الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حتى تنكح زوجاً غيره

حتى تنكح زوجاً غيره

حتى تنكح زوجاً غيره

بعد حديث القرآن عن الطلاق الرجعي، والطلاق البائن بينونة صغرى، تحدث عن الطلاق البائن بينونة كبرى، وذلك قوله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} (البقرة:230). فالمطلقة ثلاثاً -وهي التي يسميها الفقهاء بائنة بينونه كبرى- تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق، وبيَّن أنه مرتان، ثم ذكر حكم الخلع، وأعقبه بقوله: {فإن طلقها} فدل على أن المراد به الطلاق الثالث. قال القرطبي: "المراد بقوله تعالى: {فإن طلقها} الطلقة الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه". والحديث عن الأحكام التي تضمنتها هذه الآية تنظمه المسائل الآتية:

المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن المراد بقوله سبحانه: {فإن طلقها} الطلقة الثالثة، وأن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها {من بعد حتى تنكح زوجا غيره}. واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل؛ فمذهب الجمهور من العلماء أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد، والغسل، ويفسد الصوم، والحج ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق. فـ (النكاح) بحسب مذهب الجمهور ها هنا الجماع. وذهب سعيد بن المسيب ومن وافقه إلى أن مجرد العقد كاف. قال ابن المنذر: "وهذا قول لا نعلم أحداً وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسُّنَّة مستغنى بها عما سواها"، يريد بقوله هذا قوله صلى الله عليه وسلم لرفاعة حين طلق زوجته ثلاثاً: (حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) متفق عليه، وهذا كناية عن الجماع.

المسألة الثانية: اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقال الحنفية: إذا خالع الرجل زوجته، ثم طلقها وهي في العدة، لحقها الطلاق ما دامت في العدة. وقال أكثر أهل العلم: إن الطلاق لا يلزمها.

المسألة الثالثة: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك وأحمد: المحلل إذا نكح المطلقة بقصد تحليلها لزوجها الأول، ثم بدا له أن يمسكها، فلا يجوز له ذلك، وعليه أن يستقبل نكاحاً جديداً، فإن كان قد دخل بها، فلها مهر مثلها، ولا تُحِلُّها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما، إذا تزوجها بقصد أن يُحِلَّها لزوجها الأول، ولا يُقر على نكاحه، ويُفسخ. وقال الحنفية: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء. وقال الشافعي: النكاح صحيح إذا لم يشترط، فإذا عقد بشرط التحليل، فنكاحه باطل. فتحصل أن مذهب الجمهور بطلان الزواج، إذا كان القصد منه تحليل المطلقة لزوجها الأول. قال ابن كثير: "المقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج...فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو (المحلل) الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة".

وقال الشيخ رشيد رضا: "ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً، هو ما كان زوجاً صحيحا عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه (صوريًّا) غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، فإن عادت إليه كانت حراماً، ومثال ذلك من طهر الدم بالبول، وهو رجس على رجس، ونكاح التحليل شر من نكاح المتعة وأشد فساداً وعاراً...وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم".

على أن في (التحليل) مفاسد كثيرة نبه عليها العلماء، وقد عقد ابن القيم في كتابة القيم "إعلام الموقعين" فصولاً في بيانها. وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، فالصواب ألا ينسب إلى الشريعة حله.

المسألة الرابعة: مذهب المالكية والحنابلة أنه يُشترط في نكاح التحليل أن يكون الوطء حلالاً، فإن وطئها في حيض، أو نفاس، أو إحرام من أحدهما، أو منهما، أو أحدهما صائم فرضاً، لم تحل؛ لأنه وطء حرام لحق الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال، كوطء المرتدة. وقال الحنفية والشافعية: النكاح صحيح، وتحل المطلقة به لزوجها الأول؛ لأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام. قال ابن قدامة: "وهذا أصح إن شاء الله".

المسألة الخامسة: مذهب الشافعية والحنفية أن المسلم إذا طلق زوجته الذمية ثلاثاً، فنكحها ذمي، ودخل بها، ثم طلقها، أن الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول. قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الله تعالى قال: {حتى تنكح زوجا غيره} والنصراني زوج. وقال مالك وأحمد: لا يحلها الذمي، بل لا بد أن يكون الزوج مسلماً.

المسألة السادسة: اتفق أئمة الفقهاء أن النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثاً، ولا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح؛ لأن النكاح الفاسد لا يسمى نكاحاً.

المسألة السابعة: قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت، ودخل علي زوجي، وصدقها، أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته".

المسألة الثامنة: إذا اتفق الرجل والمرأة على الزوج بقصد تحليل المرأة لزوجها الأول، فلا يقام عليهما حد الزنا بالاتفاق. أما ما روي عن عمر رضي الله عنه من قوله: (لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما)، وكذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (التحليل سفاح، ولا يزالان زانيين، ولو أقاما عشرين سنة)، فقد قال ابن عبد البر: "لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ؛ لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه وضع الحد عن الواطئ فرجاً حراماً، قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك، ولا خلاف أنه لا رجم عليه".

المسألة التاسعة: قوله سبحانه: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الزوج إذا طلق زوجته ثلاثاً، ثم انقضت عدتها، ونكحت زوجاً آخر، ودخل بها، ثم فارقها، وانقضت عدتها، ثم نكحت زوجها الأول، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة، أو تطليقتين، ثم تتزوج غيره، ثم ترجع إلى زوجها الأول، فمذهب الجمهور أنها تكون على ما بقي من طلاقها. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: النكاح جديد، والطلاق جديد".

المسألة العاشرة: قوله سبحانه: {إن ظنا أن يقيما حدود الله} شرط عام في الزواج، أي: إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالزواج، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته، أو صداقها، أو شيء من حقوقها الواجبة عليه، فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من امتاعها، كان عليه أن يبين؛ كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه، ولا مال له، ولا صناعة يذكرها، وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع استمتاع الزوج بها، من جنون، أو جذام، أو برص، أو داء في الفرج، لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك. ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيباً فله الرد؛ فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج، وأخذ ما كان أعطاها من الصداق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة