الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النسخ في السنة النبوية

النسخ في السنة النبوية

النسخ في السنة النبوية

اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يُشرِّع أحكامًا لحكمةٍ يعلمها، ثم ينسخها لحكمةٍ أيضًا تستدعي ذلك النسخ، إلى أن استقرّت أحكام الشريعة أخيراً، وأتم الله تعالى دينه، كما أخبر في كتابه العزيز بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة:3)، وقد اهتم العلماء قديما وحديثا بـ"الناسخ والمنسوخ" -وبحثوه ضمن مباحث علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف، وأفرده بعضهم بالتصنيف-؛ إذ بمعرفته تُعرف الأحكام، ويعرف ما بقي حكمه وما نُسخ.

النسخ لغة واصطلاحا

يُطلق النسخ في اللغة على معانٍ تدور بين: النقل والتحويل والإبطال والإزالة، وقد اختلف أهل العلم في هذه المعاني أيّها على سبيل الحقيقة وأيّها على سبيل المجاز، فذهب بعضهم إلى أن النسخ حقيقة في الإزالة مجازٌ في النقل، وذهب بعضهم إلى أنه مجازٌ في الإزالة وفي الإبطال وفي النقل جميعا، وذهب آخرون إلى أنه مشترك في الإزالة والنقل، وأنه حقيقة في كل منهما.

وأما النسخ في الاصطلاح فهو: "رفع الشارع حكما شرعيًّا بدليلٍ شرعي متأخر"، وهذا هو التعريف المتداول بين الأصوليين والمفسرين، وقولهم في هذا التعريف: "رفع الشارع" يمنع النسخ بما عدا الكتاب والسنة ولو كان إجماعا، وقولهم: "حكما شرعيًّا" يُخرج من النسخ رفع عوائد الجاهلية وأحكامها، لأنها ليست من الشرع، كما يُخرج منه رفع الإباحة الأصلية، لأن مرجعها إلى العقل وليس إلى الشرع.

الحِكمة من النسخ

وجود النسخ في الأحكام الشرعية له حِكَمٌ عديدة، منها: مراعاة مصالح العباد، ولا شك فإن بعض مصالح الدعوة الإسلامية في بداية أمرها، تختلف عنها بعد تكوينها واستقرارها، فاقتضى ذلك الحال تغيُّر بعض الأحكام؛ مراعاة لتلك المصالح، وهذا واضح في بعض أحكام المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وكذلك عند بداية العهد المدني وعند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن حِكَم النسخ أيضًا: ابتلاء المكلفين واختبارهم بالامتثال وعدمه، ومنها كذلك: إرادة الخير لهذا الأمة والتيسير عليها؛ لأن النسخ إن كان إلى أشق ففيه زيادة ثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويسر.

حُكم النسخ

اتفق الأصوليون على العمل بحكم الناسخ وترك العمل بحكم المنسوخ، كما اتفقوا كذلك على أن حكم النسخ لا يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم.

أركان النسخ

النسخ له أركان أربعة، هي:

1- الناسخ: وهو الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- المنسوخ: وهو الحكم المرفوع.
3- المنسوخ عنه: وهو المكلف.
4- النسخ: وهو قوله تعالى الدال على رفع الحكم الثابت أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يسمى "الدليل" ناسخًا مجازًا، وقد يسمى "الحكم " ناسخًا أيضًا.

ما يدخله النسخ وما لا يدخله

النسخ لا يكون إلا في الأحكام الشرعية، سواء في ذلك الأحكام التي ثبتت بالقرآن الكريم أو بالسنة النبوية المطهرة، أما العقائد والأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها.

شرائط النسخ

1- أن يكون المنسوخ والمنسوخ به حكما شرعيًّا لا عقليًّا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تُنسخ، وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
2- أن يكون النسخ بخطاب شرعيّ لا بموت المكلف؛ لأن الموت مُزِيل للحكم لا ناسخ له.
3- أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخرًا عنه.
4- أن يتعذر الجمع بين الدليلين.
5- أن لا يكون المنسوخ والمنسوخ به مُقيدًا بوقت؛ لأن التأقيت يمنع النسخ.

زمن النسخ

النسخ لا يكون إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الأحكام بعد وفاته تصير مؤيّدة بانقطاع الوحي، فلا تكون محلاً للنسخ، فلا نسخ إذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النسخ لا يكون إلا بالوحي (كتاب أو سنة)، وبوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ينتهي الوحي وتستقر الأحكام، وحين ذاك لا يكون نسخ ولا تغيير ولا تبديل.

أنواع النسخ

النسخ على أنواع، منها: نَسْخُ القرآن بالقرآن، ومثاله نَسْخُ قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} (البقرة: 219)، فقد نسختها آية: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة:90)، وهذا النوع من النسخ جائز بالاتفاق.

ومنها: نَسْخُ السنة بالقرآن، كنسخ التوجُّه إلى قبلة بيت المقدس، الذي كان ثابتًا بالسنة بقوله تعالى: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} (البقرة:144)، ونَسْخُ وجوب صيام يوم عاشوراء الثابت بالسنة، بصوم رمضان في قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:185).

ومن أنواع النسخ أيضاً: نَسْخُ السنة بالسنة، ومنه نسخ جواز نكاح المتعة، الذي كان جائزًا أولاً، ثم نُسخ فيما بعد؛ فعن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها" رواه مسلم، وقد بوَّب الإمام البخاري لهذا بقوله: "باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخراً".

وهذا النوع الأخير (نَسْخُ السنة بالسنة) سنتناول أمثلته المتفق عليها بالشرح والإيضاح والبيان في هذا المحور، ليكون ذلك نبراسا لمن يريد أن يقف على جملة من "ناسخ الحديث ومنسوخه"، نسأل الله الإعانة والتوفيق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة