الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين أحاديث الانتفاع بجلد الميتة

الجمع بين أحاديث الانتفاع بجلد الميتة

الجمع بين أحاديث الانتفاع بجلد الميتة

مما قرره العلماء أن الأصل في الأشياء المادية (الأعيان) الإباحة، استناداً إلى قانون التسخير العام، الذي يتضمن إباحة الانتفاع بالأشياء المادية إلا ما دل الدليل على حرمته أو اختص به معصوم الدم والمال، وقد حصل الاختلاف بين الفقهاء في بعض الأعيان؛ لتنازع هذا الأصل مع أدلة أخرى، منها ما تؤيد هذا الأصل، ومنها ما تدل على خلافه، ومن هذه الأعيان التي حصل الخلاف في إباحة الانتفاع بها جلد الميتة.

فقد ورد بخصوص الانتفاع بـ (جلد الميتة) حديثان، أحدهما يفيد جواز الانتفاع به، وثانيهما ينهى عن الانتفاع به.

أما حديث جواز الانتفاع فقد رواه عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) رواه مسلم. والإهاب هو جلد الحيوان.

وأما حديث النهي عن الانتفاع فرواه عبد الله بن عُكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) رواه الترمذي وصححه الألباني.

فحديث ابن عباس يدل على إباحة الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ، ويؤيده أحاديث وآثار منها:

ما رواه مالك في "الموطأ" عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت).

وما رواه أبو داود في "السنن" عن سلمة بن المحبق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك أتى على بيت، فإذا قربة معلقة، فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله! إنها ميتة. فقال: (دباغها طهورها) قال الشيخ الألباني: صحيح.

وفي "السنن الكبرى" للبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فى جلد الميتة قال: (إن دباغه قد ذهب بخبثه، أو رجسه، أو نجسه) قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.

ولأجل هذا التعارض -في الظاهر- تعددت الأقوال في هذه المسألة بين الفقهاء بين مبيح للانتفاع بجلود الميتة بقيد الدبغ، وبين مانع من الانتفاع بها مطلقاً.

يقول ابن رشد: "وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، فقد ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقاً، وفي حديث ابن عُكيم منع الانتفاع بها مطلقاً، وفي بعضها الأمر بالانتفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ. والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها، فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس، ففرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ، وقيدوا حديث ابن عُكيم بحديث ابن عباس. وذهب قوم مذهب النسخ، فأخذوا بحديث ابن عكيم؛ لأنه كان يحدث بأن هذا آخر الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بعام".

وكما هو واضح، فإن حديث ابن عُكيم لا يقوى على معارضة الأحاديث التي أباحت الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ؛ لقوتها من حيث الثبوت والدلالة، ولم يبق إلا تقييد المنع الوارد في حديث ابن عكيم بما قبل الدباغ؛ جمعاً بين الأدلة، وحملاً لكلام النبي صلى الله عليه وسلم على محمل الائتلاف والانسجام، وتنزيهاً له عن عارض التنافر والانفصام.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة