الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الانسلاخ من آيات الله

الانسلاخ من آيات الله

الانسلاخ من آيات الله

من النعم العظيمة التي يمن الله تعالى بها على عبد من عباده أن يؤتيه آياته التي هي بيناته وحججه وأعلامه فيهديه الله بها لأقوم السبيل ويلزمه بها في سيره إليه، ويمكنه بها من دعوة غيره إلى الحق ويهديه إلى الله بإذنه، وفي المقابل فإن من أعظم العقوبات التي يبتلى بها العبد الانسلاخ من آيات الله التي هي حصنه وملاذه حيث يحتمي فيها كما يحتمي الإنسان في جلده، فإذا انسلخ منها كما ينسلخ الإنسان من جلده تناوشته الأدواء من كل حدب وصوب.

وآيات الله حصن حصين للعبد يتحصن بها من تسلط الشياطين عليه، فإذا ابتعد عنها وانسلخ منها أقبلت عليه الشياطين تؤزه أزا حتى تخرجه من رحمة الله وتلزمه متابعة سيرها، وهذا أكثر ما يكون الخذلان.

لقد كان من أمر الله تعالى لرسوله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وأن يتلو على الناس ما أوحاه إليه: {اتل ما أوحي إليك من ربك}.. ومع هذا الأمر العام فإن هناك أمرا خاصا بتلاوة بعض الأمور مع أنها داخلة في الأمر العام وذلك تأكيدا على أهميتها وحاجة العباد إلى الاستفادة مما جاء فيها؛ ومن ثم أمر الله رسوله بتلاوة نبأ من آتاه الله آياته ثم انسلخ منها حتى يعلم الناس خبره ويتعظوا مما صار إليه فقال الله تعالى في كتابه لرسوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

فبينت الآيات أن هناك صنفاً من الناس قد يؤتيه الله ـ فضلاً منه وكرماً ـ آياته ثم هو بعد هذا العطاء العظيم الذي يستوجب مزيد الحمد والشكر إذا به ينسلخ منها.. فإذا بحثنا عما أورده هذا المورد وجدنا الإخلاد إلى الأرض والانحطاط إليها وملازمتها واتباع الهوى هو الحامل له على ذلك.

وقد بينت الآيات أن الإنسان ما أن يبتعد عن آيات الله وحججه وبيانه حتى يكون الشيطان في ركابه يتبعه ليسد عليه طريق العودة إلى الله تعالى والتوبة مما هو فيه أو أقدم عليه، اتبعه الشيطان أي أدركه ولحق به فاستحوذ عليه وغلبه على أمره.

ولو شاء الله تعالى لرفعه بهذه الآيات، لكن هذا الانسان أخلد إلى الأرض إشارة إلى الرضا بالسفل دون العلو فركن إليها ورضي بها.

{واتبع هواه} أي: اتبع ما يهواه ومال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره وآثرها على الآخرة وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله، فكان في عدم انتفاعه بما عنده من العلم مثل الكلب الذي لا يغير من وضعه اللاهث سواء حمل عليه الناس أو تركوه.

ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معقبا على هذه القصة: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}.

وفي هذه القصة التي سيقت للعبرة والاتعاظ ما يبين أن العالم الذي بلغ في العلم مداه أنه قد ينحرف ويبتعد عن هدايات الله تعالى؛ وهو ما يعني أن المسلم لا يسلم قياده لأحد، ويعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء؛ فيدعوه ذلك إلى عدم الانسياق بغير بصيرة خلف من يعظمه من أهل العلم والصلاح، ويكون دائم اللجوء إلى الله ويلح عليه في الدعاء أن يثبت قلبه على دينه.

وفي قول الله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها} دليل على أن العلم وحده من غير عمل بما دل عليه لا يكفي في رفع منزلة العالم حتى يعمل بما علم.

وفيها أن من معه الحجج والبينات قد لا ينتفع بها؛ لأن الإنسان مهما أوتي من العلم ومهما عمل من الصالحات فإنه مفتقر دوما إلى عون الله وتوفيقه وتسديده وتثبيته.

ومنها أن الإنسان لا يغتر بعلمه وعمله، ويكون على حذر من الانتكاس أو الرجوع والعودة إلى ما كان غادره .

والمنسلخ من آيات الله قد تسول له نفسه صواب فعلته، وتسول له من الشبه ما تزين به سوء تصرفه.

الانسلاخ الكلي والجزئي:
والانسلاخ كما قد يكون انسلاخاً كلياً، كما في حالة الردة الكاملة، قد يكون انسلاخاً جزئياً فينسلخ عن بعض آيات الله ويحافظ على البقية.. وهنا تعظم الفتنة على المنسلخ من بعض الآيات؛ حيث يظن أنه ما زال قائما بالدين، كما تعظم الفتنة على من يعظمونه ويتابعونه؛ لأن إبقاءه على التمسك ببعض الآيات يجعلهم لا يتصورون تخليه أو انسلاخه عن البعض الذي انسلخ منه ويذهبون في تأويل انسلاخه مذاهب شتى فيجعلونها حكمة أحيانا ويجعلونها من قبيل حسن التصرف في تفويت الفرصة على الأعداء حينا آخر وهكذا.

ومرض الانسلاخ ليس خاصا بزمن أو جنس أو ملة، وإنما هو داء يصيب النفوس ويتكرر، وهذا لعله مما يبين لماذا لم تحدد نصوص الكتاب أو السنة المعلومات الخاصة بذلك المنسلخ من آيات الله؛ إذ المراد العظة والعبرة التي تضمنتها القصة دون اسم الرجل وبلده وقبيلته.

ولو فتشنا في التاريخ القديم والحديث لوجدنا نماذج كثيرة من الانسلاخ: بعضها انسلاخ كلي، وبعضها انسلاخ جزئي.

اللهم ثبتنا على دينك ونعوذ بك من الانسلاخ من آياتك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد شاكر الشريف (مجلة البيان )

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد