الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

زجر المفسدين عن ارتكاب الجرائم

زجر المفسدين عن ارتكاب الجرائم

زجر المفسدين عن ارتكاب الجرائم

من الناس من تؤثر فيه الموعظة البليغة والكلمة الحانية الرقيقة، فيكفُّ عن العصيان وينقلب حاله من غيٍّ إلى رشاد ومن زيغ إلى اهتداء، ومنهم أيضا من لا يزيده اللين إلا إمعاناً في الغيِّ والضلال، وإصراراً على العنف والإجرام، ولهذا وضعت الشريعة مقاييس لكلا الصنفين.

ومن هنا كان "في تطبيق العقوبة الشرعية زجراً للمتهم عن الإقدام على الجريمة مرة أخرى، وذلك يساهم إلى حد كبير في إضعاف وتقليل نسبة الجريمة؛ لأن الحكمة من العقوبات أو الحدود الشرعية هي زجر الناس، وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن ممارسة ألوان الفساد، والتخلّص من ظاهرة الإجرام بقدر الإمكان" (1).

وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حدٌّ يقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين صباحا). رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان، والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت، انكف الناس أو أكثرهم، أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات، وإذا ارتكبت المعاصي كانت سبباً في انمحاق البركات من السماء والأرض.

إن العقوبة ليست وليدة الشريعة الإسلامية بل نصت عليها كل الشرائع السماوية، وعند التأمل في النصوص الخاصة بها في التوراة والإنجيل؛ نجد غايتها واضحة وهي حماية الفضيلة والأخلاق وتحقيق العدالة، حسب مبدأ تساوي العقوبة مع الجريمة.

وقد جاء في التوراة ما يؤكد هذا المبدأ حيث قال تعالى مشيرا إلى ما جاء فيه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون* وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} (المائدة: 46-45).

فالمراد من ذلك كله الزجر والردع عن الإقدام على هذه الجرائم الشنعاء، وذلك يتبين من خلال تتبع موارد العقوبات في القرآن الكريم؛ ففي جريمة الزنا أمر الشارع بأن يحضر حال تنفيذ الحد جماعة من المؤمنين، قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور: 2). ولاحِظْ كيف دعا القائمين على إقامة الحد إلى التجرد من العاطفة في قوله: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}؛ لأن مفسدة ترك المجرم دون زجر، أعظم من مضرة إقامة الحد نفسه. يقول ابن فرحون المالكي: "يجب أن تكون إقامة الحدود علانية غير سر؛ لينتهي الناس عما حرم الله عليهم" (2).

وفي جريمة السرقة قال جل وعلا: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (المائدة:38)، يقول صاحب المنار: "هذا تعليل للحد؛ أي: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيئ، ونكالا وعبرة لغيرهما. فالنكال مأخوذ من النكل، وهو بالكسر قيد الدابة، ونكل عن الشيء: عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه، فالنكال هنا: ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا. ولعمر الحق؛ إن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته، ويسمه بميسم الذل والعار هو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم؛ لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السراق عند العلم بهم" (3).

وفي القصاص يقول جل جلاله: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة: 179)؛ وذلك لأن من أراد القتل وعلم أنه سيُقتل؛ انزجر وذعر، فلم يُقْدِم على جريمته، وبذلك تحقن الدماء وينقمع الأشقياء. وصدقت العرب عندما قالت حكمتها البليغة في جاهليتها الطاغية: "القتل أنفى للقتل".

وقس على ما قيل ما لم يُقل؛ فسائر الحدود الشرعية تحقق من النكاية والزجر ما هو كفيل بكف الناس عن الوقوع في موجباتها.

إن العقوبة في حق المفسدين – بما نحن فيه – لها هدفان اثنان:
الأول: زجر عام (dissuasion générale): حيث يتم ردع من تسول لهم أنفسهم الجريمةَ عن مجرد التفكير في العدوان، خاصة عندما يعلم أن العقوبة في انتظاره إذا ما قارف الحدود، "فيمتنع المجرمون المحتملون أو عدد منهم، عن ارتكاب الجريمة خوفاً من أن تلحقهم مثل العقوبة التي أصابت المجرم فعلاً نتيجة لارتكابه جريمته".(4)

والثاني: زجر خاص (dissuasion specifique): وذلك بأن يكف المعتدي نفسه عن معاودة التفكير في الإقدام على الجريمة؛ لما توقعه به العقوبة من إيلام، وهذا النوع "يقتصر أثره على المجرم الذي وقعت عليه العقوبة فعلا، بحيث تصده العقوبة وألمها وما يترتب عليها من إيذاء مادي ومعنوي له عن العودة مرة أخرى إلى الخروج على القانون".

إن الناظر في تاريخ الإسلام، أيام تطبيق التشريع الجنائي الإسلامي، يفاجأ بقلة الحدود التي أُوقِعت على الجناة، بحيث لم يتجاوز عددها أصابع اليدين، وذلك لأن النظام العقابي في الإسلام كان فعالا في لجم ذوي النزوع الإجرامية عن إيذاء الناس.

وفي المقابل نجد أن نِسَب الجريمة لا تزيد إلا ارتفاعا في المجتمعات الغربية، فقد انعقد مؤتمر الأمم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في أبريل 2005م، في وقت يشهد العالم فيه تنامياً وارتفاعاً مضطرداً في معدلات الجريمة، وقد أظهر استقصاء الأمم المتحدة عن ارتفاع معدلات الجريمة بأنواعها كافة على المستوى الدولي خلال الفترة: (1995 - 2000)، خصوصاً جرائم الاعتداء على الإنسان والعنف والمخدرات، وإن هذه الزيادة في استمرار. وفي تصريح لرئيس الندوة الدولية لمكافحة الجريمة والإرهاب الجنرال (أناتولي كوليكوف) قال: إن هناك حوالي (400) ألف جريمة تُرتكب يومياً في العالم، وأن الجريمة قد نمت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي (8) ثماني مرات في الولايات المتـحدة الأمريـكية، و(7) سبـع مـرات في بريطانيا والسويد، و (مرتين) في اليابان.

وطبقاً لإحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية فإن معدل الجرائم لديها كـان: وقـوع جريمـة سـرقـة عـادية كـل (3) ثـوان، جريمة سطو كل (14) ثانية، سرقة سيارة كل (25) ثانية، سرقة مقترنة بالعنف كل (60) ثانية، جريمة اغتصاب كل (6) ثوان، جريمة قتل كل (31) ثانية. وعلى المستوى المادي؛ تقدر كلفة الجريمة في أمريكا (105) بلايين دولار تنفق في علاج الضحايا و(350) بليون دولار للتعويضات والتأمين و (120) مليون دولار تصرف على الشرطة و (35) بليون دولار تصرف على السجون، وهناك (14) مليون متعاطٍ للمخدرات (5).

وهذا يؤكد نتيجة واحدة؛ هي فشل السياسة العقابية في تلكم المجتمعات، إذا ما قيست بنجاعة منظومة العقاب في التشريعات الجنائية الإسلامية.

من خلال ما سبق؛ يتأسس على ذلك كله نتيجة مفادها أنه إذا طبقت الحدود عَمَّ النفع الأفرادَ والجماعات والدولة، لما في تنفيذها من ردع وزجر وتخويف يُضَيِّق مجال الجريمة ويحد من انتشارها، ولما في إنفاذها من امتثال أمر الله تَعَالَى وإقامة شرعه، { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} (الأنفال:24). يقول الإمام الماوردي: لقد "جعل الله من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة، وخيفةً من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً، وما أمر به من فروضه متبوعاً، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم"(6).

أ.بدر الدين أراق - إسلام ويب

هوامش المقال
1- الفقه الإسلامي وأدلته، لوهبة الزحيلي: ج7 ص 5313
2- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ابن فرحون: ج2 ص 194.
3- تفسير المنار، محمد رشيد رضا: ج4 ص 66.
4- في أصول النظام الجنائي الإسلامي، د. محمد سليم العوا: ص 94.
5- الإجرام العالمي وفشل العقوبات الوضعية، د.أكرم عبد الرزاق المشهداني، مجلة البيان، عدد 223.
6- الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي: ص 221.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة