهن كل مذهب، ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به، فلا يكون له ذلك الوقع، ومن ثم لا يحسن تقدير الجواب مخصوصاً إلا بعد العلم بالسياق".

وعبارات المفسرين الدالة على الغرض من حذف جواب (لو) كثيرة، نذكر منها قولهم: "وسوغ الحذف طول الكلام بالمعطوف؛ والطول داع للحذف". وقولهم: "حذف جواب (لو) كما هو الشأن في مقام التّهويل". وقولهم: "حذف جواب (لو) اكتفاء بدلالة المقام عليه". وقولهم: "وجواب (لو) محذوف؛ لقصد التفخيم، وتهويل الأمر؛ لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن". وقولهم: "حذف جواب (لو) يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم، وهول موقفهم بين يدي ربهم". وقولهم: "حذف جواب (لو) يجعل النفوس تذهب في تقديره كل مذهب مُمكن". وقولهم: "حذف جواب (لو) مبالغة؛ لأنك تدع السامع يسمو به تخيله، ولو شرحت له، لوطنت نفسه إلى ما شرحت". وقولهم: "حذف جواب (لو) إيجازاً؛ لدلالة الكلام عليه". وقولهم: "حذف جواب (لو)؛ لأنه أفخم؛ لذهاب المتوعد إلى كل ضَرْب من الوعيد".

ويتحصل من عباراتهم في هذا الصدد، أن حذف جواب (لو)، إنما يكون لقصد التهويل، أو التعظيم، أو الإيجاز، أو دلالة الكلام عليه، أو نحو ذلك من الأغراض.

نماذج من حذف جواب (لو) في القرآن

نذكر تالياً عدداً من الآيات القرآنية التي حُذف جواب (لو) منها، ونذكر ما قدره المفسرون لها من التقديرات المحذوفة.

قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا} (البقرة:165)، قالوا: التقدير: لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله، - و{يرى} هنا بمعنى يعلم - ليتبينوا ضرر اتخاذهم آلهة من دون الله.

قوله سبحانه: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} (الأنفال:50)، قالوا: تقديره في هذا الموضع ونحوه: لرأيت عجباً، أو أمراً عظيماً، أو لرأيت سوء منقلبهم، أو لرأيت سوء حالهم.

قوله سبحانه: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} (الرعد:31)، قالوا: التقدير: لما آمنوا به، أي، بالقرآن. وقال بعضهم: التقدير: لكان هذا القرآن. نقل النووي التقدير الأخير عن أكثر المفسرين، ورده الزركشي، ونصر التقدير الأول.

قوله عز وجل: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} (لقمان:27)، قالوا: التقدير: لنفدت هذه الأشياء، وما نفدت كلمات الله. ويحتمل أن يكون {ما نفدت} هو الجواب؛ مبالغة في نفي النفاد.

قوله تعالى: {ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة:96)، قالوا: أي: يود أحدهم طول العمر لو يعمر ألف سنة؛ ليُسرَّ بذلك.
قوله سبحانه: {كلا لو تعلمون علم اليقين} (التكاثر:5)، قالوا: لو تعلمون علم اليقين، لتبيَّن لكم حال مفظع عظيم.

قوله عز وجل: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار} (الأنبياء:39)، قالوا: تقديره: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه، وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من أمامهم ومن خلفهم، ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم، ولا يجدون ناصراً ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به، هو الذي هونه عليهم.

قوله تعالى: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} (هود:80)، قالوا: التقدير: لو أن لي بكم قوة لدفعتكم، أو منعتكم، أو ما أشبهه.

قوله سبحانه: {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} (القصص:64)، أي: يهتدون في الدنيا، لما رأوا العذاب في الآخرة، أو لما اتبعوهم.

بقي أن نقول: إن (لو) نفسها قد تحذف، ومثال حذفها، قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق} (المؤمنون:91)، قالوا: تقدير ذلك: إذن لو كان معه آلهة، لذهب كل إله بما خلق. وكذلك ورد قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (العنكبوت:48)، قالوا: تقديره: إذن لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون. قالوا: وهذا من أحسن المحذوفات.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة