الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم

ذكر المفسرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه قوم من عظماء أهل الشرك، فرأوه جالساً مع بعض صحابته، من بينهم: خَبَّاب، وصهيب، وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه، إذا حضروا. قالوا: فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} (الأنعام:52). ثم كاد يقوم، ويتركهم قعوداً، فأنزل الله عليه: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} (الكهف:28). ولنا مع هذه الآية الأخيرة الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: قوله عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}. هذا أمر منه سبحانه لنبيه بملازمة ضعاف المسلمين، بقوله: {واصبر نفسك }، أي: احبسها معهم حبس ملازمة. قال السعدي: "في قوله: {واصبر نفسك} أَمْرٌ بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم، وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى...و(الصبر) المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام".

وقد ذكر المفسرون في (الدعاء) = {يدعون} الذي كان هؤلاء الرهط، الذين يدعون ربهم به أقوالاً: فقال بعضهم: هو الصلوات الخمس. وقال آخرون: هو شهود الصلوات المكتوبة. وقال آخرون: ذكرهم الله تعالى ذكره. وقال آخرون: كان ذلك تعلمهم القرآن وقراءته. وقال آخرون: عبادتهم ربهم.

والصواب أن يقال: إن الله سبحانه أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه {مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} و(الدعاء لله)، يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولاً باللسان، وعملاً بالجوارح. وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي؛ لأن الله قد سمى (العبادة) (دعاء)، فقال تعالى ذكره: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر:60). قال الطبري: "ولا قول أولى بذلك بالصحة، من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيُعمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يخصون منها بشيء دون شيء".

الوقفة الثانية: قوله سبحانه: {بالغداة والعشي} ذكروا في المراد منها وجوهاً: الأول: المراد كونهم مواظبين على دعاء ربهم في كل الأوقات، كقول القائل: ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا قراءة القرآن. الثاني: أن المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث: المراد أن (الغداة) هي الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة. و(العشي) هو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من اليقظة إلى النوم، ومن الحياة إلى الموت. والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله، عظيم الشكر لآلاءه ونعمائه.

قال ابن عاشور هنا: "هذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين، الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة، وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية، فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة، وجعلوا همهم الصور الظاهرة".

الوقفة الثالثة: قوله عز وجل: {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}، يخاطب سبحانه نبيه طالباً منه أن لا يصرف عينيه عن هؤلاء الذين أمره أن يصبر نفسه معهم إلى غيرهم من الكفار. قال ابن عباس رضي الله عنه: ولا تجاوزهم إلى غيرهم. يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة، وتتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء، الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك. قال القرطبي: "ولم يُرِدِ النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر:65). وإن كان الله أعاذه من الشرك".

قال ابن عاشور: "وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة، وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية، فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة، وجعلوا همهم الصور الظاهرة. هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تجاه رغائب المشركين، وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم".

الوقفة الرابعة: قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}، ينهى سبحانه نبيه عن طاعة من شُغِلَ قلبه بالكفر، وغلبه الشقاء عليه، واتبع هواه، وتَرَك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه. وبعبارة مختصرة: شُغِل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا. قال الرازي: "لما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين، بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين".

والآية تدل -كما قال الرازي- على أن شر أحوال الإنسان، أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق، ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق؛ ذلك أن ذكر الله نور، وذكر غيره ظلمة...فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله، فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق، وإذا توجه القلب إلى الخلق، فقد حصل فيه الظلم والظلمة، بل الظلمات؛ فلهذا السبب، إذا أعرض القلب عن الحق، وأقبل على الخلق، فهو الظلمة الخالصة التامة، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا}، والإقبال على الخلق، هو المراد بقوله: {واتبع هواه}.

فالآية دالة بالعبارة والإشارة على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماماً للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مرضاة ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما مَنَّ الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يُتبع ويُقتدى به.

الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {وكان أمره فرطا}، للمفسرين أقوال في المراد من قوله سبحانه: {وكان أمره فرطا}، فقال بعضهم: كان أمره ضياعاً. وقال آخرون: كان أمره ندماً. وقال آخرون: هلاكاً. وقال آخرون: خلافاً للحق. واختار الطبري أن أولى الأقوال أن يكون "معناه: ضياعاً وهلاكاً، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطاً: إذا أسرف فيه، وتجاوز قدره، وكذلك قوله: {وكان أمره فرطا} معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سَرَفاً قد تجاوز حده، فضيع بذلك الحق وهلك".

فالآية تنهى عن طاعة واتباع من كانت أعماله وأفعاله سَفَهاً وتفريطاً وضياعاً؛ إذ كيف يكون مَنْ هذه صفته أهلاً للاتباع والاقتداء. قال الرازي: "وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه، وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم، أنهم مقصرون في مهماتهم، معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات، والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة".

والحاصل، أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله، والإعراض عن غير ذكره سبحانه، فقال: {الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه}، ووَصَفَ هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى، والإقبال على غيره تعالى، وهو قوله: {أغفلنا قلبه واتبع هواه} ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك، والمباعدة عن هؤلاء.

وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكت القارئ، فسلم، ثم قال: (ما كنتم تصنعون) قلنا: يا رسول الله! إنه كان قارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل من أمتي مَنْ أُمرت أن أصبر نفسي معهم، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا؛ ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا، فتحلقوا وبرزت وجوههم له، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذاك خمس مائة سنة).

وروي أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم، وجلس بينهم، وقال: (الحمد لله الذي جعل من أمتي مَنْ أُمرت أن أصبر نفسي معه)، وروي أنه قال لهم: (رُحباً بالذي عاتبني فيهم ربي).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة