الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هكذا حج الصالحون والصالحات

  • الكاتب:
  • التصنيف:مكتبة الحج

هكذا حج الصالحون والصالحات

هكذا حج الصالحون والصالحات

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد:

فإن للصالحين في الحج أحوالاً زكية وسيرا عطرة، وقد كانت تمر عليّ أثناء جمعي لمادة هذا الكتاب من كتب الآثار والسير وغيرها كانت تمر علي آثار أجدني مضطرا للوقوف عندها طويلا معجبا ومندهشا مما فيها:
- من فقه سليم لحقيقة الحج ومقصده وحكمته وغايته.
- ومن قوة في العبادة وصدق في الالتجاء والانطراح بين يدي الرب سبحانه وتعالى.
- ومن صفا أرواح تستشعر قربها من الله في هذه الشعيرة العظيمة.
- ومن إخاء ومحبة وبذل وعطاء....

وما مثلي ومثل هذه الآثار إلا كرجل دخل حديقة ذات بهجة؛ تأسر الناظر بكثرة ورودها المتنوعة، ورائحتها الجميلة، ويحتار المرء فيما يختار من هذه الورود التي فيها.. فالكل جميل!!.
وأنت واحد هذا الاستشعار لحكمة الحج من لدن سلفنا الصالح منذ أول لحظة يحرمون فيها بالحج إلى أن يطوفوا طواف الوداع.
وكل يتعبد الله بما يسر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع الكتاب والسنة: فمن السلف من يُسِّرَ له الصلاة.. ومنهم من يسر له الإكثار من قراءة القرآن، ومنهم من يسر له الذكر والدعاء والبكاء من خشية الله.. ومنهم من يسر له العلم.. والدعوة.. ومنهم من يس له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يعود إلى فقه المرء بنفسه وطاقتها وميلها.. وهذا الفقه مطلوب شرعا.

لا أطيل عليك -أخي القارئ الكريم- وأدعك تعيش مع حج الصالحين...علك أن تضع لك برنامجا علميًّا وعمليًّا مستفيداً من سير هؤلاء الصالحين وأخلاقهم وأعمالهم...

وينحصر الكلام على حج الصالحين في أمور:
1- «أعظم ما يلمس من هذه الآثار الواردة عن الصالحين في «الحج».
2- «الصالحون.. وكثرة الحج».
3- «الصالحون.. والحرص على لقاء العلماء والإخوان في الحج».
4- «الصالحون.. وقلة التّرفُّه في الحج».
5- «الصالحون.. وقلة الكلام في الحج إلا من ذكر الله عز وجل».
6- «الصالحون.. وقوة العبادة في الحج».
7- «الصالحون.. والكرم والبذل في الحج».
8- «الصالحون.. وماء زمزم».
9- «الصالحون.. ويوم عرفة».
10- «الصالحون.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين في الحج».
11- «الصالحون.. وتمني أن يكون ختام حياتهم حجا».
12- «الصالحون.. وتأمل حكم الحج وأسراره ولطائفه».
13- «الصالحات.. والحج».
14- «صفة الحج كاملة».
15- «الصالحون والصالحات.. وختام حجهم».

( 1 ) أعظم ما يلمس من هذه الآثار الواردة عن الصالحين في الحج

أعظم ما نلمس في هذه الآثار الواردة في الحج:
أ- عناية السلف بالتوحيد... ونبذ الشرك: نعم لا فائدة من حج لا يقوم على التوحيد.. ونبذ الشرك.. وفي كتاب الله «سورة الحج»، كلها تتحدث عن التوحيد والعبادة، ونبذ الشرك بجميع صوره، وتنعى على أولئك الذين يعبدون غير الله تعالى، أو يدعون من دونه ما لا يضرهم، ولا ينفعهم، بل يدعون من ضره أقرب من نفعه.
إن من يقول - وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع - «مدد يا رسول الله» أو «مدد يا علي».. أو يذبح لغير الله، ويتوسل بالأولياء والصالحين.. ويدعوهم من دون الله.. لم يستشعر أن الحج شرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
ففي هذه الآية الكريمة «يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلاله، وعظمة بانيه وهو خليل الرحمن، فقال: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) أي هيأناه له، وأنزلناه إياه، وجعل قسما من ذريته من سكانه، وأمره الله ببنيانه، فبناه على تقوى الله، وأسسه على طاعة الله، وبناه هو وابنه إسماعيل، وأمره أن لا يشرك به شيئا، بأن يخلص لله أعماله، ويبنيه على اسم الله (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) أي من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس وإضافة الحرم إلى نفسه لشرفه وفضله، ولتعظم محبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه، لكونه بين الرب (لِلطَّائِفِينَ) به والعاكفين عنده المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر وقراءة وتعلم علم وتعليمه، وغير ذلك من أنواع القرب (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي: المصلين، أي: طهره لهؤلاء الفضلاء الذين همهم طاعة مولاهم، وخدمته والتقرب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين بالصلاة والطواف، وقدم الطواف – في هذه الآية – على الاعتكاف والصلاة لاختصاصه بهذا البيت، ثم الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد».
فلتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة عرف الله مكانه لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقيمه على هذا الأساس: ألا تشرك بي شيئا.
وقال تعالى في سياق آيات الحج (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31].
ففي هذه الآية الأمر بأن نكون «(حُنَفَاءَ لِلَّهِ) أي: مقبلين عليه وعلى عبادته معرضين عما سواه (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) فمثله (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) أي: سقط منها (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) أي: بعيد، كذلك المشركون، فالإيمان بمنزلة السماء محفوظة مرفوعة، ومن ترك الإيمان بمنزلة الساقط من السماء عرضة للآفات والبليات، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاءه، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب ومزقوه وأذهبوا عليه دينه ودنياه. وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلوا به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تنقطع أعضاؤه في مكان بعيد جدا».
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». فسمى جابر التلبية توحيدا لأنها تضمنت التوحيد والإخلاص، فالحاج يعلن التوحيد من أول لحظة يدخل فيها في النسك، ولا يزال يلبي بالتوحيد، وينتقل من عمل إلى عمل بالتوحيد، وفي هذا تربية النفس على توحيد الله والإخلاص له.
في موسم الحج تبرز عقيدة البراء من أهل الشرك والكفر فلا يجوز أن يدخلوا منطقة الحرم في كل وقت مهما كان المقصد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 28].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه يبعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ومما يشرع في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير».
وقد أخرج ابن وضاح في كتابه «البدع» عن المعرور بن سويد قال: خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعا، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض.
وفي رواية عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) و(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) فلما قضى حجه ورجع رأى الناس يبتدرون! فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل. وإسناد الأثر صحيح.
فتأمل كيف سد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب طرق الشرك، تحقيقا للتوحيد وحماية لجنابه، فأنكر التبرك بالأماكن التي لم يدل الشرع على فضلها وحرمتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل: فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة خلف أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله قاصدا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة، عن سليمان التيمي، عن المعرور بن سويد قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا، فمن عرضت له الصلاة فليصل و إلا فليمض. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب، وهذا هو الأصل فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل».
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في «شرحه لحديث جابر بن عبد الله في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم» -وهو شرح نفيس جدير بالقراءة- قال: «لا يشرع صعود الجبل -جبل عرفة- ولا الصلاة فيه، ولا الصلاة عنده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم دليل على مشروعيتها، وبه نعرف ضلال كثير من الناس الذين يقصدون الجبل ويصعدون عليه ويصلون، وربما يضعون الحجارة بعضها على بعض لتكون علما، وربما يعلقون الخرق، ويكتبون الأوراق لإثبات أنهما بلغوا هذا المكان، وكل هذا من البدع».
ومما نلمس في هذه الآثار أيضا:
ب- تعظيم السلف لحرمات الله: عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو كان له فسطاطان أحدهما في الحرم والآخر في الحل؛ فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم، وإذا كانت له الحاجة إلى أهله جاء إلى الذي في الحل فقيل له في ذلك فقال: إن مكة مكة.
- وعن طلق بن حبيب قال: قال عمر: يا أهل مكة اتقوا الله في حرم الله! أتدرون من كان ساكن هذا البيت؟ كان به بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، وكان به بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، حتى ذكر ما شاء الله من قبائل العرب أن يذكر ثم قال: لأن أعمل عشر خطايا بغيره أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة.
- وقال سفيان بن عيينة: حج علي بن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك. فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.
- وقال مالك بن أنس: ولقد أحرم علي بن الحسين فلما أراد أن يقول: لبيك، قالها فأغمي عليه حتى سقط من ناقته فهشم، ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمى بالمدينة «زين العابدين» لعبادته.
وهذا التعظيم امتثال لأمر الله عز وجل في قوله في سياق آيات الحج: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وقوله (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
فتعظيم حرمات الله «من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه التي من عظمها وأجلها أثابه الله ثوابا جزيلا، وكانت خيرا له في دينه ودنياه وأخراه عند ربه، و حرمات الله: كل ماله حرمة وأمر باحترامه من عبادة أو غيرها كالمناسك كلها وكالحرم والإحرام وكالهدايا وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها يكون إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل».
فهل عظم حرمات الله من واقعها؟ ! وفي الحج أيضًا!! كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستنكرت فكيف بالحاج؟ !...
إنه يجب على الحاج أن يراعي حرمة الزمان والمكان فيجتنب ما حرم الله عليه من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه من كذب وغش وخيانة وغيبة ونميمة واستهزاء، ويجتنب الاستماع إلى المعازف والأغاني المحرمة، وشرب الدخان والتصوير وحلق اللحى وغير ذلك مما ينافي تعظين حرمات الله عز وجل ويلهي الحاج عن إكمال هذه الشعيرة العظيمة.
وليعلم الحاج أن المعصية منه أعظم إثما من المعصية من غيره، ويخشى ألا يرجع من ذنوبه كما ولدته أمه كما صرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه».. وهل هناك أعظم من هذه الخسارة؟! نسأل الله السلامة والعافية. وقال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
قال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري في تفسيره: «وأولى الأقوال التي ذكرناه في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس، من أنه معني بالظلم في هذا الموضع: كل معصية لله، وذلك أن الله عمّ بقوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) ولم يخصص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصى الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له».
قال الإمام الشنقيطي: «والإلحاد في اللغة أصله الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: أن يميل ويحيد عن دين الله الذي شرعه، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولا أوليا الكفر بالله، والشرك به في الحرم، وفعل شيء مما حرمه، وترك شيء مما أوجبه ومن أعظم ذلك انتهاك حرمات الحرم، وقال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك قول الرجل لا والله، وبلى والله... قال مقيده – عفا الله عنه وغفر له -: الذي يظهر في هذه المسألة أن كل مخالفة بترك واجب أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته أو عبده فليس من الإلحاد ولا من الظلم.
مسألة: قال بعض أهل العلم: من هم أن يعمل سيئة في مكة أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همّه بذلك، وإن لم يفعلها، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع فلا يعاقب فيه الهم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم، وهذا ثابت عن ابن مسعود ووقفه عليه أصح من رفعه، والذين قالوا هذا القول استدلوا به بظاهر قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم: إن الباء في قوله بإلحاد لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهمّ أي: ومن يهمم فيه بإلحاد، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره».
إنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله، قال الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) فالأذان بأمر الله يعد أذانا من الله، فينبغي للمسلم أن يعظم حرمات الله.
وأنبه أن على الحاج خصوصا أن يجتنب محظورات الإحرام، وهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عام للرجال والنساء: وهو حلق الشعر وتقليم الأظفار، والطيب، والمباشرة لشهوة، والجماع -وهو أعظم محظورات الإحرام، ومفسد للنسك، وموجب للفدية- ولبس القفازين، وقتل الصيد البري الوحشي المأكول، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، وعقد النكاح. أما قطع الشجر، فإنه ليس من محظورات الإحرام، ولكنه حرام في الحرم للحاج، وللمعتمر، ولغيرهما.
القسم الثاني: ما يخص الرجال: فهو ليس المخيط، وتغطية الرأس.
القسم الثالث: ما يخص النساء: فهو النقاب الذي فصل على الوجه، وجعل فيه نقب للعينين أو لأحدهما.
ومما نلمس في هذه الآثار أيضاً:
ج- حرص السلف على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به: تأصل في نفوس سلفنا الصالح أن أي قول أو عمل لا يقبل إلا بشرطين: الأول: الإخلاص لله عز وجل، والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فظهر أثر هذين الشرطين في جميع أعمالهم ومن هذه الأعمال الحج، وقد نقلت عنهم آثار وأخبار كثيرة يتجلى فيها شدة المتابعة والعناية بذلك.
فمن الآثار الواردة في ذلك:
- عن سالم بن عبد الله أن أباه حدثه قال: قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال: أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
- وحديث سالم بن عبد الله قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة قال: هذه الساعة! قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي فقلت: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف!، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق.
- وحديث شعبة قال: أخبرنا أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس رضي الله عنهما فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أقم عندي فأجعل لك سهما من مالي. قال شعبة: فقلت لم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت.
والآثار الواردة في شدة متابعة السلف للرسول صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج – وفي غيره من شرائع الدين – كثيرة، ومنثورة في كتب السنة والحديث، ولعل فيما تقدم كفاية.

( 2 ) الصالحون... وكثرة الحج

- قال إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد قال: قال عبد الله ابن مسعود: «نسكان أحب إلي أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر»، قال: فسافر الأسود ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وسافر عبد الرحمن بن الأسود ستين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما.
- قال أبو إسحاق السبيعي: «جمع الأسود بن يزيد بين ثمانين حجة وعمرة، وجمع عمرو بن ميمون بين ستين حجة وعمرة».
- وقال ابن شوذب: «شهدت جنازة طاووس بن كيسان بمكة سنة ست ومائة فسمعتهم يقولون: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة».
- وقال ابن أبي ليلى: دخلت على عطاء بن أبي رباح فجعل يسألني وكأن أصحابه جعلوا يعجبون من ذاك، فقال: ما تنكرون من ذاك؟ هو أعلم منى! قال ابن أبي ليلى: وكان عطاء قد حج سبعين حجة، وعاش مائة سنة.
- قال الحسن بن عمران – ابن أخي سفيان بن عيينة -: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة فلما كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه، ثم قال: فد وافيت هذا الموضع سبعين عاما أقول في كل سنة: اللهم! لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأل ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون... وتوفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة.
- قال علي بن الموفق: حججت ستين حجة، فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر، أفكر في حالي وكثرة تردادي إلى ذلك المكان، ولا أدري هل قبل مني حجي أم رد! ثم نمت فرأيت في منامي قائلا يقول لي: هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب! قال: فاستيقظت وقد سرى عني.
- وقالت مولاة لزيد بن وهب: كان زيد بن وهب قد أثر الرحل بوجهه من الحج والعمرة.
- وقال سحنون الفقيه: كان عبد الله بن وهب قد قسم دهره أثلاثا: ثلثا في الرباط، وثلثا يعلم الناس بمصر، وثلثا في الحج، وذكر أنه حج ستا وثلاثين حجة.
- وعن محمد بن سوقة قال: قيل لمحمد بن المنكدر: تحج وعليك دَيْن؟ قال: الحج أقضى للدين ـ قال: يعني إذا حججت قضى الله عني ديني -.
وممن ذكر أنه حج أكثر من أربعين حجة: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سوقة، وبكير بن عتيق، وابن أبي عمر العدني، وسعيد بن سليمان، وجعفر الخلدي، والعباس بن سمرة أبو الفضل الهاشمي، وأيوب السختياني، وهمام بن نافع، ومكي بن إبراهيم وغيرهم كثير.
ومن المعاصرين سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته وغيره.
لطيفة ونادرة: روى إسماعيل بن أمية حديثا عن أعرابي، قال إسماعيل بن أمية: فذهبت أعيد على الأعرابي لأنظر كيف حفظه، فقال: يا ابن أخي! أتراني لم أحفظ؟ لقد حججت ستين حجة أو سبعين حجة، ما منها حجة إلا وأنا أعرف البعير الذي حججت عليه!
التعليق: الأصل أن كثرة الحج والعمرة مرغب فيها شرعا، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة منها:
- حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة».
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه».
- وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة».
- وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور».
- وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور».
- وعن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «ما لك يا عمرو؟» قال قلت: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله...».
تنبيهان:
1- لو لم يرد في فضل الحج إلا أنه أحد أركان الإسلام الخمسة لكان ذلك كافيا في بيان منزلته، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97]، وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»، ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، عدّ له الأركان الخمسة، ومنها الحج.
2- ذهب جمع من أهل العلم ومنهم الإمام ابن المنذر إلى أن الحج المبرور يكفر جميع الذنوب لظاهر الأحاديث الآنفة الذكر، وهو قول قوي.
فيا أخي: لا تغلب على الحج إلا من عذر وإياك والتسويف، فالعمر قصير، والفرص لا تعوض، نعم ربما يكون هناك مصالح تقتضي عدم الإكثار من الحج ولكن هذه المصالح لا يقررها إلا العلماء العارفون بالكتاب والسنة، قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: «فرض الله الحج على كل مكلف مستطيع مرة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع وقربة يتقرب بها إلى الله، ولم يثبت في التطوع بالحج تحديد بعدد، وإنما يرجع تكراره إلى وضع المكلف المالي والصحي، وحال من حوله من الأقارب والفقراء، وإلى اختلاف مصالح الأمة العامة، ودعمه لها بنفسه وماله، وإلى منزلته في الأمة ونفعه لها حضرا وسفرا في الحج وغيره، فلينظر كل إلى ظروفه وما هو أنفع له وللأمة فيقدمه على غيره».

( 3 ) الصالحون... والحرص على لقاء العلماء والإخوان في الحج

- قال أيوب السختياني: «إن مما يزيدني رغبة في الحج وحضوره أن ألقى إخوانا لي فيه لا ألقاهم في غيره»، وقال أيضاً: «كانوا يحجون للقي به».
- وقال أيوب بن سليمان بن بلال: قلت لعبيد الله بن عمر: أراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟ فقال: والله.
ما أفرح في سنتي إلا أيام الموسم، ألقى أقواما قد نور الله قلوبهم بالإيمان، فإذا رأيتهم ارتاح قلبي؛ منهم: أيوب.
- وكان أبو صخر الأيلي يوافي المواسم كل عام مع محمد بن المنكدر، وصفوان بن سليم، ويزيد بن خصيفة، وسليمان بن سحيم، وأبي حازم فيلقون عمر بن ذر فيقص عليهم، ويذكرهم أمر الآخرة، فلا يزالون كذلك حتى ينقضي الموسم ثم لا يلتقون بعد إلا في كل موسم.
- وقال محمد بن الفضل البزاز: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلنا في مكان واحد، فلما صليت الصبح درت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة، وكنت أدور مجلساً مجلساً؛ طلباً لأحمد بن حنبل، حتى وجدت أحمد عند شاب أعرابي وعلى رأسه جمة فزاحمته حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله تركت ابن عيينة وعنده الزهري وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ومن التابعين ما الله به عليم!، فقال لي: اسكت! فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول، ولا يضرك في دينك ولا في عقلك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله عز وجل من هذا الفتى القرشي. قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
- وقال سفيان الثوري: حججت حججاً لألقى ابن لهيعة.
- وقال الأوزاعي: حججت فلقيت عبدة بن أبي لبابة بمنى فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قلت: لا قال: فاذهب فالقه فما بين لابتيها أفقه منه! قال: فلقيته فإذا برجل حسن السمت مقنع.
- وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: إنه ليزيدني في الحج رغبة لقاء عمرو بن دينار، فإنه كان يحبنا ويفيدنا.
- وقال سفيان بن عيينة: قال لي ابن جريج: دلني وأدلك على المشايخ إذا قدموا الموسم، فقدم يحيى بن يحيى الغساني فسمعت منه ولم أعلمه!، فلما انقضى الموسم اجتمعنا نتذاكر، فذكرت يحيى بن يحيى الغساني فقال: متى سمعت منه؟ قلت: كان حضر الموسم! فقال: حدثني فلان، وحدثني فلان، وقال: من خنس يحيى بن يحيى خنس منه مثل هؤلاء!!.
وقد عقد أبو عبد الله الفاكهي في كتابه الشهير «أخبار مكة» بابا قال فيه: «ذكر تلاقي الإخوان في الحج بمكة ومنى وما جاء في ذلك»، وذكر بعض الآثار المتقدمة.
وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يجعل من الحج فرصة للقيا عماله ومحاسبتهم قال عطاء بن أبي رباح: كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى عماله أن يوافوه بالموسم فإذا اجتمعوا قام فقال: أيها الناس إني استعملت عليكم عمالي هؤلاء ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم، ولكن استعملتهم ليحجزوا بينكم...إلى آخر ما قال رضي الله عنه.
قلت: وللمحدثين في هذا الباب أخبار ونوادر جديرة بالجمع والإفراد يتجلى فيها:
- العناية بالعلم والحرص على طلبه والرحلة في ذلك، وقد قال الفضيل بن عياض: «لا يخلص لأصحاب الحديث حج، وسفيان بن عيينة حي». ومعناه أن أصحاب الحديث يحجون بقصد السماع من سفيان، لأن سفيان بن عيينة ممن طال عمره فعلى إسناده، وطلب الإسناد العالي سنة عند المحدثين، ومن الأمثلة على قول الفضيل قول علي بن المديني: «حججت حجة وليس لي همة إلا أن أسمع من سفيان يذكر في هذا الحديث الخبر حتى سمعته يقول: حدثنا عمرو بن دينار، وقد كنت سمعت هذا من سفيان من قبل ذلك ولم يذكر فيه الخبر». أي رحل إلى سفيان من أجل التأكد من صيغة التحمل التي استعملها سفيان والتأكد من السماع!.
- وضع المعايير الدقيقة لنقد السنة النبوية من خلال الاستفادة من الحج، ومن ذلك أنهم ربما ضعفوا الراوي بسبب أنه لم يسمع من شيخه إلا في الحج فلم يضبط عنه قال ابن رجب: «أصحاب الزهري الذين ضعفوا فيه: ومنهم جماعة من أصحاب الزهري ضعفوا في الزهري خاصة منهم: سفيان بن حسين؛ قال ابن معين: هو عن غير الزهري أثبت منه عن الزهري إنما سمع من الزهري بالموسم يعني لم يصحبه ولم يجتمع به غير أيام الموسم».
- ومن ذلك أيضا: أنهم ضبطوا «كم حج الراوي؟»، و«سنة كم حج؟»، و «من لقي في الحج؟»، و«كيف حدث في الحج؟» ولا شك أن هذا له أثر على معرفة لقيا الرواة وسماع بعضهم من بعض، قال أحمد بن حنبل: حج ثور بن يزيد الشامي والأوزاعي سنة خمس ومائة فسمع الناس منهما في المواسم. وقال أيضا: حماد بن سلمة لم يخرج إلى الكوفة، حج فسمع من سلمة بن كهيل، وأما عطاء وغيره فقدموا عليهم. وقال ابن بكير: حج الليث بن سعد سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب بمكة وسمع من أبي مليكة وعطاء وأبي الزبير ونافع وعمران بن أنس وعدة مشايخ، وقال عمرو بن دينار: سمعت مجالد سنة سبعين عند درج زمزم عام حج مصعب بن الزبير يحدث عمرو بن أوس وجابر بن زيد،، وقال حميد الطويل: لم يحج الحسن إلا حجتين حجة في أول عمره وأخرى في آخر عمره.
- ومن ذلك أيضا: معرفة أقدار المحدثين ومكانتهم وجلالتهم في الحج، فكلما كان المحدث أجل كانت العناية بلقائه والسماع منه أشد، بل كان بعض المتحدثين يحزن إذا لم يجتمع إليه طلاب الحديث، قال بشر بن السري: قال عبد الرزاق بن همام: قدمت مكة مرة فأتاني أصحاب الحديث ثم انقطعوا عني يومين أو ثلاثة، فقلت: يا رب ما شأني كذاب أنا! أبي شيء أنا! قال فجاءوني بعد ذلك، وفي رواية قال عبد الرزاق: قدمت مكة فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فمضيت وطفت وتعلقت بأستار الكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا! أمدلس أنا! قال: فرجعت إلى البيت فجاؤني.
والنبذة اليسيرة المتقدمة تبين لك أن المحدثين يسيرون على مناهج وأصول دقيقة مبنية على السبر والاستقراء والتتبع مع تجرد وحسن نية، لا كما يدعي أعداء السنة النبوية!!.
التعليق: أخي الحاج... سمعت أخبار سلفنا الصالح وعنايتهم بلقاء العلماء والصالحين في الحج وهم في ذلك يستشعرون أن من مقاصد الحج الالتقاء والتآلف والتعارف مما يجعل المسلمين أمة واحدة وصفا واحدا فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم ومظاهر الحج كلها دالة على هذا المقصد، فزي الحجيج واحد، ويتوجهون إلى رب واحد بتلبية واحدة، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون نسكاً واحداً.
إن الحج ملتقى كبير يفد إليه الحجاج من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدسة، ألوان مختلفة، وأجناس متعددة، وألسن متباينة.
قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: «إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمراً لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، وعن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حط ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج: 27، 28]».
وعلى أهل العلم والفضل أن يغتنموا فرصة التقائهم بالحجاج في هذه المواطن المقدسة فيعلموهم ما يلزم من مناسك الحج وأحكامه على وفق الكتاب والسنة، وأن لا يشغلهم ذلك عن الدعوة إلى أصل الإسلام الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ألا وهو التوحيد. وأنت لو أردت أن تتواصل مع هذا الكم الهائل من المسلمين، لوجدت هذا أمرا صعبا عسيرا. فها هم قد جاءوك هنا، وأمكن أن توصل إليهم هذه القضية المهمة بكل سهولة ويسر...وكم من حاج رجع إلى بلده داعية إلى التوحيد.. ونبذ الشرك.. بعد أن عرف حقيقة التوحيد في الحج.

( 4 ) الصالحون... وقلة التّرفُّه في الحج

المراد بالترفه هو: إراحة النفس والتمتع بالنعمة وسعة العيش والتوسع في ذلك، والأفضل في الحج ترك التّرفُّه في المآكل والملابس والمراكب والمساكن، قال الإمام البخاري في صحيحه: باب الحج على الرحل، وقال أبان: حدثنا مالك بن دينار عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معها أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وحملها على قتب، وقال عمر رضي الله عنه: شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين. ثم ذكر حديث ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: حج أنس على رحل ولم يكن شحيحا، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته.
قال ابن حجر: «قوله: (باب الحج على الرحل) بفتح الراء وسكون المهملة وهو للبعير كالسرج للفرس، أشار بهذا إلى أن التقشف أفضل من الترفه».
وفي حديث عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنه كان يسمع أسماء كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم لقد نزلنا معه ها هنا، ونحن يومئذ خفاف الحقائب، قليل ظهرنا، قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا من العشي بالحج.
وقد عقد البيهقي في «السنن الكبرى» بابا قال فيه «باب: الحاج أشعث أغبر فلا يدهن رأسه ولحيته بعد الإحرام».
وقال المنذري في كتابه «الترغيب والترهيب»: «الترغيب في التواضع في الحج والتبذل ولبس الدون من الثياب اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام»، ثم ذكر عددا من الأحاديث الدالة على ذلك ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليباهي الملائكة بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا».
قلت: وقد سار على هذا الصالحون في حجهم:
- قال مجاهد: قال رجل عند ابن عمر: ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر: ما أقلهم!، قال: فرأى ابن عمر رجلا على بعير على رحل رث خطامه حبل فقال: لعل هذا.
- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في طريقه إلى مكة ـ وقد رأى ناسا محرمين -: تشعثون وتغبرون وتنفلون وتضحون لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا ما نعلم سفرا خيرا من هذا ـ يعني الحج -.
- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حج أبي خمس حجج ماشيا، واثنتين راكبا، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهما.
- وقال أبو نعيم: قدم المهدي مكة وسفيان الثوري بمكة، فدعاه فقال له سفيان ـ وقد رأى ما قد هيأه للحج -: اتق الله وأعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج فأنفق ستة عشر دينارا، وفي رواية: قال سفيان: ما هذه الفساطيط؟ ما هذه السرادقات؟ حج عمر بن الخطاب فسأل كم أنفقنا في حجتنا هذه؟ فقيل: كذا وكذا دينارًا ـ ذكر شيئا يسيرا ـ فقال: لقد أسرفنا.
- وقال سفيان الثوري: أدخلت على المهدي بمنى فقلت له: اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار؛ وأبناؤهم يموتون جوعا، حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر فقال لي: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه! فقال لي: اخرج.
- وقال ابن أبي نجيح: حج الحسن بن علي ماشيا، وقسم ماله نصفين.
- قيل لبعض الصلحاء: ما المعني في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك، فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.
التعليق: قال تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] وخلاصة القول في التفث ما حرره العلامة السعدي بقوله: «أي يقضوا نسكهم ويزيلوا الوسخ والأذى الذي لحقهم في حال الإحرام».
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليباهي الملائكة بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا».
قلت: وكثيراً ما يعلل الفقهاء المنع من بعض محظورات الإحرام بقولهم «منعا من الترفه» أو «بعدا عن الترفه» أو «أن الحاج أشعث أغبر» ومن طالع «كتاب الحج» من كتاب المغني لابن قدامة، أو المجموع للنووي، أو شرح العمدة لابن تيمية، وكتب شروح الأحاديث تبين له ذلك جليا.
قال النووي -بعد ذكر محظورات الإحرام-: «قال العلماء: والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن التّرفُّه ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان، ويتذكر البعث يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي، والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن التّرفُّه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه، وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد، ولا يتطيب، ولا يتزين، ولا يتظلل ويلازم الخشوع والإخشيشان، ويقصد بيت الله أشعث أغبر».
أخي الحاج...إن مما يلفت النظر في هذا الزمان أن كثيراً من الحجاج لم يستشعروا أن الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه، وترك أنواع الاستمتاعات -وتقدم من النصوص وأحوال السلف ما يدل على ذلك- فترى بعض الحجاج كأنه في نزهة وسياحة وقد اصطحب معه وسائل اللهو والترفيه، وأنواع الترفه، ومما ساعد في انتشار هذه الظاهرة بعض حملات الحج التي ما فتأت تنشر الدعايات المغرية والإعلانات المشوقة ولعلي أذكر تحقيقا نشر في بعض الجرائد حول هذه الظاهرة جاء فيه: «شهدت حملات الحج الداخلي منافسة محمومة للفوز بأكبر عدد من الحجاج، ولجأت بعض الحملات إلى تقديم خدمات مبالغ فيها للأثرياء الراغبين في الحج، منها: استقبال الحاج بسيارة فارهة، والسكن في مكة المكرمة داخل شقق راقية، أما في عرفة ونظرا لعدم وجود مبان فإن السكن سيكون في خيمة كبيرة مجهزة بوسائل الراحة والرفاهية كافة، حيث ستكون الأرضية من السيراميك مع توفير حمام سباحة، وخدمة فاكس وإنترنت وعيادة خاصة، وثلاث وجبات متنوعة بنظام البوفيه المفتوح، مع توفير المشروبات الساخنة والباردة على مدار الساعة، إضافة إلى خدمة الغسيل والكي المجاني. ووصلت أسعار بعض تلك الحملات إلى ما يقارب مائة ألف ريال. وقسمت بعض الحملات أسعارها إلى فئات الأولى الذهبية، والثانية الفضية، والثالثة المميزة، والرابعة الفاخرة...».
قلت: وهذا تكلف ظاهر يخالف هدي الإسلام الذي يأمر بعدم الإسراف في الأحوال العادية فما بالك في عبادة وشعيرة مطلوب فيها مفارقة الترفه، وترك الاستمتاعات، تقدم أن سفيان الثوري لما دخل على الخليفة المهدي، قال له -وقد رأى ما قد هيأه للحج-: اتق الله واعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج فأنفق ستة عشر ديناراً، وفي رواية: قال سفيان: ما هذه الفساطيط؟ ما هذه السرادقات؟ حج عمر بن الخطاب فسأل كم أنفقنا في حجتنا هذه؟ فقيل: كذا وكذا ديناراً -ذكر شيئا يسيراً فقال: لقد أسرفنا.
قلت: وقد جر هذا الترف والتوسع حرجاً ومضايقات على الحملات فكلما تأخرت وجبة غذائية أو تعذر شيء من وسائل الترفيه أقام بعض الحجاج الدنيا ولم يقعدها، وإذا لم يحضر نوع من أنواع المرطبات بدأ يزمجر، ويلقي التهم بالبخل والسرقة والنصب والاحتيال، ولكن لو اقتصر الأمر في الحملات على توفير الطعام العادي، بدون إسراف ولا مخيلة لحصل المقصود.
وأنبه أن الحاج ليس ممنوعا من الاغتسال ومن أكل الطيبات وفي ذلك نصوص وآثار عن السلف والعلماء ليس هذا موضع ذكرها.
فائدة: حديث ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: «الشّعث التّفل» رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الترمذي فقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه».
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، وإياكم والترفه والتوسع في الرفاهية، واعلموا أنكم في عبادة عظيمة الأجر فيها على قدر النّصب.

(5) الصالحون...وقلة الكلام في الحج إلا من ذكر الله عز وجل

- قال الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق قال: فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى حلّ، فقال: يا ابن أخي هكذا الإحرام.
- قال منصور بن المعتمر: كان شريح -هو: ابن الحارث القاضي- إذا أحرم كأنه حية صماء.
- وقال نافع مولى ابن عمر: لقد أدركت أقواما يطوفون بهذا البيت كأن على رءوسهم الطير خشعاً.
- وقال عطاء بن أبي رباح: رأيت عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يطوفان بالبيت جميعا كأن على رءوسهما الطير تخشعاً.
- وقال عطاء: طفت وراء ابن عمر وابن عباس فلم أسمع أحدا منهما يتكلم في الطواف.
- وقال عروة بن الزبير: خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته ونحن في الطواف فسكت ولم يجبني بكلمة! فقلت: لو رضي لأجابني والله لا أراجعه فيها بكلمة أبدا، فقدر له أن صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وأديت إليه من حقه ما هو أهله فأتيته ورحب بي، وقال: متى قدمت؟ فقلت: هذا حين قدومي، فقال: أكنت ذكرت لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا، وكنت قادرا أن تلقاني في غير ذلك الموطن، فقلت: كان أمرا قدر! قال: فما رأيك اليوم؟ قلت: أحرص ما كنت عليه قط! فدعا ابنيه سالماً وعبد الله فزوجني.
- وقال خلّاد بن عبد الرحمن: سألت سعيد بن جبير: أي الحاج أفضل؟ قال: من أطعم الطعام وكف لسانه. قال الثوري: سمعنا أنه من بر الحج. قلت: ويروى هذا مرفوعا ولا يصح.
التعليق: قال ابن قدامة -تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي: «ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء»-: «وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه...وهذا في حال الإحرام أشد استحباباً، لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف، وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحا رحمه الله كان إذا أحرم كأنه حية صماء، فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر بحاجته، أو يسكت، وإن تكلم بما لا مأثم فيه، أو أنشد شعرا لا يقبح، فهو مباح ولا يكثر».
قلت: وقد قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [الحج:197] قال العلامة السعدي في تفسيره (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج، وخصوصاً الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصاً عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو جميع المعاصي ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج».
أخي الحاج.. غفل بعض الحجاج عن هذا الهدي العظيم لسلفنا الصالح فأخذ يطلق لسانه في كل شيء، وربما لم يتورع عن السباب والمراء والخصومات، فضلا عن فضول الكلام، فتراه يشتم هذا، ويسب هذا، ويخاصم ذاك، وبقية نهاره في قيل وقال وكثرة الكلام!! فقل بربك: متى يقرأ هذا الصنف من الحجاج كتاب الله؟! ومتى يعيش مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت هذه حاله؟!
إن هذا النوع من الحجاج لم يستشعر حرمة الزمان والمكان والحال التي هو عليها، فالله المستعان.
إن على الحاج أن يجعل له برنامجا علميا وعمليا في الحج فيختم القرآن، ويحافظ على الأوراد والأذكار، ويلزم الدعاء في الليل والنهار، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الجاهل، ويساعد المحتاج. ويجاهد نفسه على ذلك، خاصة إذا كان في حملة من حملات الحج والتي يكون لفضول الكلام فيها لذة حيث إن الناس مجتمعون في مكان واحد، وليس عندهم شغل، والوضع مهيأ!.
ومن المهم التنبه إلى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالسكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة ولا مأمورا به، بل يفتح باب الوسوسة، فالاشتغال بذكر الله أفضل من السكوت، وقراءة القرآن من أفضل الخير وإذا كان كذلك فالذكر بالقرآن أفضل من غيره...».
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، واحذروا الجدال والمراء، وإياكم وفضول الكلام، واشتغلوا بالذكر وقراءة القرآن والعلم والتعليم.. فأيام الحج قليلة يوشك أن تنقضي.

( 6 ) الصالحون... وقوة العبادة في الحج

- قال أبو إسحاق السبيعي: حج مسروق -هو: ابن الأجدع- فما نام إلا ساجدا.
- قال محمد بن سوقة عن أبيه أنه حج مع الأسود فكان إذا حضرت الصلاة أناخ ولو على حجر، قال: وحج نيفا وسبعين.
- وقال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم، استند إلى القتب.
- وقال عبد العزيز بن أبي حازم: عادلني صفوان بن سليم إلى مكة فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع.
- قال محمد بن إسحاق: قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود حاجًّا، فاعتلت إحدى قدميه، فقام يصلي حتى أصبح على قدم، فصلى الفجر بوضوء العشاء.
قلت: تقدم التعريف بعبد الرحمن وبيان أنه سافر ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وقال الحكم بن عتيبة: لما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أسفاً على الصوم والصلاة!، قال: ولم يزل يقرأ القرآن حتى مات.
- قال أبو يحيي: صبحت سلم بن سالم في طريق مكة فما رأيته وضع جنبه في المحمل إلا ليلة واحدة ومد رجليه ثم استوى جالسا.
- وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما أنه إذا قدم إلى مكة طاف بالنهار خمسة، وبالليل سبعة، وكان يحب أن ينصرف على وتر من طوافه.
- وكان المغيرة بن الحكيم الصنعاني يحج من اليمن ماشيا، وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورده ثم يلحق بالركب متى لحق بهم، فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار.
- كان أبو بكر محمد بن واسع -زين القراء- يصلي في طريق مكة ليله أجمع غي محمله، يومئ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه، حتى يشغل عنه بسماع صوت الحادي فلا يتفطن له.
- قال أبو سليمان المكتب: صحبت كرزا إلى مكة فكان إذا نزل أخرج ثيابه فألقاها في الرحل ثم تنحى للصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل.
- وقال سفيان بن عيينة: سمعت ابن شبرمة يقول قلت لابن هبيرة:

لو شئت كنت ككرز في تعبـــــده ***أو كابن طارق حول البيت في الحرم

قد حال دون لذيذ العيش خوفهما ***وسارعا في طلاب الفوز والكـــــــــرم

فقال لي ابن هبيرة: من كرز ومن ابن طارق؟ قلت: أما كرز فكان إذا قدم مكة طاف ليله ونهاره، وأما ابن طارق يطوف في كل يوم وليلة سبعين أسبوعاً.
قال سفيان: فحدثني ابن المبارك قال: قدمت البصرة فسمع بي شعبة فأتاني، فسمع هذه الأبيات، فقلت: يا أبا بسطام، أنت تسمع هذا؟ قال: لو كنت في أقاصي البصرة في بني يشكر لأتيتك حتى أسمع هذا منك.
وقد عقد ابن أبي شيبة في «مصنفه» بابا قال فيه: «من كان يستحب إذا دخل الرجل مكة أن لا يخرج حتى يقرأ القرآن».
- ثم ذكر قول إبراهيم النخعي: كان يعجبهم إذا قدموا مكة أن لا يخرجوا منها حتى يختموا القرآن بها.
- وقال الحسن: كان يعجبهم إذا قدموا للحج أو العمرة أن لا يخرجوا حتى يقرءوا ما معهم من القرآن.
- وقال إبراهيم: قرأ علقمة القرآن في ليلة بمكة: طاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف سبعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثاني، ثم طاف سبعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن.
- وقال أبو الفرج الإسفراييني: كان الخطيب البغدادي معنا في الحج فكان يختم كل يوم قريب الغياب قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب فيقولون: حدثنا، فيحدث.
التعليق: القوة في العبادة مطلوبة شرعا قال تعالى: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63]، وقال تعالى: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) [البقرة: 93]، وقال تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 145]، وقال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12].
وتتأكد هذه القوة والعزم والحزم مع فضيلة الزمان والمكان وهو متوفر في هذه الشعيرة العظيمة «الحج»، وقد رأيت -أخي الحاج- كيف كانت عبادة سلفنا الصالح في الحج وقوتهم في ذلك لأنهم يستشعرون عظمة الزمان والمكان، وأن الحسنات تضاعف، والعبادة فيه أفضل من غيره، وقد وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة يدعو الله عز وجل من زوال الشمس إلى غروبها مبتهلا بالذكر والدعاء والإنابة والخشوع، رافعا يديه حتى إنه سقط زمام راحلته فأمسكه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى، ولم يمل ولم يتعب من طول القيام والدعاء.. إنها القوة في العبادة، واللذة في المناجاة!.
ومما يلفت النظر أن بعض الحجاج لا يراعي حرمة الزمان والمكان، ولا يستشعر أنه خرج من بيته وأهله وماله وبلده للحصول على الأجر والثواب، ولا يفرق بين كونه محرما أو غير محرم، فتراه يقضي وقته في قيل وقال، وقصص وفكاهات، وربما تناولوا فلانا وفلانا بالغيبة والسخرية، وربما أشغلهم الشيطان بالحديث عن أمور الدنيا والإغراق في ذلك والجدال والخصام، وربما حصل تبادل السباب بينهم، ولا شك أن من لم يشغل نفسه بالطاعة شغلته بالمعصية.
فما أحسن أن يعاهد الحاج نفسه من أول لحظة على القوة في العبادة ومجاهدة النفس على ذلك عسى أن يكون من المقبولين المقربين!
قال ابن رجب: «وقد كان السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها ويوتر عليها – ثم ذكر بعض الآثار المذكورة سابقا وقال: - سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم *** ونزلت بالبيداء أبعد منزل». قال ابن مفلح: «بات عند الإمام أحمد رجل فوضع عنده ماء، قال الرجل: فلم أقم بالليل، ولم أستعمل الماء، فلما أصبحت قال لي: لم لا تستعمل الماء؟ فاستحييت وسكت، فقال: سبحان الله! سبحان الله! ما سمعت بصاحب حديث لا يقوم بالليل. وجرت هذه القصة معه لرجل آخر فقال: أنا مسافر، قال: وإن كنت مسافرا، حج مسروق فما نام إلا ساجدا، قال الشيخ تقي الدين: فيه أنه يكره لأهل العلم ترك قيام الليل، وإن كانوا مسافرين».
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، واجتهدوا في العبادة، وأنواع الطاعات فإنما هي أيام يسيرة يوشك أن تنقضي، وربما لا يتيسر لك -أخي الحاج- تكرارها.

( 7 ) الصالحون .. والكرم والبذل والعطاء في الحج

- قال سليمان بن الربيع: انطلقت في رهط من نساك أهل البصرة إلى مكة فقلنا: والله لا نرجع حتى نلقى رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يحدثنا بحديث، فلم نزل نسأل حتى حدثنا أن عبد الله بن عمرو نازل في أسفل مكة، فعمدنا إليه، فإذا نحن بثقل عظيم، ويرتحلون ثلاثمائة راحلة؛ منها مائة راحلة، ومائتا زاملة، فقلنا: لمن هذا الثقل؟ فقالوا: لعبد الله بن عمرو، فقلنا: أكل هذا له؟ ! -وكنا نحدث أنه من أشد الناس تواضعا- فقالوا لنا: أما هذه المائة راحلة فلإخوانه يحملهم عليها، وأما المائتان فلمن نزل عليه من أهل الأمصار ولأضيافه، فعجبنا من ذلك! فقالوا: لا تعجبوا من هذا فإن عبد الله رجل غني، وإنه يرى حقا عليه أن يكثر من الزاد لمن نزل عليه من الناس، فقلنا: دلونا عليه، فقالوا: إنه في المسجد الحرام، قال: فانطلقنا نطلبه حتى وجدناه في دبر الكعبة جالسا بين بردتين وعمامة ليس عليه قميص، قد علق نعليه في شماله....
- وقال مصعب بن ثابت: لقد بلغني -والله- أن حكيم بن حزام حضر يوم عرفة معه مئة رقبة، ومئة بدنة، ومئة بقرة، ومائة شاة، قال: هذا كله لله فأعتق الرقاب، وأمر بذلك.
- وقال خلاد بن عبد الرحمن: سألت سعيد بن جبير: أي الحاج أفضل؟ قال: من أطعم الطعام وكف لسانه. قال الثوري: سمعنا أنه من بر الحج. قلت: ويروى هذا مرفوعاً ولا يصح.
- وقال مالك بن أنس: حج سعيد بن المسيب وحج معه ابن حرملة فاشترى سعيد كبشا فضحى به، واشترى ابن حرملة بدنة بستة دنانير فنحرها، فقال له سعيد: أما كان لك فينا أسوة؟ فقال: إني سمعت الله يقول: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) [الحج: 36] فأحببت أن آخذ الخير من حيث دلني الله عليه، فأعجب ذلك ابن المسيب منه، وجعل يحدث بها عنه.
- قال سفيان بن عيينة: حج صفوان بن سليم ومعه سبعة دنانير فاشترى بها بدنة، فقيل له: ليس معك إلا سبعة دنانير تشتري بها بدنة! قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) [الحج: 36].
- وقال إبراهيم النخعي: كان علقمة والأسود يحجان مع عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فكان يكفيهم نفقتهم.
- وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يحج بعضهم ببعض فيجزي ذلك عنهم.
- قال علي بن الحسن بن شقيق: كان عبد الله بن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن، فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، ولا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلواء، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا وصلوا إلى مكة وقضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فإذا صاروا إلى مرو جصص أبوابهم ودورهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام صنع لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وشربوا دعا بالصندوق ففتحه، ودفع إلى كل رجل منهم صُرة بعد أن كتب عليها اسمه.
- وقال عبد الرحمن بن عمر: كان عبد الرحمن بن مهدي يحج كل سنة وسمعته يقول: ما أحب أن يخلو مني الموسم -قال عبد الرحمن بن عمر: وظننت أنه كان يجهز ويعطي في الحج-.
- وقال عمرو بن قيس: حج خيثمة بن عبد الرحمن مع نفر من أصحابه فلما كانت ليلة جمع سمع رجلا يحدث رجلاً أن رجلاً جعفيًّا ذهبت نفقته وضلت راحلته فأتاه خيثمة فقال له: هل عرفت رحل هذا الرجل الذي أصيب وأين نزل منا؟ قال: نعم، موضع كذا وكذا، فأخبره بموضعه، فلما كان بعد الظهر من يوم النحر أتى الموضع فسأل عن الرجل فإذا هو برجل لا يعرفه، فسأل عما أصيب فأخبره فدفع إليه صرة كانت فيها ثلاثون دينارا وأثوابا كانت معه، فقال: تجهز بها إلى أهلك.
- قال إبراهيم الهروي: حج سعيد الجوهري فجعل معه أربعمائة رجل من الزوار سوى حشمه يحج بهم، وكان فيهم إسماعيل بن عياش، وهشيم بن بشير وكنت أنا معهم في إمارة هارون الرشيد.
التعليق: الكرم والبذل والعطاء والجود من الصفات المحمودة ولذا يوصف الله تعالى بالجود ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي والبزار وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جواد يحب الجود» والحديث وإن كان في إسناده مقال لكن له شواهد تقويه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ففي «الصحيحين» عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس.
وجوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في الأزمنة والأمكنة الفاضلة ففي حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
فتأمل كيف أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفاديا للهدي!!.
وقد ذكر الله في كتابه هذا المعنى فجعل الحج محلا للتعاون والبذل والإحساس بالآخرين وسد حاجة الفقراء والجوعى، يقول الله سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28]، وفي الآية الأخرى يقول: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج: 36]، والقانع هو الذي لا يسأل الناس إلحافا مع جوعه وإملاقه، والمعتر هو الفقير الذي يتكفف الناس.
أخي الحاج...احرص على البذل والعطاء والجود في الحج فقد توفر لك شرف الزمان والمكان والحال، ومن صور البذل والعطاء والجود في الحج:
- تحجيج الفقراء الذين لا يستطيعون الحج، والإنفاق عليهم كما تقدم عن الصالحين فعل ذلك.
- إطعام الطعام، وفي الإطعام أجر عظيم. قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8].
- توزيع الماء البارد (السقيا)، حيث كثرة الزحام والعطش.
- الصدقة بالمال: فإن الإنفاق من أعظم القربات وأجل الطاعات، والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدًّا، ومن بين هذا الجمع المبارك: الفقير وأصحاب الحاجات، ففي إعطائهم سد لجوعتهم وتفريج لكربتهم وإغناء لهم عن السؤال، حتى وإن كانت بالقليل من المال، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
قلت: وصور البذل والعطاء والجود والسخاء في الحج كثيرة من طلبها بصدق وفق لها. فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، وابذلوا وتصدقوا وإياكم والبخل والشح، فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع البلاء قال ابن القيم: «فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء؛ ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه...».

( 8 ) الصالحون... وماء زمزم

- قال ابن عيينة: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أشربه لظمأ يوم القيامة.
- وقال عكرمة: كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب من ماء زمزم قال: اللهم علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء.
- قال الحسن بن عيسى: رأيت ابن المبارك دخل زمزم فاستقى دلوا واستقبل البيت ثم قال: اللهم إن عبد الله بن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له» اللهم أني أشربه لعطش يوم القيامة فشرب.
- وقال أبو بكر محمد بن جعفر سمعت ابن خزيمة وسئل من أين أوتيت هذا العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علماً نافعاً.
- وقال ابن عساكر: سمعت الحسين بن محمد يحدث عن أبي الفضل بن خيرون أو غيره أن الخطيب البغدادي ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله ثلاث حاجات أخذا بالحديث «ماء زمزم لما شرب له» فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها، الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، الثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي، فقضى الله له ذلك.
- قال أبو بكر ابن العربي: ولقد كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، حتى فتح الله لي بركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله علي فيهما، ولم يقدر، فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل، ونسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته.
- وقال الحافظ أبو حازم العبدويي: سمعت الحاكم أبا عبد الله -إمام أهل الحديث في عصره- يقول: شربت ماء زمزم، وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف. وقال أبو الفضل بن الفلكي الهمذاني: كان كتاب «تاريخ النيسابوريين» الذي صنفه الحاكم أبو عبد الله بن البيع أحد ما رحلت إلى نيسابور بسببه، وبلغني أنه شرب ماء زمزم بنية التصنيف والجمع، فرزق حسن التصنيف.
- وفي ترجمة الشيخ يحيى بن أحمد الأنصاري القرطبي أنه شرب ماء زمزم لحفظ القرآن، فتيسر عليه حفظه في أقرب مدة.
- وفي ترجمة الحافظ البلقيني: أنه لم يكن له تقدم اشتغال في العربية وأنه حج... فشرب ماء زمزم لفهمها فلما رجع أدمن النظر فيها فمهر فيها في مدة يسيرة.
- وقال ابن حجر: واشتهر عن الشافعي الإمام أنه شرب ماءا زمزم للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعة، وشربه الحاكم أبو عبد الله لحسن التصنيف ولغير ذلك، فصار أحسن أهل عصره تصنيفا، ولا يحصى كم شربه من الأئمة لأمور نالوها، وقد ذكر لنا الحافظ زين الدين العراقي أنه شربه لشيء فحصل له.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وأنا شربته مرة وسألت الله -وأنا حينئذ في بداية طلب الحديث- أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حججت بعد مدة تقرب من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك المرتبة، فسألته رتبة أعلى منها، فأرجو الله أن أنال ذلك. وقال السيوطي: حكي عن شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر أنه قال: شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ، فبلغها وزاد عليها.
وأخبار العلماء والصالحين في هذا الباب كثيرة، ومن الممكن أن تفرد بجزء يجمعها ويحقق القول فيها.
التعليق: ثبت في «صحيح مسلم» في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «متى كنت ها هنا؟» قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: «فمن كان يطعمك؟» قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عُكَنُ بطني وما أجد علي كبدي سخفة جوع قال: «إنها مباركة إنها طعام طعم».
قال أبو بكر ابن العربي: «وقد اجتزأ به أبو ذر ليالي أقام بمكة ينتظر لقاء النبي ليستمع منه قال: حتى سمنت وتكسرت عكن بطني، وكان لا يجترئ على السؤال، ولا يمكنه الظهور، ولا التكشف، فأغناه الله بماء زمزم عن الغذاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا موجود فيه إلى يومه ذلك، وكذلك يكون إلى يوم القيامة لمن صحت نيته وسلمت طويته، ولم يكن به مُكذبا، ولا شربه مُجرِّبا، فإن الله مع المتوكلين وهو يفضح المجربين».
قال ابن القيم: «ماء زمزم: سيد المياه وأشرفها وأجلها قدرا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمناً، وأنفسها عند الناس، وهو هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل،... وفي «سنن ابن ماجه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له».
وقد ضعَّف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل – راويه عن محمد بن المنكدر – وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حج أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر صلى الله عليه وسلم عن نبيك أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له» وإني أشربه لظمأ يوم القيامة.
وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذا حسن، وقد صححه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعا وكلا القولين فيه مجازفة، وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورا عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض، فبرأت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريبا من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعا، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوما وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مرارا».
وقال أيضا: «ولقد أصابني أيام مقامي بمكة أسقام مختلفة، ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيهما من الشفاء أمرا عجيبا..».
قال ابن حجر -تعليقاً على قول البخاري «باب ما جاء في زمزم»-: «قوله: (باب ما جاء في زمزم) كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث على شرطه صريحاً، وقد وقع في مسلم من حديث أبي ذر أنها طعام طعم، زاد الطيالسي من الوجه الذي أخرجه منه مسلم: وشفاء سقم، وفي المستدرك من حديث ابن عباس مرفوعا: ماء زمزم لما شرب له، رجاله موثقون إلا أنه اختلف في إرساله ووصله، وإرساله أصح، وله شاهد من حديث جابر، وهو أشهر منه أخرجه الشافعي وابن ماجه، ورجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمل المكي فذكر العقيلي أنه تفرد به، لكن ورد من رواية غيره عند البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان ومن طريق حمزة الزيات كلاهما عن أبي الزبير عن جابر، ووقع في فوائد ابن المقرئ من طريق سويد بن سعيد عن ابن المبارك عن ابن أبي الموالي عن ابن المنكدر عن جابر، وزعم الدمياطي أنه على رسم الصحيح وهو كما قال من حيث الرجال إلا أن سويدا وإن أخرج له مسلم فإنه خلط وطعنوا فيه، وقد شذ بإسناده، والمحفوظ عن ابن المبارك عن ابن المؤمل وقد جمعت في ذلك جزءا، والله أعلم».
وفي حديث جابر بن عبد الله في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم -وحديث جابر أطول حديث في صفة الحج وأصل في هذا الباب- قال: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم»، فناولوه دلوا فشرب منه؟ .
وبركة ماء زمزم لا تختص بشربه بل تشمل الاغتسال به طلبا للشفاء، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي جمرة الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال: أبردها عنك بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» أو قال: «بماء زمزم» -شك همام-.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ورأيته -رأى أباه- غير مرة يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه. ويقتصر في ذلك على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح.
لطيفة: قال الحميدي: كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث «ماء زمزم لما شرب له» فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال: يا أبا محمد! أليس الحديث الذي قد حدثتنا في زمزم صحيحاً؟ فقال: بلى، فقال الرجل: فإني شربت الآن دلوا من زمزم على أن تحدثني بمائة حديث! فقال سفيان: اقعد. فقعد، فحدثه بمائة حديث.
تنبيه: يذكر على بعض الألسنة أن فضيلته ما دام في محله فإذا نقل يتغير وهو شيء لا أصل به، وقد وردت آثار عديدة عن السلف في نقل ماء زمزم، وأما ما ورد مرفوعا فلم يصح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من حمل شيئا من ماء زمزم جاز فقد كان السلف يحملونه».
فائدة: حديث لا يثبت: أخرج ابن ماجه (رقم (2061)، وعبد الرزاق (رقم: 9111) -ومن طريقه الطبراني في الكبير (رقم (11246)- والدارقطني (رقم: 2736) تحقيق التركي) وغيرهم عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت عند ابن عباس جالسا فجاءه رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم. قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله عز وجل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم».
وهذا الحديث لا يصح لما فيه من الاضطراب والاختلاف، ولم يصب من صححه بتعدد طرقه، والله أعلم.

( 9 ) الصالحون... ويوم عرفة

- قال سالم: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج، فخرج وعليه ملحفة معصفرة، فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة قال: هذه الساعة! قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي، فقلت: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف!، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله، قال: صدق.
- وقال داود بن أبي عاصم: وقفت مع سالم بن عبد الله بعرفة أنظر كيف يصنع، فكان في الذكر والدعاء حتى أفاض الناس.
- قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إليّ، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.
- وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا – يعني: سدس درهم – أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
- وقال عمر بن الورد قال لي عطاء بن أبي رباح: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
- وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه - يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة فيعتق رقيقه فيضج الناس بالبكاء والدعاء، يقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقنا. وجرى الناس مرة مع الرشيد نحو هذا.
- وقال يعلى بن حرملة: تكلم الحجاج يوم عرفة بعرفات فأطال الكلام فقال عبد الله بن عمر: ألا إن اليوم يوم ذكر فأمضى الحجاج، قال: فأعادها عبد الله مرتين أو ثلاثا ثم قال: يا نافع ناد بالصلاة فنزل الحجاج.
- عن سالم أن سعيد بن جبير أُفطر يوم عرفة لأتقوى على الدعاء.
- قال عبد الله بن بكر المزني: أفضت مع أبي من عرفة فقال لي: يا بني لولا أني فيهم لرجوت أن يغفر لهم.
قال الذهبي -تعليقاً عليهاً- قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها.
- قال بشر بن الحارث: رأي فضيل بن عياض رجلا يسأل في الموقف فقال له: أفي هذا الموضع تسأل غير الله عز وجل؟!
- ورأى سالم بن عبد الله بن عمر سائلا يسأل الناس في عرفة فقال: يا عاجز أفي هذا اليوم تسأل غير الله تعالى؟ !.
- قال ابن رجب: «كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء: وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لإله لولا أني فيهم!. وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوءتاه منك وإن عفوت. ومن العارفين من كان في الموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إلي، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم».
التعليق: إن يوم عرفة يوم مهيب، ومشهد عظيم، ومناسبة كريمة ليس في الدنيا مشهد أعظم منه روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟».
قال النووي: «هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة، وهو كذلك».
وفي مثل هذا اليوم وهذا المكان أنزل الله سبحانه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3] ففي «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
وفي مثل هذا اليوم وهذا المكان خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة جامعة تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين، وأهم مقاصده، ولقد كانت عبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهد الناس فيها على البلاغ.
إن أول شيء أكد عليه في النهي من أمر الجاهلية الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) شعار الإسلام وعلم الملة، كلمة تنخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة.
نعم إنه لا فائدة من حج لا يقوم على التوحيد.. ونبذ الشرك.. إن من يقول -وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشعائر- «مدد يا رسول الله» أو «مدد يا علي».. أو يذبح لغير الله، ويتوسل بالأولياء والصالحين.. ويدعوهم من دون الله.. لم يستشعر أن الحج شرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل، قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
وقد وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة يدعو الله عز وجل من زوال الشمس إلى غروبها مبتهلا بالذكر والدعاء والإنابة والخشوع رافعا يديه، حتى إنه سقط خطام ناقته فأمسكه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى، ولم يمل ولم يتعب من طول القيام والدعاء... إنها القوة في العبادة واللذة في المناجاة. عن جابر رضي الله عنه قال: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص.
وفي حديث أسامة بن زيد قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى.
قلت: ومع فضل صيام يوم عرفة وأنه يكفر سنتين كما في «صحيح مسلم» عن أبي قتادة الأنصاري صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» إلا أنه لا يشرع للحاج صيامه من أجل أن يقوى على الدعاء، قال الشافعي رحمه الله: «ترك صوم عرفة للحاج أحب إلي من صوم يوم عرفة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك صوم يوم عرفة، والخير في كل ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن المفطر أقوى في الدعاء من الصائم وأفضل الدعاء يوم عرفة». وقال ابن عبد البر: «قول الشافعي أحسن شيء في هذا الباب».
وفي «الصحيحين» عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بعضهم هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.
أخي الحاج... رأيت كيف كان حال سيد الأولين والآخرين في هذا اليوم، وسمعت أخبار الصالحين في هذا المشهد المهيب العظيم ذل وانكسار.. دعاء وافتقار.. بكاء وخشوع... وصدق في الالتجاء والانطراح بين يدي الرب سبحانه وتعالى.. لذا باهى الله بأهل عرفات الملائكة فقال: انظروا إلى عبادي شُعثا غبرا، ما أراد هؤلاء؟ !...الله أكبر!
أخي الحاج... ما نصيبك من هذا الخير في هذا اليوم...أين الدعاء والذل لله.. أين البكاء والخشوع والانكسار بين يدي الله عز وجل..
ما هذه القسوة من بعض الحجيج الذين يتجرأون على معاصي الله في أعظم أيام الله؟ ! كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستنكرت فكيف بالحاج وفي هذا اليوم؟! ومن تلك الأفعال:
- صعود جبل عرفة، والصلاة فيه، والتبرك به، وتعليق الخرق وكتابة الأوراق لإثبات أنهم بلغوا هذا المكان، وكل هذا من البدع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم دليل على مشروعيتها.
- شرب الدخان ـوللأسف هذا منتشر بين الحجاج-.
- التسول وسؤال الناس، وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
وتقدم أن الفضيل بن عياض رأى رجلا يسأل في الموقف فقال له: أفي هذا الموضع تسأل غير الله عز وجل؟!
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، وعظموا شعائر الله، واعرفوا لهذا اليوم قدره ومكانته، وأكثروا فيه من الذكر والدعاء والإنابة، وإياكم وفضول الكلام..فإنما هي سويعات قليلة يوشك أن تنقضي ثم لا تعود أبدا.. فالمسارعة المسارعة!.
لفتة جميلة: قال الشيخ الأديب علي الطنطاوي: «لو كان يجوز أن يحضر هذا الموقف غير المسلم لاقترحت على الأمم المتحدة أن توفد من يدعي المساواة ومحاربة العنصرية والتمييز بين الناس، ليرى هذا المشهد الذي لم تبصر عين الشمس مثيلاً له!.
مشهد متفرد ما رأى أحد ولن يرى مثله من هنا أعلن محمد صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان قبل أن تعلنها الثورة الفرنسية بأكثر من ألف عام.
أعلنها عملاً سبق القول، وأعلنوها قولاً ما بعده عمل!!. لما وقف في حجة الوداع في أكبر جمع إسلامي كان على عهده صلى الله عليه وسلم، فقرر حصانة الدماء والأموال والأعراض وحرمة التعدي عليها، وأن الناس سواء: ربهم واحد وأبوهم واحد (كلكم لآدم وآدم من تراب)، فلا يتكبر متكبر ولا يستعل مستعل، فما خلق الله واحداً من التبر وواحداً من الطين، بل الكل من التراب وإلى التراب، ثم إلى موقف الحساب، ثم إلى الثواب أو العقاب، ألغى شرف النسب والمال والجاه الموروث، فالكريم هو الكريم بمزاياه بأعماله، لا بأهله ولا بآله، ولا بثروته ولا بماله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]».
شعر جميل في وصف يوم عرفة وحال الحجيج فيه، قال ابن القيم رحمه الله في ميميته المشهورة:
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمة *** ومغفرة ممن يجود ويكرم

فلله ذاك الموقف الأعظم الذي*** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم

ويدنوا به الجبار جل جلاله *** يباهي بهم أملاكه فهو أكرم

يقول عبادي قد أتوني محبة *** وإني بهم بر أجود وأرحم

فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم *** وأعطيتهم ما أملوه وأنعم

فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفر الله الذنوب ويرحم

فكم من عتيق فيه كمل عتقه *** وآخر يستسعى وربك أرحم

وما رؤى الشيطان أغيظ في الورى *** وأحقر منه عندها وهو ألأم

وذاك لأمر قد رآه فغاظه *** فأقبل يحثو الترب غيظا ويلطم

لما عاينت عيناه من رحمة أتت***ومغفرة من عند ذي العرش تقسم

بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه *** تمكن من بنيانه فهو محكم

أتى الله بنيانا له من أساسه *** فخر عليه ساقطا يتهدم

وكم قدر ما يعلو البناء وينتهي *** إذا كان يبنيه وذو العرش يهدم

(10) الصالحون.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين في الحج

- قال بشر بن الحارث: رأى فضيل بن عياض رجلاً يسأل في الموقف فقال له: أفي هذا الموضع تسأل غير الله عز وجل؟!
- وقال يعلى بن حرملة: تكلم الحجاج يوم عرفة بعرفات فأطال الكلام، فقال عبد الله بن عمر: ألا إن اليوم يوم ذكر فأمضى الحجاج قال فأعادها عبد الله مرتين أو ثلاثا ثم قال: يا نافع ناد بالصلاة فنزل الحجاج. قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج.
- وقال أبو نعيم: قدم المهدي مكة وسفيان الثوري بمكة، فدعاه فقال له سفيان -وقد رأى ما قد هيأه للحج-: اتق الله واعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج فأنفق ستة عشر ديناراً، وفي رواية: قال سفيان: ما هذه الفساطيط؟ ما هذه السرادقات؟ حج عمر بن الخطاب فسأل: كم أنفقنا في حجتنا هذه؟ فقيل: كذا وكذا دينارا ـ ذكر شيئا يسيرا ـ فقال: لقد أسرفنا.
- وقال سفيان الثوري: أدخلت على المهدي بمنى فقلت له: اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار؛ وأبناؤهم يموتون جوعاً، حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينزل تحت الشجر فقال لي: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه! فقال لي: اخرج.
التعليق: قلت: ومن صور إنكار النبي صلى الله عليه وسلم للمنكر في الحج ما ثبت في «الصحيحين» عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله عز وجل على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع.
وفي هذا الحديث العظيم فوائد:
- مشروعية تغيير المنكر بحسب ما يقدر عليه إذا رآه.
- الرفق في إنكار المنكر وسلوك الحكمة في ذلك، وهذا أمر ينبغي التنبه له والتنبيه عليه قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي...والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر في ما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر كما في حديث أبي ثعلبة الخشني سألت عنها ـأي الآيةـ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك ـيعني بنفسكـ ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله»، فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهو معتد في حدوده، كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، فكان فساده أعظم من صلاحه!، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: «أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم».. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة».
- ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية.
- وفيه دليل على أنه يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء اللواتي لا يؤمن عليهن ولا منهن الفتنة، ومن الخروج والمشي منهن في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال وينظر إليهن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».
- وفيه إباحة الارتداف، وذلك من التواضع وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها سنن مرغوب فيها بحسن التأسي بها على كل حال، وجميل الارتداف بالجليل من الرجال.
ومن صور إنكار النبي صلى الله عليه وسلم للمنكر ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: «قده بيده»، وفي لفظ: «مر برجل وهو يطوف بالكعبة يقوده إنسان بخزامة في أنفه فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم أمره أن يقوده بيده»، بوب البخاري على هذا الحديث بقوله: «باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه»، قال ابن بطال: «وإنما قطعه لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم وهو مثله»، وقال ابن بطال أيضا: «في هذا الحديث: إنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال، وتغيير ما يراه الطائف من المنكر».
وقال النووي: «قطعه صلى الله عليه وسلم السير محمول على أنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا يقطعه».
قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة كتبها للحجاج جاء فيها: «ونصيحتي لنفسي ولإخواني الحجاج والمسلمين في كل مكان...أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به المسلمين كل بحسب استطاعته كما قال سبحانه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وجاء في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، فولاة الأمور يغيرون المنكر باليد ممن لهم عليهم ولاية، وهكذا كل من له قدرة على الإنكار باليد، كرب البيت، ورئيس الحسبة حسب ما لديه من الصلاحيات ونحوهم».
قلت: لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين هي سفينة النجاة لهذه الأمة الوسط، والعقلاء يعلمون أن من أعظم أسباب الفتن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، و ينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا...ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها، ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها».
ومجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة في موسم الحج وأهمها وأعظمها:
- التحذير من الشرك والبدع! وكم من شخص جاء إلى الحج وهو متلبس بالشرك وواقع في البدع، ثم رجع إلى بلده وهو داعية إلى التوحيد، ونبذ الشرك.
- ومنها كذلك النهي عن المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه من كذب وغش وخيانة وغيبة ونميمة واستهزاء، واستماع إلى المعازف والأغاني المحرمة، وشرب الدخان والتصوير وحلق اللحى، وكذلك يأمر بالحجاب ويحذر من السفور.
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واصبروا فإن الله مع الصابرين.

(11) الصالحون... وتمني أن يكون ختام حياتهم حجا

- قال خيثمة بن عبد الرحمن: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله إما حج، وإما عمرة، وإما غزوة، وإما صيام رمضان.
- وقال طلحة اليامي: كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث إما قال: وجبت له الجنة وإما قال: برئ من النار: من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات، ومن خرج حاجا فإذا قدم من حجته مات، ومن خرج معتمراً فإذا قدم من عمرته مات.
- وكتب محمد بن يوسف إلى الحكم بن بردة: يا أخي اتق الله الذي لا يطاق انتقامه، وكتب في آخر كتابه: إن استطعت أن تختم عمرك بحجة فافعل فإن أدنى ما يروى في الحاج أنه يرجع كيوم ولدته أمه.
- وقال ابن رجب: «كان السلف يرون أن من مات عقيب عمل صالح كصيام رمضان، أو عقيب حج أو عمرة، أنه يرجى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد».
التعليق: حسن الخاتمة هو أن يوفق العبد قبل موته فيعمل عملا صالحا ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، وقد كان السلف الصالح يسألون الله حسن الخاتمة، ويستعيذون من سوء الخاتمة وهم بذلك يستشعرون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم»، وفي روية: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».
قال ابن رجب: «وقوله (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد، لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة، قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن الشهادة لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته، وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق فكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون: بماذا يختم لنا، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا».
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يُحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على أعمال السيئة، قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأشبيلي رحمه الله: "وأعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباباً، ولها طرقاً وأبواباً أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبي عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد، ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد!».
قلت: وأخبار حسن خاتمة الصالحين، وسوء خاتمة المعرضين كثيرة، ليس هذا موضوع ذكرها، وقد أفردت فيها مؤلفات، غير أنه مما يجب التنبه له والتنبيه عليه أنه ما سمع ولا علم – ولله الحمد – بأن صاحب السريرة الصالحة والقلب السليم قد ختم له بسوء؛ وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته وباغته الموت قبل إصلاح الطوية كما تقدم في كلام ابن رجب.
فيا حجاج بيت الله حجوا كما حج الصالحون، وسلوا الله القبول وحسن الختام، وإياكم وذنوب الخلوات فهي سبب من أسباب الانتكاسات، وعليكم بطاعة الخلوات فهي طريق للثبات حتى الممات بإذن الله..

(12) الصالحون.. وتأمل حكم الحج وأسراره ولطائفه

أنقل في هذا الموضوع كلاما جميلا للشيخ عبد الرحمن السعدي قال فيه: «اتفق المسلمون على ما ثبت في الكتاب والسنة من وجوب الحج، وأنه أحد أركان الإسلام ومبانيه التي لا يتم إلا بها وعلى ما ورد في فضله وشرفه وكثرة ثوابه عند الله، وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وقد فرضه العليم الحكيم الحميد ـ في جميع ما شرعه وخلفه -، واختص هذا البيت الحرام وأضافه إلى نفسه وجعل فيه وفي عرصاته والمشاعر التابعة له من الحكم والأسرار ولطائف المعارف ما يضيق علم العبد عن معرفته، وحسبك أنه جعله قياما للناس، به تقوم أحوالهم ويقوم دينهم ودنياهم، فلولا وجود بيته في الأرض وعمارته بالحج والعمرة وأنواع التعبدات لآذن هذا العالم بالخراب، ولهذا من أمارات الساعة واقترابها هدمه بعد عمارته وتركه بعد زيارته، لأن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها، فمن حين يدخل فيه الإنسان يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ولا يزال هذا الذكر وتوابعه حتى يفرغ، ولهذا قال جابر رضي الله عنه: فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، لأن قول الملبي: لبيك اللهم لبيك، التزام لعبودية ربه وتكرير لهذا الالتزام لطمأنينة نفس وانشراح صدر، ثم إثبات جميع المحامد وأنواع الثناء والملك العظيم لله تعالى، ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته وحمده وملكه، هذا حقيقة التوحيد وهو حقيقة المحبة؛ لأنه استزارة المحب لأحبابه وإيفادهم إليه ليحظوا بالوصول إلى بيته، ويتمتعوا بالتنوع في عبوديته والذل له والانكسار بين يديه وسؤالهم جميع مطالبهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية في تلك المشاعر العظام والمواقف الكرام ليجزل لهم من قراه وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وليحط عنهم خطاياهم، ويرجعهم كما ولدتهم أمهاتهم، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ولتحقق محبتهم لربهم بإنفاق نفائس أموالهم، وبذل مهجهم بالوصول إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فأفضل ما أنفقت فيه الأموال، وأعظمه عائدة وأكثر فوائد إنفاقها في الوصول إلى المحبوب وإلى ما يحبه المحبوب، ومع هذا فقد وعدهم بإخلاف النفقة والبركة في الرزق، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ:39]، وأعظم ما دخل في هذا الوعد من الكريم الصادق إنفاقها في هذا الطريق.
وأفضل ما ابتذل به العبد قوته واستفرغ له عمل بدنه هذه الأعمال التي هي حقيقة الأعمار، فحقيقة عمر العبد ما قضاه في طاعة سيده، وكل عمل وتعب ومشقة ليست بهذه السبيل فهي على العبد لا للعبد.
ثم ما في ذلك من تذكر حال العابدين وأصفيائه من الأنبياء والمرسلين قال تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة:125] والصحيح أنه مفرد مضاف يشمل جميع مقاماته في الحج من الطواف والسعي والوقوف بالمشاعر والهدي وأصناف متعبدات الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن من مواطن الحج ومشاعره: «لتأخذوا عني مناسككم» فهو تذكير لحال الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وتذكير لحال سيد المرسلين وإمامهم، وهذا أفضل وأكمل أنواع التذكيرات للعظماء تذكيرا بأحوالهم الجليلة ومآثرهم الجميلة، والمتذكر لذلك ذاكر الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» ففي هذا من الإيمان بالله ورسله الكرام وذكر مناقبهم وفضائلهم ما يزداد به المؤمن إيمانا، والعارف إيقانا، ويحثه على الإقتداء بسيرهم الفاضلة، وصفاتهم الكاملة.
ثم ما في اجتماع المسلمين في تلك المشاعر واتفاقهم على عبادة واحدة ومقصود واحد، ووقوف بعضهم من بعض، واتصال أهل المشارق بالمغارب، في بقعة واحدة لعبادة واحدة ما يحقق الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، ويربط أقصاهم بأدناهم، ويعلمون أن الدين شاملهم، وأن مصالحه مصالحهم وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت منهم الأقطار.
فهذه إشارة يسيرة إلى بعض الحكم والأسرار المتعلقة بهذه العبادة العظيمة، فلله الحمد والثناء حيث أنعم بها عليهم، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا.
وهذه الحكم من أقوى البراهين والأدلة على سعة رحمة الله، وعموم بره، وأن الدين الحق الذي لا دين سواه هو الدين المشتمل على مثل هذه الأمور، والله تعالى أعلم».

(13) الصالحات... والحج

- الصالحة... أفضل جهادها الحج المبرور:
لحديث عائشة المتقدم قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور».
- الصالحة... تبادر للحج عند استطاعتها:
لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]، وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران: 133]، والحج يجب على الفور لا على التراخي، للنصوص السابقة، ولأن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور.
- الصالحة... لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم:
لحديث أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعه محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله، اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة قال: «اذهب فحج مع امرأتك».
- الصالحة...لا تخلو بالرجل الأجنبي في الحج وغيره؛ لحديث أبي معبد عن ابن عباس، وتقدم ذكره. ولحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم». وحديث ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي...ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
قال النووي: «وفي هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمها، وهذان الأمران مجمع عليهما» وحكى الإجماع أيضاً ابن حجر وغيره.
- الصالحة... تشترط في الحج والعمرة إذا خافت الضرر على نفسها؛ لحديث عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: «لعلك أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة. فقال لها: «حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني».
- الصالحة... لا تخالط الرجال في الحج قدر المستطاع؛ قال ابن جريج: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطهن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك! وأبت، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال.
قلت: ومعنى هذا الخبر أن ابن هشام أراد أن يجعل للرجال وقتا يطوفون فيه، وللنساء وقتا آخر يطفن منفردات، فبين عطاء بن أبي رباح أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن أطهر النساء كن يطفن مع الرجال ولكن منفردات من غير اختلاط.
وهذا الأمر في هذا الزمان أصبح صعبا بسبب أحوال الناس -وإن كان ممكنا- فعلى المرأة أن تتقي الله ما استطاعت.
وفي الحديث عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي قال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
قال النووي: «إنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالطواف من وراء الناس لشيئين: أحدهما أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف. والثاني: أن قربها يخاف منه تأذي الناس بدابتها، وكذا إذا طاف الرجل راكبا، وإنما طافت في حال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أستر لها وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح».
- الصالحة... تسأل عن دينها في الحج: ففي الحديث عن عبد الله بن عباس قال: -جاءت امرأة من خثعم... فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع.
وفي الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: «رسول الله»، فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر».
- الصالحة.. لا تنتقب ولا تلبس القفازين: لحديث ابن عمر وفيه: «ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «البرقع أقوى من النقاب»، وقال ابن القيم: «فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه، بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى!، ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام»، وقال ابن حزم: «وأما اللثام فإنه نقاب بلا شك فلا يحل لها».
ولكن إذا كان هناك رجال أجانب فإن المحرمة تغطي وجهها بغير النقاب والبرقع وما في معناهما مما هو مفصل للوجه كما في النقطة التالية:
- الصالحة... تستر وجهها في الحج وغيره عن الرجال الأجانب؛ لعموم النصوص الواردة في وجوب الحجاب عن الرجال الأجانب، وللنصوص الخاصة الواردة في تغطية المحرمة وجهها عن الرجال الأجانب، من ذلك:
ما رواه الإمام في «الموطأ» عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق.
قال ابن القيم: «ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن، وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة ما تلبس المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها، فجاوزت طائفة ذلك ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا: وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت!، ولا دليل على هذا البتة، وقياس قول هؤلاء أنها إذا غطت يدها افتدت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين، هذا للبدن، وهذا للوجه، وهذا لليدين، ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها!!».
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجب على المرأة إذا سدلت الجلباب على وجهها أنه ترفعه كما تفعل بعض النساء، بل هذا فيه مشقة شديدة، لا تأتي به الشريعة، فلا حرج أن يمس الحجاب بشرتها وتقدم التنبيه على هذا في كلام ابن القيم السابق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضا، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد ولا غير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه. وأزواجه صلى الله عليه وسلم كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة. ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إحرام المرأة في وجهها، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب أو تلبس القفازين، كما نهى المحرم أن يلبس القميص والخف مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه فإنه كالنقاب».
- الصالحة.. تنفق وتبذل وتعطي في الحج: لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك فقيل لها: انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك، وفي لفظ: «إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك».
قال النووي: «هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة».
- الصالحة.. تأخذ بالرخصة في الحج: من تأمل الحج وما فيه من مشقة وجهد خاصة للنساء -ولذا كان في حقهن جهاد- رأى أن الشريعة خففت عن المرأة في مواضع عدة من أحكام الحج خشية الضرر والزحام، ومن النصوص الواردة في ذلك:
- حديث سالم بن عبد الله بن عمر وفيه: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلسنا! قالت: يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن.
- الصالحة... لا تستلم الحجر الأسود خشية مزاحمة الرجال: لحديث عائشة المتقدم – وهو في «صحيح البخاري» - وفيه: فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك! وأبت.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: طافت امرأة مع عائشة رضي الله عنها سماها فلما جاءت الركن قالت المرأة: يا أم المؤمنين، ألا تستلمين!، قالت عائشة: وما للنساء وما استلام الركن امض عنك.
قال ابن عبد البر: «الاستلام للرجال دون النساء عن عائشة وعطاء وغيرهما وعليه جماعة الفقهاء، فإذا وجدت المرأة الحجر خاليا واليماني استلمت إن شاءت، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول للنساء: إذا وجدتن فرجة فاستلمن و إلا فكبرن وامضين».
قال ابن قدامة: «ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه».
قلت: وقد غفلت كثير من الصالحات عن هذا الهدي فزاحمن الرجال طلبا للأجر وفي الأثر عن عائشة رضي الله عنها أن مولاة لها قالت: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: لا أجرك الله، لا أجرك الله، تدافعين الرجال؟! ألا كبرت ومررت؟!
- الصالحة.. تتعلم أحكام الحج وتعلم غيرها: وفي الحديث عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.
فتأمل كيف قطعت هذه الصحابية الجليلة الخلاف في هذه المسألة بأسلوب لطيف حكيم!، فتعلمت وعلمت غيرها.
- الصالحة.. تحج بأولادها ما لم تخش الضرر: لحديث ابن عباس المتقدم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال: «من القوم؟» قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: «رسول الله»، فرفعت إليه امرأة صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر».
قال أبو محمد ابن حزم: «ونستحب الحج بالصبي وإن كان صغيرا جدا أو كبيرا وله حج، وهو تطوع، وللذي يحج به أجر، ويجتنب ما يجتنب المحرم، ولا شيء عليه إن واقع من ذلك ما لا يحل له، ويطاف به، ويرمي عنه الجمار إن لم يطق ذلك، ويجزئ الطائف به طوافه ذلك عن نفسه، وكذلك ينبغي أن يدربوا ويعلموا الشرائع من الصلاة والصوم إذا أطاقوا ذلك، ويجنبوا الحرام كله والله تعالى يتفضل بأن يأجرهم ولا يكتب عليهم إثما حتى يبلغوا».
تنبيهات:
1- المرأة كالرجل في سائر الأحكام، إلا ما ورد الدليل على استثنائه.
2- يعجب المرء من حال بعض النسوة في هذه العبادة العظيمة حيث يظهرن الزينة والتجمل أمام الرجال خاصة يوم العيد، ويلبسن الضيق من الثياب والبنطال الذي يصف العورة بدون حياء ولا خجل ولا خوف، فلتحذر المسلمة من هذا العمل القبيح ولتنصح غيرها!.
3- بعض النسوة لا تتورع عن الغيبة والنميمة والقيل والقال في الحج خاصة مع فراغهن في المخيمات وعدم وجود ما يشغل، وهذا خطأ كبير ينبغي أن تتفطن له المسلمة، وأن تنشغل بقراءة القرآن والأدعية والأذكار، وقراءة كتب العلم النافعة، والاستماع للمحاضرات الطيبة.

(14) صفة الحج كاملة

قال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: «فإن أحسن ما يؤدي به المسلم مناسك الحج والعمرة أن يؤديها على الوجه الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال بذلك محبة الله ومغفرته (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
وأكمل صفة في ذلك التمتع لمن لم يسق الهدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أصحابه وأكده عليهم وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم».
* والتمتع: أن يأتي الحاج بالعمرة كاملة في أشهر الحج ويحل منها ثم يحرم بالحج في عامه.

العمرة

1- إذا وصلت إلى الميقات وأردت الإحرام بالعمرة فاغتسل كما تغتسل من الجنابة إن تيسر لك، ثم البس ثياب الإحرام إزاراً ورداء (والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير متبرجة بزينة) ثم قل: «لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
ومعنى «لبيك» أجبتك إلى ما دعوتني إليه من الحج أو العمرة.
2- فإذا وصلت إلى مكة فطف بالبيت سبعة أشواط طواف العمرة، تبتدئ من الحجر الأسود وتنتهي إليه، ثم صل ركعتين خلف مقام إبراهيم قريبا منه إن تيسر أو بعيداً.
3- فإذا صليت الركعتين فاخرج إلى الصفا واسع بين الصفا والمروة سبع مرات سعي العمرة تبتدئ بالصفا وتختم بالمروة.
4- فإذا أتممت السعي فقصر شعر رأسك.
وبذلك تمت العمرة ففك إحرامك والبس ثيابك.

الحج

1- إذا كان ضحى اليوم الثامن من ذي الحجة فاحرم بالحج من مكانك الذي أنت نازل فيه، فاغتسل إن تيسر لك والبس ثياب الإحرام، ثم قل: لبيك حجًّا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
2- ثم اخرج إلى منى وصل بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع.
3- فإذا طلعت الشمس فسر إلى عرفة وصل بها الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين ركعتين، وامكث فيها إلى غروب الشمس، وأكثر من الذكر والدعاء هناك مستقبل القبلة.
4- إذا غربت الشمس فسر من عرفة إلى مزدلفة وصل بها المغرب والعشاء والفجر، ثم امكث فيها للدعاء والذكر إلى قرب طلوع الشمس.
5- وإن كنت ضعيفا لا تستطيع مزاحمة الناس عند الرمي فلا بأس أن تسير إلى منى آخر الليل لترمي الجمرة قبل زحمة الناس.
6- فإذا قرب طلوع الشمس فسر من مزدلفة إلى منى، فإذا وصلت إليها فاعمل ما يلي:
أ- ارم جمرة لعقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى وكبر مع كل حصاة.
ب- اذبح الهدي وكل منه ووزع على الفقراء، والهدي واجب على المتمتع والقارن.
ج- احلق رأسك أو قصره، والحلق أفضل (المرأة تقصر منه بقدر أنملة).
7- تعمل هذه الثلاثة مبتدئا بالرمي ثم الذبح ثم الحلق إن تيسر، وإن قدمت بعضها على بعض فلا حرج.
8- وبعد أن ترمي وتحلق أو تقصر تحل التحلل الأول؛ فتلبس ثيابك ويحل لك جميع محظورات الإحرام إلا النساء.
9- ثم انزل إلى مكة وطف طواف الإفاضة (طواف الحج) واسع بين الصفا والمروة سعي الحج.
10- وبهذا تحل التحلل الثاني ويحل لك جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
11- ثم اخرج بعد الطواف والسعي إلى منى فبت فيها ليلتي أحد عشر وأثني عشر.
12- ثم ارم الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر بعد الزوال، تبدئ بالأولى وهي أبعدهن عن مكة، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات، تكبر مع كل حصاة، وتقف بعد الجمرة الأولى والوسطى تدعو الله مستقبل القبلة، ولا يجزئ الرمي قبل الزوال في هذين اليومين.
13- فإذا أتممت الرمي في اليوم الثاني عشر فإن شئت أن تتعجل فاخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن شئت أن تتأخر – وهو أفضل – فبت في منى ليلة الثالث عشر وارم الجمرات الثلاث في يومها بعد الزوال كما رميتها في اليوم الثاني عشر.
14- فإذا أردت الرجوع إلى بلدك فطف عند سفرك بالكعبة طواف الوداع سبعة أشواط. والحائض والنفساء ليس عليهما طواف الوداع».

(15) الصالحون والصالحات.. وختام حجهم

بعد هذه الجولة الجميلة مع أخبار الصالحين والصالحات وسيرهم في الحج والتي رأينا فيها:
- فقها سليما لحقيقة الحج ومقصده وحكمته وغايته.
- وقوة في العبادة وصدقا في الالتجاء والانطراح بين يدي الرب سبحانه وتعالى.
- وصفا أرواح تستشعر قربها من الله في هذه الشعيرة العظيمة.
- ومن إخاء ومحبة وبذل وعطاء.....
إن هذه الآثار تصور لنا الحاج ذلكم المسلم التقي النقي، الخاشع الذليل، الذي يتحفظ في أقواله فلا يطلق لسانه في قبل وقال وفضول الكلام، ويتحفظ في فعاله، وينشط في عبادته فتراه تارة في صلاة، وتارة يقرأ القرآن، وتارة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كريم يبذل ماله وعلمه ووقته في خدمة المسلمين، حريص على لقاء العلماء والصالحين والفضلاء، لا يتوسع في المآكل والملابس والمراكب والمساكن، يستشعر حرمة الزمان والمكان، ويستشعر أنه خرج من بيته وأهله وماله وبلده للحصول على الأجر والصواب... فهذا هو حج الصالحين.
وفي ختام حج الصالحين نلحظ أمورا منها:
- الإكثار من ذكر الله والتوجه إليه بالدعاء وحده لا شريك له، عملا بقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 200، 201]، هكذا أمر الله بذكره عند انقضاء المناسك، لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على رسوله هذه الآية.
قال عطاء بن أبي رباح: ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
قال ابن رجب: «وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة».
- ونلحظ أيضا في أخبار الصالحين: المداومة على العمل الصالح بعد الحج، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ قال: أن تعود زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة.
أخي الحاج: ليكن حجك حاجزا لك عن مواقع الهلكة، ومانعا لك من المزالق المتلفة، وباعثا لك إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل، فما أجمل أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخلق الأكمل، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن تعود حسن المعاملة، كريم المعاشرة، طاهر الفؤاد، إن من يعود بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة فهو حقا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.
اللهم تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم، الله اجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكورا، وذنبهم مغفورا، اللهم اجعل سفرهم سعيدا، وعودهم إلى بلادهم حميدا، اللهم هون عليهم الأسفار، وأمنهم من جميع الأخطار، اللهم احفظهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، اللهم واجعل دربهم درب السلامة والأمان، والراحة والاطمئنان، اللهم وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبيهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين...
وصلى الله على عبده ورسوله خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة