الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لم يرد الله أن يهدي قلوبهم (2)

لم يرد الله أن يهدي قلوبهم (2)

لم يرد الله أن يهدي قلوبهم (2)

عن صهيب الرومي رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال: ( كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلّمه السحر. فبعث إليه غلاماً يعلّمه..) رواه مسلم في "صحيحه".

كم يستوقفنا هذا الحديث الذي اشتُهر عند العلماء بقصّة أصحاب الأخدود، وفيه مأخذٌ عقديٌّ يدهش الألباب، إننا نعلمُ ما السحر، وكيف يصنعُ صاحبُه من الشركيّات والكفريّات حتى يحظى بدعمٍ من الجن والشياطين تمكّنه من ممارسة ألاعيبِه وخيالاتِه التي لا يقدرُ عليها عامّة الناس، وليس من شكٍّ أن هذا الساحر ما وصل إلى مرتبةِ "كبير السحرة" إلا من بعدِ رحلةٍ طويلةٍ من القرابين التي تقرّبُه من حقيقة السحر الموحِلة، ولا شكَّ كذلك أنّه يدركُ وقوفه مع الباطل ومجانبته للحق، وهو يرى نفسَه مفارقاً للدنيا، ومع ذلك فهو يستميت في إبقاء الأثرِ من بعده فيتبرّعَ بتعليم الغلام مجاناً ليكون هو الساحرَ البديل، فماذا استفادَ يا تُرى؟ إن كان بقاؤه ساحراً كان لأجلِ دنيا فانية، فأيُّ شيءٍ يدعوه إلى استدامةِ الشرّ وبقائه؟

هنا نقولُ بملء الفم: صدق الله، ومن أصدقُ من الله قيلاً: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة:41).

قد يكون سببُ عدم إيمان البعضِ هو بلوغ الحجّةِ قاصرةً، لا تقيم التصوّر المطلوب لحقيقة الإسلام، ولا لجوهر الإيمان، ولا لمشاهد الإحسان، نعلمُ ذلك ولا ننكرُه، لكن فئاماً من الناس ترى الدلائل صارخةً واضحةً تطمس ظلامَ الكونِ بأكملِه، ثم تقف عاجزةً عن الوصول إلى قلبِ ذلك الضال، فلا يمكنُ حينها إلا أن نتهمَ صاحبها بأن القصور من عندِه: {قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165).

كثيرٌ من الناسِ ضلّ عن سواء الصراط، لأجل ما قام في قلبِه من الهوى، ولولا الهوى ما تردّد لحظةً عن قبولِه، وليس ثمّةَ إلا طريقانِ لا يلتقيان: طريق الحق والهدى، وطريق الهوى وحظوظ النفس: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (القصص:50).

يقول ابن القيم: "وأنت تجد تحت هذا الخطاب، أن الله لا يهدي من اتبع هواه، وجعل سبحانه وتعالى المتَّبع قسمين، لا ثالث لهما: إما ما جاء به الرسول، وإما الهوى، فمن اتبع أحدهما، لم يمكنه اتباع الآخر".

فلا عجب إذن، أن نجد المداومة من النبي –صلى الله عليه وسلم- في الاستعاذةِ من الهوى؛ لأن من شأن العقل أن يرى ويختار دائماً الأصلح في العواقب، والهوى على الضد من ذلك. يحدثنا قطبة بن مالك رضي الله عنه قائلاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) رواه الترمذي، بل عدّها النبي عليه الصلاة والسلام من المهلكات فقال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) رواه البزار والطبراني في الأوسط.

وقد استلهم العلماء هذه المعاني واستشعروا خطر الهوى وقدرته الفائقة في الإضلال والصد عن سبيل الله، فكثرت في مواعظهم كلمات التحذير من الهوى، فهذا علي رضي الله عنه يقول: "إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى. فأما طول الأمل، فيُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق"، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "ما ذكر الله عز وجل الهوى في موضع من كتابه إلا ذمّه"، ويقول قال مجاهد: "ما يُدرى أي النعمتين عليَّ أعظم: أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء"، وقال الشعبي: "إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه".

وكم هوى (الهوى) بكثيرٍ ممن قامت لهم الحجج، التي لا تقبل الجدل في صحّة الإسلام، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، فضربوا بها عرض الحائط، واشتروا بها ثمناً قليلاً، ومن هؤلاء: معشر اليهود، الذين يجدون صفات النبي عليه الصلاة والسلام وعلاماتِه في كتبهِم تطابق الواقع من حياتِه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك: يُنكرون نبوّته ويجحدون رسالتَه، وقد أوقفنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أحد أحبارهم المشهورين في زمن النبوّة، على حقيقة الهوى في أنفسهم، فقد جاء إلى رسول الله وقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمتْ يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عنّي قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت، قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فأرسل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبلوا، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر اليهود! ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، فأسلموا)، قالوا: ما نعلمه، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟) قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا، وابن أعلمنا، قال: (أفرأيتم إن أسلم؟)، قالوا: حاشى لله، ما كان ليسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا ابن سلام! اخرج عليهم)، فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة