الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأسرى في السيرة النبوية

الأسرى في السيرة النبوية

الأسرى في السيرة النبوية

لم تعرف البشرية محاربا وفاتحا أرحم بمحاربيه ومن يقع في يديه من الأسرى من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ففي الوقت الذي كانت فيه الجاهلية لا تعرف أخلاقيات للحروب ولا حقوق للأسرى ، وتستباح الحرمات والأعراض ، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع للعالمين تصورًا سامياً لحقوق الأسرى ، ورغم أنَّ هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام ، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالإحسان إليهم ، وقرَّر لهم واجبات وحقوقاً على المسلمين ، منها : الحرية الدينية ، والحق في الطعام ، والكسوة ، والمعاملة الحسنة ، وكلُّ ذلك له شواهد في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وقبل أن نذكر بعضا من مواقفه - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى نذكر طرفا من هديه ووصاياه المتعلقة بما قبل الحرب وأثناءها ، لنرى أروع القيم الحضارية من سيرة خير البشرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

هديه قبل القتال :

لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر إلى أعدائه نظرة لا تفرق بين معاهد ومحارب ، ولم يكن ينقض العهود أو يغدر بأعدائه ، بل كان يعامل كل فريق بمقتضى ما يربط بينهما من علاقات السلم والحرب ، وقد لخص ابن القيم مُجْمل هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك في كتابه زاد المعاد فقال : " .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذِّمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوَّفَّي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إلى عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة " براءة " نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان .." ..

هديه أثناء القتال :

رغم كون القتال عملية تزهق فيها الأرواح وتجرح الأبدان ، ويقصد فيها إلحاق أنواع الأذى بالأعداء ، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع لأمته آدابا يتحلون بها قبل الحرب وأثناءها وبعدها .. فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا و لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم .

فإذا وضعت الحرب أوزارها ، ووقع المقاتلون من الكفار أسرى في أيدي المسلمين ، راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاني الرحمة والكرامة الإنسانية التي تراعي مصلحة الدولة المسلمة وحقوق الأسرى ، والتي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( استوصوا بالأُسَارَى خيرا ) رواه الطبراني .
يقول ابن القيم في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأسرى : " .. كان يَمُنّ على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء) ، ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسارى المسلمين ، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة .. " ..

وهذه بعض مواقفه - صلى الله عليه وسلم مع الأسرى من خلال سيرته المشرفة :

أسرى بدر :

أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بعد معركة بدر بمعاملة أسرى المشركين معاملة حسنة ، وقال لهم : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني ، وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }(الإنسان:8) ، فقد امتثل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضربوا أروع الأمثلة في معاملة الأسرى ..
يقول أخٌ لمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ : " .. وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر، لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه الطبراني .
ويقول أبو العاص بن الربيع : " كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً ، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل ، والتمر زادهم ، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليّ " ،
وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قوله : " وكانوا يحملوننا ويمشون " ..
وعاد أولئك الأسرى إلى مكة وكل حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، وعن محبته وسماحته ، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى ، والإصلاح والخير ..
وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوب هؤلاء الأسرى ، فأسلم كثير منهم في أوقاتٍ لاحقة ، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر بعد وصول الأسرى إلى المدينة ، وأسلم معه السائب بن عبيد ..

أسرى غزوة بني المصطلق :

كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث بن ضرار سيد قومه ، وكانت بركة على قومها ، فقد ذكرت ـ أم المؤمنين ـ عائشة : ( أن جويرية أتت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له : قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ،فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابي .. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فهل لك في خير من ذلك ؟! ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ ، قال : أقض عنك كتابك وأتزوجك ، قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت .. قالت عائشة : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق .. فلقد أعتق تزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ) رواه أحمد .. ومن ثم تعتبر غزوة بني المصطلق (المريسيع) من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها ، وكان زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجويرية ـ رضي الله عنها ـ السبب في ذلك ، إذ استكثر الصحابة على أنفسهم ، أن يكون أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت أيديهم أسرى ، فأعتقوهم جميعا بغير فداء ..

أسرى بني قريظة :

كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب حيث تم فيها محاسبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الظروف وأقساها ، وتآمروا مع كفار قريش على المسلمين ..
بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووضعه السلاح أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتوجه إليهم .. وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمسا وعشرين ليلة ، ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة ، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يُحَّكِّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ إذ رأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس ، فجئ بسعد محمولا لأصابته بسهم في ذراعه يوم الخندق ، فقضى أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية ، وأن تقسم أموالهم ، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( قضيت بحكم الله ) رواه البخاري .
وهذا جزاء عادل نزل بمن غدر بالمسلمين ، فكان جزاؤهم من جنس عملهم حين عرَّضُوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل ، وأموالهم للنهب ، ونساءهم وذراريهم للسبي ، فكان أن عوقبوا بذلك جزاء وفاقا ..

فتح مكة :

من أهم الدلالات التي أفصح عنها فتح مكة موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهلها الذين ناصبوه العداء منذ أن بدأ بتبليغ دعوته ، فبعد أن أكرمه الله ونصره عليهم ، وتمكن منهم ، وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه ، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر ، بل وتآمروا عليه بالقتل ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم وديارهم ، وأجلوهم عن بلادهم ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك الإساءات بموقف كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ ، فقال لهم : ( ما ترون أني فاعل بكم ؟! ، قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .

غزوة حنين :

كان انتصار المسلمين على هوازن في حنين انتصارا كبيرا ، وكانت الغنائم كثيرة ، كما أسروا عدداً ضخماً من المشركين معظمهم من نساء هوازن وأطفالها ، وعندما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء وفد هوازن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا : يارسول الله إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك ..
وسرعان ما لبَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلب بما عُرِف عنه من تسامح وعفو وكرم ، وأطلق سراح كل الأسرى ، فلقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينشد في ذروة انتصاره أن يدخل الناس في دين الله ، أكثر من نشدانه عقابهم أو الانتقام منهم ..
وبهذه الرحمة والسياسة الحكيمة استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام ، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ..

الحرية الدينيَّة للأسير :

من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حقُّ الطعام والكسوة ، فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب حتى يهلك ، وقد عنون البخاري في صحيحه بابًا أسماه : " باب الكسوة للأسارى " ..
بل من حقوق الأسير حقُّه في ممارسة شعائر دينه خلال مدَّة أسره ، فلا يُجْبَرُ الأسير على اعتناق الإسلام ، ولم يُعْرَف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أجبر أسيرًا على اعتناق الإسلام ، ومن ثم لما رأى بعض الأسرى تلك المعاملة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام ، وكان ذلك بعد إطلاق سراحهم ، كما فعل ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ـ رضي الله عنه ـ ، فبعد أن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإطلاق سراحه , ذهب ليغتسل ويُسْلِمَ ، وكذلك فعل الوليد بن أبي الوليد بعد أن افتداه أهله من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلم ، فقيل له : لماذا أسلمت بعد الفداء ؟ ، فقال : حتى لا يظنَّ أحد أنما أسلمتُ من عَجْزِ الأسر ..
ومن ذلك أيضًا ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع غَوْرَثِ بْنِ الحارث الذي استلَّ سيف النبي من الشجرة ، وقال له : من يمنعك مني ؟ ، وعندما وقع السيف من الرجل وأصبح في يد رسول الله ، لم يجبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدخول في الإسلام ، بل عفا عنه وتركه حرًّا طليقًا ، فأسلم بعد ذلك ..

إن معاملة الأسرى تختلف من عصر إلى آخر ، ومن شريعة إلى أخرى ، فبعض الأمم كانت تفتك بالأسرى لإرهاب عدوها ، ولم تعرف الأمم قانونًا لمعاملة الأسرى قبل الإسلام ، وقد راعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاني الرحمة والكرامة الإنسانية مع الأسرى من أعدائه ، تلكم الرحمة التي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصيته العامة والشاملة لكل إحسان وخير بالأسرى : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة