الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدلة وجود الله..7برهان النبوات والشرائع

أدلة وجود الله..7برهان النبوات والشرائع

أدلة وجود الله..7برهان النبوات والشرائع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

ذكرت في المقالات السابقة بعض البراهين التي يُستدل بها على وجود الله سبحانه وتعالى، بما يلائم بعض الشبهات الإلحادية المثارة في عصرنا.

وسأشرح في هذا المقال برهانا آخر، يذكره علماء الشريعة، ويعدّونه من أفضل الطرق الدالة على وجود الله تعالى، وهو برهان النبوات والشرائع.

تمهيد
يقصد بهذا البرهان أن يُحتج بالأدلة الدالة على صحة نبوة الأنبياء، وكمالِ ما أتوا به من الشرائع، على وجود من أرسلهم وبعثهم بتلك الشرائع، وهو الله سبحانه.

وهذه الطريقة سلكها المتقدمون من علماء المسلمين، فذكرها الخطابي في ''الغنية عن الكلام وأهله''، والبيهقي في ''الاعتقاد''، وأقرهما شيخ الإسلام ابن تيمية منكرا طريقة المتكلمين، وقال: "وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت" (1).

وقال ابن القيم: "وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله. وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل ودلالتها ضرورية بنفسها ولهذا يسميها الله سبحانه آيات بينات"(2).

وبراهين النبوة المأخوذة من طريق الحس لمن حضر، ومن طريق استفاضة الخبر وتواتره لمن غاب، موجهةٌ في الأصل لإثبات صحة النبوة، وصدق الأنبياء، ولكن يمكن استعمالها في إثبات وجود الله وكمال ربوبيته، وما يقتضيه ذلك من اعتقادات وتصورات، وذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن مِن أظهر دلائل النبوة: المعجزات التي فيها خرق للعادة. وخرق العادة لا يقدر عليه إلا رب الكون وخالقه، والذي يدبّره على وفق تلك العادة المطّردة التي وقع خرقها.

فدلّ خرق العادة على وجود الرب الخالق المدبّر الذي أرسل الرسول، وصدّقه بهذه الآيات الخارقة.

والوجه الثاني: أن دلائل النبوة عموما، سواء أكانت من قبيل الخوارق للعادة أم لا، تدل على صدق الأنبياء في جميع ما أخبروا به. ولا شك أن أول ما يخبرون به هو: وجود الله وربوبيته، وأسماؤه وصفاته، واستحقاقه للعبادة.

يقول ابن تيمية في تقرير هذا المعنى: "وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين، في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم، لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز، وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه"(3).

وقال أيضا: "وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل نفسه على ثبوت صانع قدير عليم حكيم أعظم من دلالة ما اعتيد من خلق الإنسان من نطفة. فإذا كان ذلك يدل بنفسه على إثبات الصانع فهذا أولى"(4).

ومما يدل على صحة هذه الطريقة، ونجاعتها في إثبات المطلوب: أن أكثر المؤمنين بوجود الله عبر التاريخ، ما وصلوا لهذا الإيمان إلا من طريق الرسل. فكان ثبوت صحة الرسالة عندهم سابقا على غيره.

وكذا كثير من المستجيبين اليوم لداعي الإيمان من الملاحدة والمتشككين، يؤمنون بصحة الرسالة وصدق الرسل لما يرون من البراهين الدالة على ذلك، فيجرهم هذا الإيمان إلى الإيمان بوجود الله وبربوبيته كما أخبر بها هؤلاء الرسل الكرام.

الآيات والمعجزات
وقد تكرر في القرآن الكريم وصف المعجزات التي أوتيها الأنبياء، وتسميتها آيات بينات، كما في قوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب } (الحديد:25). كما سميت في القرآن براهين، كما قال عن آيتي العصا واليد اللتين أرسل بهما موسى عليه السلام: { فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه } (القصص:32).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.

فبين الحديث أن الآيات التي يعطاها الأنبياء من القوة بحيث تكون دافعا لحصول الإيمان.

وسميت المعجزات في القرآن الكريم أيضا بصائر، كما قال تعالى: { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر } (القصص:32)، أي: حججا تبصّر الناظر فيها بصدق ما أرسل به موسى عليه السلام.

وقد احتج موسى عليه السلام بهذه الآيات على من أنكر وجود الله تعالى وادعى الربوبية، بقوله: { فقال أنا ربكم الأعلى } (النازعات:24).

ولا يضر ما نعلمه من إقرار فرعون بالربوبية في الباطن مع جحوده في الظاهر، كما قال تعالى عن فرعون ومن معه: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } (النمل:14)، وذلك لأن المحاجة معه إنما كانت بحسب ظاهره، بقطع النظر عما في قلبه.

فدلّت هذه الأدلة النقلية، على أنه من الممكن إقناع من فسدت فطرته، بربوبية الله تعالى عن طريق دلالة الآيات والمعجزات. أما من كان مقرا بالربوبية بمقتضى فطرته السليمة، فإن هذه الآيات تنفعه في إثبات الألوهية وتفصيلات الأسماء والصفات التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق الرسل.

ويدخل في الآيات: معجزة القرآن، كما ورد في الحديث السابق. فإن في إعجاز القرآن اللغوي والبلاغي والتشريعي(5) وغير ذلك، ما يدل على أنه ليس من كلام البشر، فما بقي إلا أنه من كلام الرب سبحانه.

ومما يدخل في المعجزات أيضا ما يقع لأتباع الرسل من أولياء الله الصالحين من الكرامات، وما يقع للمؤمنين من إجابة الدعوات وكشف الكربات ونحو ذلك مما هو امتداد لدلائل النبوة، كما قال تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله، قليلا ما تذكرون } (النمل:62). فإجابة المضطر المستغيث، ورفع كربته، من أعظم الأدلة على وجود رب سميع بصير قادر رحيم بعباده. وهذا مما يعلمه المؤمنون ويتيقنونه، بدلالة الحس والتجربة المطردة. ولا تتأخر إجابة دعاء إلا لحكمة تقتضي ذلك.

ويدخل في هذا الباب أيضا: استمرار نصر الأنبياء وهلاك أعدائهم، وانتشار دعوتهم في الآفاق، مع سلامة أتباعهم من وقوع العذاب عليهم. كما قال تعالى: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون } (الروم:9-10).

ويضاف إلى ما سبق: إخبار الأنبياء بالمغيبات المستقبلة، ووقوعها على وفق ما أخبروا به. وهذا كثير جدا، تتبعه المعتنون بجمع دلائل النبوة.

الشرائع وتضمنها كمال مصالح الخلق
ومن أعظم الحجج الدالة على وجود الله، ما تتضمنه الشرائع التي جاء بها الرسل من كمال المصالح للأفراد والمجتمعات. والمقارنة بين هذه الشرائع وبين ما يتواضع عليه الناس من القوانين بعيدا عن إضاءة الوحي في القديم والحديث، يُظهر أن ما بعث به الرسل لا يمكن أن يكون من وضع البشر، بل هو من لدن حكيم خبير، هو خالق هذا الكون ومدبّره بما يصلحه.

ويمكن اختصار خصوصيات التشريع الرباني التي تميزه عن الشرائع الوضعية في المحاور التالية:

• الاستيعاب والشمول: فلا يشذ عن هذا التشريع شيء متعلق بتنظيم الحقوق والالتزامات ومصالح الفرد والمجتمع، بحيث يدخل فيه جميع شعب القانون المعروفة في كل القوانين البشرية، انطلاقا من علاقة الفرد بأسرته إلى أحكام القانون الدولي التي تنظم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول.
• المرونة في التعامل مع الوقائع المتجددة، بسبب الثراء الكبير في الأصول التي تستمد الأحكام منها، من نصوص الوحي إلى القياس والاستحسان والمصالح. وفي التراث الفقهي – خاصة في المذاهب المعتنية بالنوازل وأحكام القضاء - كنوز تشريعية عظيمة، تجمعت بعد قرون من التأصيل والتفريع.
• التوازن بين مصالح الأفراد والمصالح العامة للمجتمعات، والتوازن بين تحصيل منافع الدنيا والإعداد لثواب الآخرة، والتوازن بين متطلبات الجسد واحتياجات النفس.
• الدقة في تشييد منظومة الأحكام الشرعية، بحيث تراعى الفروق مهما كانت طفيفة، ويلحق النظير بنظيره دفعا للتناقض في التفريق بين المتماثلات.
• تجاوز الإطار الزماني والمكاني، ليكون التشريع الرباني صالحا في كل مكان وزمان. فالأحكام – من حيث هي - مبنية على التجرد من دوافع العصبية، والانقطاع عن وطأة الأعراف الخاصة.

وهنالك أصول أخرى كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة.

والمقصود: أن هذه الأمور لا تعرف إلا بالممارسة الطويلة، والاطلاع الواسع على التشريعات الربانية التي جاء بها الرسل ومقارنتها بالقوانين الوضعية البشرية؛ فيحصل بذلك الجزم بكون تلك التشريعات ليس مصدرها من الإنسان، وإنما من الخالق المدبر، سبحانه وتعالى.

والله الموفق.

هوامش المقال
1- مجموع الفتاوى: 11/278.
2- الصواعق المرسلة: 3/1197.
3- درء التعارض: 4/272.
4- نفسه: 4/391.
5- وما كان من ''الإعجاز العلمي'' سالما من التكلف وتحريف معاني الكلام.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة