الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شواهد الإتقان في منهج القرآن

شواهد الإتقان في منهج القرآن

شواهد الإتقان في منهج القرآن

يعقد الإسلام وشائج قربى بين الإنسان والكون إذ تصور آيات القرآن الكريم طبيعة الوجود والحياة تصويرا يثير الحواس ويخاطب الوجدان، بل تدعو الإنسان للتأمل في آيات الله الكونية والسياحة في جوانبها، إذ تعتبر تلك الآيات من الدلائل الكبرى والشواهد العظمى على بديع صنع الخالق تبارك وتعالى، يقول القرآن الكريم مزكيا هذا المعنى: {أولم يروا كيف يُبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله يُنشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير}.

إن صفحات القرآن المقروء هي في الحقيقة وجه آخر لصفحات الكون المنظور، وآيات الله المتلوة هي تفصيل لآيات الله المعروضة في جنبات الأرض والطبيعة: {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}.

إن فهم هذه الوحدة الكونية يقتضي متابعة عميقة لآيات الكتاب الواصفة لأرجاء الوجود حيث يدرك المرء حقائق الأشياء دون التجاء إلى عالم الحس، فما ينطبق على الذات ينطبق على الحياة، من حيث صدور كل منهما عن قانون إلهي واحد عبر عنه القرآن بقوله: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم}.
إن صفة هذا التلون البديع في الخلق لا تميز بين الذوات فكلها مظاهر واحدة رغم اختلاف الطبائع والوظائف لسنن الحق تبارك وتعالى.

إن الوجود كله يتسم حسب النظرة القرآنية بإحكام المقاصد والغايات، فهو في الاعتبار الأول لم يخلق عبثا وإنما يخضع لنظام عميق ودقيق يجعله مجالا للحياة أولا ثم للنظر والتفكير، ووجود الإنسان نفسه باعتباره عنصرا من هذا الكون لا يخرج أيضا عن دائرة القصد والانتفاع، ذلك أن الحركة وهي المقوم الدافع لكل نشاط وفعل تجعل من إحكام العلاقات بين الإنسان والوجود سبيلا غريزيا لمقاومة الانتحار الكوني ومواصلة الحياة؛ قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.

ولهذه الأسباب وغيرها يعلي الإسلام من شأن الفكر والعمل تأهيلا للإنسان كي يشرف على جوانب الحياة كلها ويهيمن عليها: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم نم الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.

إن أحد وجوه الروعة في القرآن أنه يقيم دلائل الإعجاز في مزج محكم بينه وبين الحياة: حياة الطبيعة الزاخرة الموحية ببدائع القدرة والجلال، وعظمة الكتاب الشامل الموحي بأنوار الهداية والكمال من خلال آيتين تربط بينهما روابط التجانس والإحكام، تقول الآية الأولى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}.. وتقول الآية الثانية: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}.
هناك تطابق كلي بين مظهر التحدي والإعجاز في الآية الأولى القائمة على تفرد الخلق والتدبير، وين الآية الثانية القائمة على التبكيت الإقراري، ويظهره في آن واحد ينبغي أن تلتمس له النظائر في عالم الحس المشهود، وهي إحدى طرائقه المهمة في الاستدلال على حقيقة الألوهية.

صور الشمول والواقعية في المنهج القرآني:
إن تشريف ذرية آدم على جميع المخلوقات – بنعم الإمداد بالنطق والعقل والعلم، وتسخير جميع ما في الكون لصالحهم – دلالة لها أهميتها القصوى في الفكر الإسلامي.

إن تأهيل هذا الإنسان للهيمنة على جميع عناصر الكون إنما هو في آخر الأمر مرتبة ومرحلة وجودية رائدة لإسعاده وتقوية روحه حتى يفوز بمرحلة الشهود الأرقى يوم القيامة.

إن استعراض آيات القرآن الكريم يكشف أيضا أن جميع المواصفات التي يقدمها القرآن عن عناصر الكون والطبيعة تستجيب للواقع الإنساني والطبيعي إلى أبعد الحدود، وعلى سبيل المثال فإنه حين يعرض لمناقشة مسألة الوحدانية ينطلق دائما من المشهد المحسوس الغني بالحركة والحياة ليقيم من خلاله محاكمة عقلية تنتهي بالتبكيت والتسليم.

انظر مثلا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

إن معالم الروعة في هذا الخطاب القرآني، تبدو جلية في الجمع الدقيق بين ما هو حسي ومعنوي برباط أخاذ يجمع بدوره وحدة الدنيوي والأخروي محققا نزعة التكامل بين روابط المادة والروح تصديقا لشمولية الإسلام وتمشيا مع قوله تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}.

إن آيات القرآن الكريم تفسرها الشواهد والتجربة المتنوعة، والأمر الذي لا يمكن أن يحصل أو يتصور أبدا هو إمكان قيام تعارض بين آيات القرآن وآيات الكون، فحقائق العلم المكتشفة يوما بعد يوم إنما تسير حتما على خطى حقائق الدين والوحي، تصديقا لقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.

إن القرآن الكريم يقدم نفسه على أنه إعجاز كامل على سبيل البرهنة وإثبات الحق المبين، لا لمجرد الادعاء، فهو يسعى دوما إلى كشف ووصف الأغراض المؤدية للحقيقة، يقول تعالى ممثلا هذا المنزع: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}.

إن اللطف الإلهي وطبيعة الإنسان يقتضيان حصول التفاعل بين الأرض والسماء لضمان وحماية حياة الإنسان فوق الأرض، وحتى مهمة الرسل جميعا لا تعدو إرجاع الأمور وهدايتها إلى حقيقتها عبر نضال طويل:
لقد حدث أن كسفت الشمس عند موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع الرسول الناس يقولون: إنها كسفت لموت إبراهيم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن جمع الناس بالمسجد وخطبهم قائلا: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" البخاري.

إن مسيرة التاريخ نفسها خاضعة لقوانين عامة، يسميها القرآن السنن، وإن التأمل فيها يفضي إلى اكتشاف قوانين ثابتة؛ ومعنى ذلك أن التاريخ هو ميدان التجارب المنتهية إلى الكشف عن حقائق علمية ذات صلة بتفسير بقاء الأمم وانهيارها، وسر خلودها واستمرارها، وانطلاق من هذا المبدأ يتجه القرآن إلى إثبات أهمية العامل الأخلاقي في نشوء الحضارات وانهيارها، بل يشير صراحة إلى ذلك الترابط الفعال بين العوامل الأخلاقية والحركة التاريخية، {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين}.

ومن ناحية أخرى يرشد القرآن الكريم أتباعه إلى ضرورة الاستفادة من منهج الأسباب وخاصة ما يتعلق منها بحوادث التاريخ وتجارب الأمم، لأن ملاحظة التجارب الإنسانية تفضي إلى استخلاص الدروس والعبر، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.

ومن المشاهد المعتبرة التي كثيرا ما تتردد آياتها لافتة الأنظار إلى ضرورة الاستفادة والاحتكام إلى منهج الأسباب مشهد تعذيب الكافرين الذي يعتبره القرآن خاضعا لمنطق السببية إذ يقول: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}
إن الفتن والمصاعب التي تصيب الأمم والمجتمعات هي أيضا {بما كسبت أيدي الناس}.

وأكثر من ذلك فإن نصوص القرآن الكريم جعلت موضوع الصراع مع الجاهلية وهو موضوع خطير يتوقف عليه مصير الإسلام نفسه، جعلته خاضعا بالكلية إلى منطق الأسباب والتقدير، ففي معركة أحد الخالدة لم يشفع الإيمان وحده دون الأخذ بسلطان السبب ومعايير الهزيمة والنصر في رد كيد المشركين بل كانت المعركة محلا للابتلاء والتمحيص.

إن التعامل الصحيح مع القرآن ينبغي أن يكون مستمدا من التفاعل المباشر مع الوحدة الموضوعية للخطاب القرآني الذي يربط بين البلاغ التوجيهي لحركات البشر في الكون وبين سير حركة الطبيعة المقنن؛ وما لم يحصل بينهما التوحد فإن النتيجة المحتومة هي التجزئة والتشتت، ولقد تفطن الفيلسوف المسلم –محمد إقبال- رحمه الله إلى هذه الحقيقة فقد ذكر أن والده كثيرا ما كان يردد على مسامعه هذه القاعدة الثمينة: "يا بني اقرأ القرآن وكأنه يتنزل عليك".

إن هذا الفهم العميق لغايات القرآن هو نوع من التفاعل المباشر مع المطلوب القرآني الذي يدعو أتباعه إلى ضرورة الوعي التاريخي واستخلاص العبر وإصلاح النفس على مقتضى أمر الله؛ وهذه الأصول تعتبر الدستور الكامل للحياة الإسلامية وإمداداتها فضلا عن تعميق الطابع المعرفي العام الذي يسيطر على روح القرآن التي تجمع بين أصالة مراقبة الواقع وتوجيهه، وربطه مع حقائق الكون الخالدة دون نفور أو تعارض تصديقا وتمشيا مع قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد بدر الدين حسن

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة