الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الآخر وفق المنظور القرآني

الآخر وفق المنظور القرآني

الآخر وفق المنظور القرآني

تقوم الرؤية الغربية على أن الرجل الغربي هو مركز الحضارة ومنبعها، وأن الحضارة إنما قامت على أكتافه، وتكللت بجهوده، ومن ثم أطلقوا على دولهم (دول المركز)، ونظروا إلى غيرهم من الشعوب نظرة دونية، ونعتوها بأنها شعوب غير متحضرة، وأن مساهمتها في البناء الحضاري لم يكن شيئاً مذكوراً، وأطلقوا على دول تلك الشعوب (دول الأطراف).

وبالمقابل، فقد كانت رؤية القرآن للآخر مختلفة تمام الاختلاف عن الرؤية الغربية، ومفارقة لها كل المفارقة؛ إذ جاءت تلك الرؤية كونية، تبني العلاقات بين الشعوب والأمم على أساس التعارف والتقوى والأسوة الحسنة، وكُرْه العصبية والشعوبية المتمركزة حول الذات، وكُرْه الآخر. وجاءت الآيات القرآنية تخاطب الأديان، والأمم والحضارات الأخرى انطلاقاً من مبدأ الحوار المثمر، والدعوة لاتباع السنن الكونية الإيجابية والبناءة والعقلانية.

جاء القرآن الكريم كتاباً للناس كافة، في كل زمان ومكان، لم يفرق بينهم لا على أساس عرقي، ولا على أساس طائفي، ولا على أساس مذهبي، وإنما جعل ميزان التفاضل بين الناس هو تقوى الله، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13)، فتقوى الله هي الميزان الحق، وفيصل التفرقة بين الأكرمين عند الله، وغير الأكرمين. ومن ثم فقد رفض الخطاب القرآني فكرة التمركز على العِرْق.

النظرة القرآنية للإنسان

يعدُّ توحيد الله سبحانه وتعالى -وفق المنظور القرآني- الناظم الأعلى الذي يشكل الرؤية الكلية للوجود، واقعاً، وزمناً، ومكاناً، ومصيراً، ما يدفع إلى وضوح المغايرة الكاملة للخالق عن المخلوق، وتأكيد مقدرة الإنسان على التعرف دوره في الحياة بالقدر اللازم لخلافته في الأرض، قال تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة:30).

وتقوم النظرة القرآنية للإنسان على أساس التكريم والعهد المأخوذ من بني آدم منذ الأزل؛ فالقرآن الكريم كرم الإنسان لمجرد كونه إنساناً، فضله سبحانه على غيره من المخلوقات، فهو السيد عليها، وهي خاضعة له، وهو المقدم فوقها، وهي تبع له، يقول تعالى في هذا الصدد: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء:70)، وهذا التكريم الإلهي للإنسان قائم على أساس وصف الإنسانية التي ميز الله بها الإنسان على غيره من مخلوقاته، حيث امتاز بصفة العقل والإرادة والحرية دون غيره من المخلوقات.

بيد أنه سبحانه أراد من هذا الإنسان المكرم والمفضل أن يكون طوع إرادته، وخاضعاً لحكمه، وممتثلاً لأمره، ومن ثم أخذ منه منذ الأزل الميثاق على الالتزام بهذا العهد، قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف:172). قال أهل التفسير: "إنه سبحانه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك، وجبلهم عليه، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم:30).

دعوة المسلم إلى تقبل الآخر

ومع هذا التكريم الإلهي، وهذا الميثاق المعهود، فإن كثيراً من الناس لم يلتزم بهذا العهد، وخالف الميثاق الذي أخذه سبحانه من بني آدم، وانحرف عن الطريق الذي أرشدهم إليه سبحانه، ومن ثم أرسل سبحانه رسله مبشرين ومنذرين؛ مبشرين للذين التزموا الميثاق، ومضوا في الطريق المستقيم، لا يلوون على أحد، وإنما وِجْهَتُهم رضا الله سبحانه والوصول إلى الفوز برضوانه. ومنذرين للذين تنكبوا سواء السبيل، فدخلوا في جهالة جهلاء، لا يدرون ماذا يفعلون، وللذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فكانوا في عماية عمياء، لا يعلمون إلى أين يمضون.

وعلى الرغم من كل ذلك، فقد بقي موقف القرآن الكريم من هؤلاء الناقضين للعهد، والمخالفين للميثاق، موقف الداعي إلى العودة إلى جادة الصواب، والهادي إلى تصحيح المسار، فطريق العودة سالك ومضمون، وباب التوبة مفتوح ومأمون، فجاء الخطاب القرآني داعياً إلى العودة إلى طريق الرشاد: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} (الزمر:53-55).

وقد وجه القرآن المؤمن إلى طريقة التعامل مع الآخر، ودعوته إلى الإسلام بالحسنى، وعدم الوقوف منه موقف العنف والشدة بإطلاق ، بل موقف المشفق الرحيم، الذي يتمنى لغيره الخير والإيمان لينجو يوم الحساب من عذاب أليم، وقد جاءت في هذا المعنى العديد من الآيات التي تؤكد على معاملته بالقسط والحسنى ، وفتح باب الحوار معه يقول تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125)، ويقول سبحانه أيضاً: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت:46).

من جهة أخرى، فقد خاطب القرآن الآخر خطاب العقل والقلب، داعياً إياه إلى قبول الحق، والتزام كلمة السواء، قال عز وجل مقرراً هذا المسلك: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران:64).

الآخروفق الخطاب القرآني

خاطب القرآن الكريم الآخر خطاباً يجمع بين العقل والعاطفة، فلا هو بالخطاب العقلي المحض الجاف، الذي لا يراعي الجوانب العاطفية في النفس البشرية، ولا هو كذلك بالخطاب العاطفي الخالص، الذي لا نصيب للعقل فيه، بل جمع القرآن الكريم بين الأمرين معاً، وراعى في خطابه جانبي النفس البشرية، نلمح ذلك في العديد من الآيات الدالة على هذا التوجيه، من ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة:21)، وقال عز من قائل: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} (النساء:1). وقال عز وجل: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض} (النساء:170)، وقال سبحانه: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} (النساء:174-175). وقال تعالى: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (الأعراف:158). والآيات الدائرة في فلك هذا المعنى كثيرة.

وقد أكد الخطاب القرآني في العديد من الآيات على مبدأ التعايش مع الآخر، وحفظ حقوقه وعدم انتقاصها .

فالآخر -وفق المنظور القرآني- ينبغي أن يعامل بالعدل، فلا يُظلم فيما له من حقوق، يقول سبحانه في هذا المعنى مخاطباً عباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة:8)، فالنظر القرآني يأمر بالعدل حتى مع المخالف، ويعتبر العدل أقرب لحصول التقوى، التي هي طريق النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق:2-3)، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} (الطلاق:4)، {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} (الطلاق:5).
والآخر -وفق المنظور القرآني- لا ينبغي الاعتداء على حريته في الاختيار، بل ولا ينبغي إكراهه على الإسلام؛ لأنه {لا إكراه في الدين} (البقرة:256)؛ لأن دين الإسلام لا يقوم على الإكراه والإجبار.

كما أن الاعتداء على أموال الآخر وممتلكاته -وفق المنظور القرآني- مرفوض، وغير مسوَّغ؛ لأن هذا المسلك ليس من الخطاب القرآني في شي، بل الخطاب القرآني يرشد المسلم إلى عكس هذا المسلك، ويطلب منه عدم الاعتداء على الآخر، يقول سبحانه: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة:190).

بيان القرآن أن ما عليه الآخر ليس بشيء

ومع اعتراف القرآن الكريم بالآخر، ودعوته إلى كلمة السواء، إلا أنه أيضاً بيَّن أن ما عليه الآخر من انحراف في الفكر، وضلال في السلوك، وتخبطٍ في المنهج، لا يعدل في ميزان الله شيئاً، بل هو كلا شيء؛ لأن المعتبر في ميزان الله ما وافق شرعه، واتبع هديه، ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله عز من قائل: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} (المائدة:68)، ونظير هذا قوله سبحانه: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام:159). ونظيره أيضاً قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء} (المجادلة:18). وعليه إن الخطاب القرآني مع اعترافه بالآخر، ودعوته إلى الحوار البناء، والتعامل معه بما يخدم سُنَّة الاستخلاف في الأرض، إلا أنه في الوقت نفسه، بين أن ما عليه الآخر ليس من الحق في شيء، بل هو إلى الضلال أقرب، ومن ثم فلا ينبغي الاغترار به، ولا التعويل عليه.

أخيراً، فإذا كانت الرؤية الغربية قد قلَّصت بذرة الحرية والمساواة مع الآخر، فإن الرؤية القرآنية قد فتحت الباب مع الآخر، ودعت إلى الحوار معه، بقصد الوصول إلى كلمة السواء، التي هي كلمة الحق. وقد أثبت التاريخ والواقع إفلاس الرؤية الغربية في تنظيم العلاقة بين الأنا والآخر، الأمر الذي يستدعي البديل القرآني، الذي يقدم رؤية مغايرة تماماً عن الرؤية الغربية تقوم على الحوار مع الآخر، والاعتراف به كإنسان مكرم، له حقه في الحياة الكريمة، وحريته في الاعتقاد والشعائر ، إنها الرؤية القرآنية، التي تستدعي نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى من أجل التحول عن البديل الأوربي المهيمن إلى البديل القرآني المأمول. {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} (الأحزاب:4).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة