الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه

إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه

إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه

من الآيات القرآنية المشتبهة الألفاظ مع بعض الاختلاف فيها تقديماً وتأخيراً قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} (البقرة:285)، وقوله سبحانه: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله} (آل عمران:29).

حاصل هاتين الآيتين تعريف العباد بإحاطة علمه سبحانه لأعمال العباد، ما ظهر منها وما بطن على حد سواء، كما قال تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} (الرعد:10)، غير أن الفارق الملاحظ بينهما أنه سبحانه قدَّم (الإبداء) في آية البقرة، وآخَّر (الإخفاء)، وجاء الأمر على عكس ذلك في آية آل عمران، حيث قدَّم (الإخفاء)، وأخَّر (الإبداء)، فهل من سر وراء ذلك؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي عن هذا بما حاصله: إن (إبداء) الشيء، و(إخفاء) خلافه في المعتقدات صفة المنافقين، وبهذا امتازوا عن غيرهم من الكفرة، كما قال تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} (آل عمران:154). وقال سبحانه: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} (البقرة:14)، وهذا كثير في القرآن الكريم، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وتوعدهم على ذلك بأليم العذاب، فقال عز وجل: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} (النساء:138)، وحذر سبحانه المؤمنين من اتخاذهم أولياء، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} (النساء:144)، وقال أيضاً: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (الممتحنة:1)، إلى غير هذا من الآيات. فلما تقرر هذا النهي وتكرر، وقد تقدم في آيةَ آل عمران قولُه ناهياً وزاجراً: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} (آل عمران:28)، وحذر تعالى من ذلك أشد التحذير إلا عند التقية، فقال: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (آل عمران:28)، ثم أتبع تعالى ذلك بتأكيد التحذير، فقال: {ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} (آل عمران:28)، فلما نهاهم عما اتصف به المنافقون، كان آكد شيء وأهمه إعلامهم بأنه سبحانه يعلم ما (يخفون) كعلمه ما (يبدون)؛ لبناء المنافقين كفرهم على ما جهلوه من علمه سبحانه بخفايا ضمائرهم، وإلحادهم في ذلك، جهلاً بما يجب لله سبحانه، وتكذيباً لرسوله، مع أنه سبحانه قد قال: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} (التوبة:78). فهذا وجه تقديم (الإخفاء) في آية آل عمران على (الإبداء).

ثم إن ابن الزبير بعد أن ذكر هذا التوجيه في تقديم (الإخفاء) على (الإبداء)، قرر أنه جار في الآيات التي سيقت هذا المساق، واستشهد له بقوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله} (الممتحنة:1). والظاهر أن هذا الاستشهاد لا يستقيم مع ما قرره من أن تقديم (الإخفاء) على (الإبداء) إنما يكون في سياق الحديث عن المنافقين؛ إذ الآية هنا خطاب للمؤمنين، وسبب نزولها يؤيد ذلك؛ حيث إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وهو صحابي شهد بدراً، وشهد الله له بالإيمان في قوله أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (الممتحنة:1).

أما آية البقرة -كما ذكر ابن الزبير- فلم يجرِ فيها ذكر النفاق، ولا صفة أهله، وإنما الخطاب فيها وفي الآيات قبلها للمؤمنين فيما يخصهم من الأحكام، فورد فيها قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} (البقرة:284). مقدماً فيها (بادي) أعمالهم بناء على سلامة باطنهم؛ إذ الأصل في المؤمنين أن يكونوا سليمي السريرة، متنـزهين عن صفة المنافقين، ومن ثم قدَّم (الإبداء) على (الإخفاء)؛ لأنه خطاب للمؤمنين، كما في قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} (المائدة:99)، وقوله عز وجل أيضاً: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} (النور:29)، فالخطاب للمؤمنين، وهذا جار مطرد يلحق بهذا الضَّرب، كما اطرد البدء بـ (الإخفاء) على (الإعلان)؛ حيث يتقدم ذكر أهل الكفر، أو ينتظم الكلام بذكرهم، كقوله تعالى: {يعلم سركم وجهركم} (الأنعام:3)، بعد قوله سبحانه: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام:1). وكقوله سبحانه: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} (التغابن:4)، بعد قوله تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن:2)، وكقوله تعالى: {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} (النمل:74)، وقد تقدمها قوله عز وجل: {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} (النمل:67).

هذا توجيه ابن الزبير للتقديم والتأخير في (الإبداء) (الإخفاء)، وهو توجيه جيد لولا أنه يُعكر عليه ما يخالفه وهو مجيء تقديم (الإخفاء) على (الإعلان) في سياق الحديث عن المؤمنين، وليس على الكافرين، كما في قوله سبحانه: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} (النحل:9)، فقد جاء في سياق بيان نعم الله على الإنسان عموماً.

وحاصل ما وجَّه ابن الزبير التقديم والتأخير في (الإبداء) (الإخفاء)، أن الأمر مرده إلى السياق، فحيثما يتحدث السياق عن المؤمنين، فالمقدَّم هو (الإبداء) والمؤخر هو (الإخفاء)، وحيثما يتحدث السياق عن المنافقين، فالمقدَّم هو (الإخفاء) والمؤخر هو (الإبداء)، وذكر أن هذا جار مطرد في جميع الآيات التي ورد فيها (الإبداء) و(الإخفاء)، وقد تقدم أن في بعض الآيات ما يعكر على ما ذكره ابن الزبير.

ولم نقف عند المفسرين -فيما رجعنا إليه- على توجيه لهذا الفرق، سوى ما ذكره ابن الزبير.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة