الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

واركعوا مع الراكعين

واركعوا مع الراكعين

واركعوا مع الراكعين

جاء في سياق حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} (البقرة:43)، يتعلق بهذه الآية الكريمة جملة من الأحكام، نقف هنا على الأحكام المتعلقة بقوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين}، وهي كالتالي:

الأول: الركوع في اللغة: الانحناء بالشخص؛ وكل منحن راكع. وقال ابن دريد: الركعة: الهوة في الأرض، لغة يمانية. وقيل: الانحناء يعم الركوع والسجود؛ ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنـزلة.

والركوع شرعاً: هو أن يحني الرجل صلبه، ويمد ظهره وعنقه، ويفتح أصابع يديه، ويقبض على ركبتيه، ثم يطمئن راكعاً، يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً؛ وذلك أدناه. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشْخِص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك. وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره. ومعنى هصر، أي: ثناه إلى الأرض.

الثاني: الركوع فرض من فرائض الصلاة، فلا تصح الصلاة بدون ركوع، وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وقوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} دليل على فرضية الركوع، وزادت السنة الطمأنينة في الركوع والقيام منه؛ وذلك لحديث المسيء صلاته، وفيه: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) متفق عليه. وروى البخاري عن زيد بن وهب، قال: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود، قال: ما صليتَ، ولو متَّ متَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: "ولا يجزئ ركوع ولا سجود، ولا وقوف بعد الركوع، ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعاً وواقفاً وساجداً وجالساً، وهو الصحيح في الأثر، وعليه جمهور العلماء وأهل النظر".

الثالث: قوله تعالى: {مع الراكعين}، قال أهل العلم: (مع) تقتضي المعية والجمعية. وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين:

الأول: قول جمهور أهل العلم وهو أن الصلاة مع الجماعة من السنن المؤكدة، ولازم هذا القول أنها فرض على الكفاية، وسنة عينية مؤكَّدة، ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة. قال القاضي عياض: "اختلف في التمالؤ -الاجتماع- على ترك ظاهر السنن؛ هل يُقَاتَلوا عليها أو لا؟ والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالؤ عليها إماتتها". قال جمهور أهل العلم: فعلى هذا، إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد، وصحت، فإذا قامت الجماعة في المسجد، فصلاة المنفرد في بيته جائزة؛ لقوله عليه السلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه، وهذا الحديث وأمثاله يُثبت للمصلي المنفرد صلاة، إلا أن أجرها أقل من صلاته مع الجماعة.

فالقائلون بأنها سنة مؤكَّدة، يؤكِّدون على حضور الصلاة في جماعة، ويلزمون العقوبة لمن أصر على التخلف عنها لغير عذر، قال الشافعي: "لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر"، بل قالوا: لو تمالأ قوم على ترك الجماعة فعلى الإمام قتالهم؛ لأن في ذلك ترك سنة مؤكدة والتمالؤ على ترك السنن يستوجب العقوبة.

القول الثاني: وهو قول أحمد وداود الظاهري: أن الصلاة في الجماعة فرض عين على كل مسلم، كالجمعة؛ واحتجوا لذلك بقوله عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) رواه الدار قطني وغيره. قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: (من سمع النداء فلم يُجِبْ، فلا صلاة له )، ونحو هذا قال ابن المنذر. ورواه ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما مُسْنَداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد حمل جمهور أهل العلم الأحاديث التي يفيد ظاهرها الوجوب على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة، وحملوا قول الصحابة، وما جاء في الحديث من أنه (لا صلاة له) على الكمال والفضل.

الرابع: اختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة؛ هل لأجل الجماعة فحسب حيث كانت، أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد؛ لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد؟ للعلماء قولان:

الأول: وهو الأظهر أن الفضل للجماعة؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي عُلِّق عليه الحكم. وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد، وقصد الإتيان إليها، والمكث فيها، فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة.

الثاني: أن الفضل إنما للجماعة التي تصلي في المسجد.

واختلفوا أيضاً هل تفضل جماعةٌ جماعةً بالكثرة وفضيلة الإمام؟ للعلماء أيضاً قولان.

الخامس: اختلفوا فيمن صلى في جماعة، هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى؟ فمذهب جمهور العلماء: إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام من صلى وحده في بيته وأهله، أو في غير بيته؛ وأما من صلى في جماعة -وإن قلت- فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها، ولا أقل. دليل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلَّى صلاة مكتوبة في يوم مرتين) رواه الدار قطني.

وقال الإمام أحمد: جائز لمن صلى في جماعة، ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم؛ لأنها نافلة وسُنَّة. وحمل أحمد الحديث المتقدم على معنى أن يصلي الإنسان الفريضة، ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى؛ فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سُنَّة، أو تطوع فليس بإعادة الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة: (إنها لكم نافلة) رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه.

السادس: للعلماء أقوال في أحقية الإمامة، فمذهب بعضهم أن الأحق بالإمامة هو الأقرأ لكتاب الله. وقال مالك: الأحق بالإمامة هو الأعلم، إذا كانت حاله حسنة، وإن للسنِّ حقاً. وقال الشافعي: الأفقه أحق الناس بالإمامة؛ لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة. ثم قالوا: وصاحب المنـزل أحق بالإمامة. وقال بعضهم: إذا أذن صاحب المنـزل لغيره، فلا بأس أن يصلي به، وكرهه بعضهم، وقالوا: السُّنَّة أن يصلي صاحب البيت؛ ودليل الجميع قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -يعني إسلاماً-، ولا يَؤمَّن الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)، وفي رواية: (سناً) مكان (سلماً). رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم. ومعنى تكرمته، أي: فراشه. وتأول الشافعية الحديث بأن (الأقرأ) من الصحابة كان (الأفقه)؛ لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء.

السابع: الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف، إذا كان يعلم أحكام الصلاة، ولم يكن يلحن في قراءة الفاتحة لحناً يخل بالمعنى. ولا يجوز الائتمام بامرأة، ولا كافر، ولا مجنون، ولا يكون واحد من هؤلاء إماماً بحال من الأحوال .

وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا تصح إمامة الأُميِّ الذي لا يُحْسِنُ القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره الأُميِّ، فإن أمَّ أُمِّيًّا مثله صحت صلاتهم. وقالت طائفة من أهل العلم: صلاتهم كلهم جائزة؛ لأن كلا مؤدٍّ فرضه، وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء، والمصلي قاعداً يصلي بقوم قيام، صلاتهم مجزئة؛ لأن كلاً مؤدٍّ فرض نفسه. ويُحْتَجُّ لهذا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، ثم انصرف، فقال: (يا فلان! ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه) رواه مسلم.

الثامن: قال أهل العلم: لا بأس بإمامة الأعمى، والأعرج، والأشل، والأقطع، إذا كان كل واحد منهم عالماً بأحكام الصلاة، وقد كان ابن عباس وعتبان بن مالك رضي الله عنهما يؤمان الناس، وكلاهما أعمى.

التاسع: روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً) متفق عليه. وقد اختلف العلماء فيمن ركع، أو خفض قبل الإمام عامداً على قولين:

أحدهما: أن من فعل ذلك فقد أساء، ولم تفسد صلاته؛ لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سُنَّة حسنة، فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها، وركوعها، وسجودها، وفرائضها، فليس عليه إعادتها، وإن أسقط بعض سننها؛ لأنه لو شاء أن ينفرد، فيصلي قبل إمامه تلك الصلاة، أجزأه ذلك؛ وبئس ما فعل في تركه الجماعة. قالوا: ومن دخل في صلاة الإمام، فركع بركوعه، وسجد بسجوده، وكان في ركعة، وإمامه في أخرى، فقد اقتدى، وإن كان يرفع قبله، ويخفض قبله؛ لأنه بركوعه يركع، وبسجوده يسجد ويرفع، وهو في ذلك تَبَعٌ له، إلا أنه مسيء في فعله ذلك؛ لخلافه سُنَّة المأموم المجتمع عليها. وهذا قول أكثر أهل العلم.

ثانيهما: أن صلاته باطلة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها؛ وهو قول أهل الظاهر. قال القرطبي: والصحيح في الأثر والنظر القول الثاني؛ فإن الإمام إنما جُعِلَ ليؤتم به، ويُقتدى به بأفعاله، هذا حقيقة (الائتمام) لغة وشرعاً، فمن خالف إمامه لم يتبعه؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن، فقال: (إذا كبر فكبروا) الحديث، فأتى بـ (الفاء) التي توجب التعقيب، وهو المبيِّنُ عن الله مراده. ثم أوعد من رفع، أو ركع قبل الإمام وعيداً شديداً، فقال: (أما يخشى أحدكم، أو ألا يخشى أحدكم، إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار) متفق عليه.

وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام؛ أما تكبيرة الإحرام، فالذي عليه جمهور أهل العلم أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام، فإن كبَّر قبل الإمام لم يصح اقتداؤه.

وأما السلام فقد اختلف أهل العلم في التسليمة الأولى؛ فقال بعضهم: إنها واجبة؛ لأنه لما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع، فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة. وقال بعضهم: إنها ليست بواجبة، وإنما هي سُنَّة. واتفق الجميع على أن التسليمة الثانية ليست فرضاً، قالوا: إنه تواردت السنن الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابراً عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل؛ لأنه لا يخفى وقوعه في كل يوم مراراً، وبهذا أخذ الإمام مالك. وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين، ومتوارث عندهم أيضاً، وبهذا أخذ الإمام أبو حنيفة، لا يروى عن عالم بالحجاز، ولا بالعراق، ولا بالشام، ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة، ولا إنكار التسليمتين، بل ذلك عندهم معروف مشهور.

فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمنها قوله عز وجل: {واركعوا مع الراكعين}، ووراءها أحكام أُخر، يُرجع في بيانها وتفصيلها إلى كتب الفقه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة