الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ولله ما في السماوات وما الأرض

ولله ما في السماوات وما الأرض

ولله ما في السماوات وما الأرض

أرشد القرآن الكريم إلى أن الصلح بين الزوجين في حال وقوع خلاف بينهما هو الخير لهما، ولأسرتهما، ثم بين أن الصلح بين الزوجين إذا كان لا سبيل إليه، فإن الفراق بينهما هو الخير لكليهما، فقال سبحانه: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما} (النساء:130) ثم أتبع ذلك بآيتين على صلة بختام الآية المتقدمة، فقال سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا * ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء:130-132).

هذه الآيات الثلاث يرد عليها سؤالان:
الأول: الغرض من تكرار قوله سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} ثلاث مرات مع تقارب الكلام واتصاله.

الثاني: وجه اختلاف خواتيم كل آية من الآيات الثلاث؛ حيث خُتمت الآية الأولى بقوله تعالى: {وكان الله واسعا حكيما}، والثانية بقوله عز وجل: {وكان الله غنيا حميدا}، والثالثة: بقوله سبحانه: {وكفى بالله وكيلا}.

والجواب عن السؤال الأول: أنه إذا أعيد الكلام لأسباب مختلفة، لم يسمَّ تكراراً؛ بيان ذلك أنه سبحانه بعد أن أذن أولاً للزوجين في أن يتفرقا بطلاق، أردف ذلك ببيان أنه هو سبحانه الذي يغني كلاً منهما، وإن كان قبل ذلك أغنى كل واحد منهما بصاحبه، فإنهما بعد الفرقة يرجوان الغنى من عنده؛ لأنه واسع الرزق، وواسع المقدرة، فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وأرزاق العباد من جملتها. فهذا وجه إتباع الآية الأولى بقوله عز من قائل: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}.

وبعد أن بين سبحانه أنه وصى الأولين والآخرين بتقواه والاستجارة بطاعته من عقوبته، خاطب سبحانه عباده بأنهم إذا عصوا أوامره، وكفروا بأنعمه، لم يكن لله حاجة في طاعتهم، وإنما هم محتاجون إليه سبحانه؛ إذ هو غني بنفسه، غني عن عباده، والواجب عليهم طاعته؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض، ولأنه تفضل على خلقه بالإحسان إليهم، والإنعام عليهم. وهذا وجه إتباع الآية الثانية بقوله عز وجل: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}.

ثم بعد أن ذكر سبحانه أنه أوجب طاعته على الأولين والآخرين؛ لأنه ملك ما في السماوات وما في الأرض، وأنعم عليهم من جميل فضله وعموم إحسانه، اقتضى ذلك أن يخبرهم عن دوام هذه القدرة له، فكأنه قال: وله ذلك دائماً، وكفى به له حافظاً، فقال: {وكفى بالله وكيلا} أي: لا زيادة على كفايته في حفظ ما هو موكول إلى تدبيره ورعايته وعنايته، و(الوكيل) هو القيم بمصالح الشيء، وما قام الله تعالى بمصالحه فهو حافظه. وهذا وجه تكرار قوله سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} في الآية الثالثة.

فبان بما تقدم أن تكرار قوله سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} ثلاث مرات في هذه الآيات المتواليات، إنما كان لتقرير معان مختلفة، وبالتالي فلا يدخل في التكرار الذي لا فائدة منه، قال ابن جماعة: "التكرار إذا كان لاقتضائه معان مختلفة فهو حسن".

أما الجواب عن السؤال الثاني، فيقال: إنه لما بين سبحانه أن الفراق بين الزوجين في حال عدم إمكان التوفيق بينهما هو الخير لهما من جهة أنه سبحانه يغني كلاً منهما عن الآخر؛ فيرزق الزوجة خيراً من مطلِّقها، ويرزق الزوج خيراً من مطلَّقته، نقول: بعد أن قرر سبحانه هذا الأمر، ناسبه أن يختمه بما يؤكده، فقال: {وكان الله واسعا حكيما} فهو سبحانه واسع العطاء، بحيث يسع عطاؤه جميع المخلوقات، فكل مخلوق مشمول بعطائه سبحانه، لا يفوته شيء قدَّره الله له. وأيضاً، فهو سبحانه حكيم في أفعاله، يعلم ما يناسب كل واحد من الزوجين من حيث الغنى والفقر، ومن حيث عدم إمكانية استمرار الحياة الزوجية بينهما، وإمكانيتها مع غير كل منهما. وأتبع سبحانه بما يلائم ذلك ويزيده وضوحاً من إخباره تعالى من أن السماوات والأرض وما فيهما ملكه تعالى، فقال: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}.

وبعد أن بين سبحانه في الآية الثانية أنه محسن لعباده بتوصيتهم بالتقوى، المثمرة لهم السلامة من شديد عذابه، والنجاة من أليم عقابه، وأنه ليس به إلى تقواهم من حاجة، ولا يعود إليه سبحانه من كل ذلك منفعة؛ إذ هو الغني عن جميع خلقه، وعن عبادتهم، حيث قال: {وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض} كما قال تعالى في آية أخرى: {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد} (إبراهيم:8)، وقال تعالى: {فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد} (التغابن:6)، نقول: بعد أن بين ذلك سبحانه ناسبه أن يختم الآية بقوله: {وكان الله غنيا حميدا} وذلك أن كل من في السماوات والأرض ملك له سبحانه، وتحت قهره، وفي قبضته، يفعل فيهم ما يشاء، ولا يكون منهم إلا ما يشاؤه سبحانه ويريده، فهو الغني عن عباده الحميد بأفعاله وأحكامه.

وأما قوله في ختام الآية الثالثة: {وكفى بالله وكيلا} فلأنه لما كان المعنى أنه سبحانه دائم القدرة، أخبر أن ما يحفظه مما في السماوات وما في الأرض يكتفي به حافظاً؛ إذ ملكه عليه دائم، وتدبيره فيه قائم.

وبما تقدم يتبين أن مدار الأمر في الجواب على السؤالين أمران اثنان: أحدهما: أن تكرار قوله سبحانه: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} إنما كان لاختلاف المعنى. ثانيهما: أن مناسبة ختام كل آية جاء على وفق مضمونها ومرادها. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة