الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مرتبة (الجهالة) بين التجريح والتعديل

مرتبة (الجهالة) بين التجريح والتعديل

مرتبة (الجهالة) بين التجريح والتعديل

لم تكن مصطلحات الجهالة "مجهول العين ومجهول الحال والمستور وغيرها" معروفة عند المتقدمين، لكونها متوقفة على قرائن الترجيح، فرواية راو مشهور عنه، أو رواية الجماعة عنه، له أثره في اشتهاره، فكلما كثر شيوخه زادت شهرته، لأن هذا يدل على سعة طلبه للعلم، وأصل الجهالة نوعان: جهالة عين، وجهالة حال. فجهالة العين: من لم يروِ عنه إلا واحد، وجهالة الحال: من روى عنه اثنان، ولم يُوَثَّقْ - أي لم ينص أحد من أهل الجرح والتعديل على أن هذا الراوي موثقٌ -، وبعضهم يجعلها ثلاثية؛ فيضيف المستور؛ فتكون: جهالة عين، وجهالة حال، والمستور.

وللتفصيل أقول: إن علماء الحديث وغيرهم قسموا المجهول أجناساً يمكن حصرها في ستة أقسام، هي: مجهول العين، ومجهول الحال، والمستور، والمسكوت عليهم، والمبهمين من الرواة، ولا ترتفع جهالة العين إلا برواية عدلين، ولا ترتفع جهالة الحال إلا بنص أو شهرة بالطلب.

مجهول العين: هو من حيث اللغة غير معلوم الوصف أو الحقيقة على وجه الدقة، ومن حيث الاصطلاح: من لم يرو عنه إلا راو واحد ولم يوثق، أو من لم يشتهر بطلب العلم، ولم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. ذكر ذلك الخطيب البغدادي في "الكفاية في أصول الرواية"، وتبعه أكثر علماء الحديث؛ وذلك لأن من لم يشتهر بطلب الحديث يكون مجهولاً، إلا أن هناك بعض الرواة الذين ليس لهم إلا حديث واحد، ومع هذا فقد وثقهم العلماء ورفعوا جهالتهم. إلا أن وصف عدم الاشتهار بالطلب يعد لفظاً واسعاً قد يدخل فيه مجهول الحال، ومجهول العين، والمستور والوحدان، والمبهمون، ومن هنا اضطر العلماء إلى إيجاد وصف أكثر دقة للتميز بين مجهول العين وغيره من هذه الأسماء والأجناس.

مجهول الحال: هو من روى عنه اثنان، ولم يُوَثَّقْ، ولم ينص أحد من أهل الجرح والتعديل، على أن هذا الراوي موثقٌ مجهول الحال من حيث العدالة والضبط، في الظاهر والباطن، مع كونه معروف العين، برواية عدلين عنه، فهو الراوي الذي روى عنه راويان عدلان، ولكنه جهلت عدالته الظاهرة، فلم يعدله أحد، ولم يجرحه أحد، وجهلت عدالته الباطنة التي قد تعرف باهتمامه وطلبه للعلم والحديث، أما إذا روى عنه راويان أحدهما عدل والآخر ضعيف فلا يعتد به، ويكون في هذه الحالة من الوُحدان، أو قد يلحق بمجهول العين، ولا تصح روايته في هذه الحالة عند معظم أئمة نقاد الحديث.

ومن هنا أقول: إن مجهول الحال يختلف عن الوُحدان في أنه روى عنه عدلان، ويتوافق معه الوُحدان في جهالة حاله الظاهرة والباطنة، في الوقت الذي يعترف به علماء الحديث أنه لا توجد أي جدوى في التفريق بين مجهول الحال والمستور من الناحية العملية، وهناك من العلماء من يجعلهما بمعنى واحد، كابن الصلاح وابن حجر وغيرهما. قال الخطيب البغدادي: "المجهول عند أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد"، وقال: "أقل ما ترفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم، إلا أنه يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه"، وإن انتفت عنه الجهالة أقل ما يرفع الجهالة رواية اثنين مشهورين بالعلم، فإن روى عنه اثنان فصاعداً ولم يوثق أو لم ينص أحد من أئمة الحديث على تعديله ولا تجريحه، فهو مجهول الحال وهو المستور، وهو من لم يطلع له على مفسق ولم تعلم عدالته لعدم تزكيته، وقد قبل روايته جماعةٌ بغير قيد.

المستور: عرفه علماء الحديث كما قال ابن الصلاح بأنه من كان عدلاً في الظاهر، ولم تعرف عدالته الباطنة، وذكر العلماء أن العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين، وله عدة صور، منها عدم ورورد أي قادح يقدح في عدالته من أحد من الائمة المعتد بهم في هذا الشأن، مع سلامة ظاهره من الفسق ومن خوارم المروءة، ذلك أن الاستقامة وصلاح الحال من الأمور التي تدخل في متابعة أحوال الراوي للتوصل إلى العدالة الباطنية المعتد بها عند علماء الحديث. قال ابن عبد البر: "كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى تتبين جرحته في حاله أو في كثرة غلطه"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) رواه أبو داود، فمعنى وصف الراوي بالشهرة، يدل على دفع جهالة العين، لكنها لا تفيد التعديل الذي يثبت بأصل استعمالها على دفع جهالة العين، لكنها لا تفيد التعديل الذي يثبت معه حديث الراوي، وإنما تفيد في تقوية أمره، بشرط أن يسلم الراوي من قادح.

المسكوت عليهم: المسكوت عليه من الرواة هو الذي وجد في سند حديث، وترجمه علماء الحديث دون أن يذكروا فيه جرحاً أو تعديلاً، وهو كثير في مصنفات المتقدمين، ولعل أكثر من جمع مثل هؤلاء الرواة الإمام ابن حبان في كتابه الثقات حيث ذكر العديد من الرواة، دون أن يذكر فيهم جرحاً أو تعديلاً، وصنع مثل ذلك البخاري في التاريخ الكبير، وغيره من أئمة علماء الحديث، مما لا يتسع المجال لتتبعه، وجاء في لسان الميزان لابن حجر: "هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب "الثقات"، فإنه يذكر خلقاً ممن ينص عليهم أبو حاتم الرازي وغيره على أنهم مجهولون، وكان عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره".

والرواة المسكوت عليهم أصناف، منها ما يمكن إلحاقه بالعدالة، ومنهم ما يشبه المستور، ومنهم من يدخل تحت قسم مجهول الحال، ولا شك الروايات التي تضم أي قسم من هذه الأقسام تحتاج إلى دراسة خاصة بهذه الرواية وتتبعها للوصول إلى تحديد هذه الرواية بين الترك والاعتبار، فلا يجوز إطلاق حكم واحد على الرواة المسكوت عليهم، سواء بالضعف والترك، أو بالتصحيح والاعتبار.

وهناك توافق كبير في التوصيف بين الرواة المسكوت عليهم، وبين الوُحدان، وذلك حين يكون ليس لهذا الراوي إلا راو واحد، وترجم له العلماء دون جرحه أو تعديله، فهنا لا يجوز الحكم عليه إلا بعد سبر كتب السنة كلها، وبعد تتبع كلام أئمة العلماء عليه، فهناك طائفة من المتأخرين يقبلون جهالة الحال مطلقاً, ويردون جهالة العين مطلقاً, وهم يعتمدون في هذا على كلام للذهلي والدارقطني في كتابه السنن، وكتاب العلل، وكذلك غيره من أصحاب كتب العلل أو كتب التراجم والرجال، وينبغي أن تتحرى روايته في عامة كتب السنن كالبيهقي وغيره.

المبهمون من الرواة: الإبهام عند علماء الحديث هو من أغفل اسمه من الرواة في الإسناد لأمر من الأمور، أو ذكر بما لا يميزه عن غيره ممن يشترك معهم في الاسم، أو الوصف، كقول المحدث: حدثني الثقة، أو حدثني من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حدثني بعض أهل بدر...، وهكذا. ويلحق بالمبهمون الرواة المهملون، كقوله: حدثني محمد. ومما ينبغي التنبيه عليه أن المبهمون من الرواة من غير الصحابة يختلفون عن الوُحدان في توصيفهم، ويتشابهون معهم في أنهم ليس لهم إلا راو واحد، وأنه لا يحتج بهم منفردين. يقول ابن كثير: "فأما المبهم الذي لم يسمّ اسمه أو من سمي ولا تعرف عينه، فهذا من لا يقبل روايته أحد علمناه".

الوُحدان من الرواة: وهم الرواة الذين ليس لهم إلا راو واحد، ويجمع بينهم وصف الجهالة، حيث ذكر العلماء أن أقل ما ترفع به الجهالة عن الرواة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم، فالوُحدان يدخل في قسم المجهول، إلا أن معظم العلماء أفردوا الوُحدان عن المجاهيل والمستورين من الرواة، وقد أخرج البخاري ومسلم، في صحيحيهما حديث جماعة ليس لهم إلا راو واحد، وذهب الحافظ ابن حجر أن هناك عدد من الرواة الوُحدان خرج لهم البخاري في المتابعات والشواهد، أما في الأصول فلا.

ويقتصر اهتمامنا بالوُحدان على الرواة الذي أخرج لهم البخاري أو مسلم، لأنهما اشترطا الصحة في كتابيهما، فالإمام مسلم صنف كتاباً في الوحدان فأدخل فيهم من وجد له راو آخر، وأعرض عن ذكر جماعة منهم لم يوجد لهم راو آخر سوى من عرفوا به، وقد تتبعهما الإمام الدارقطني في كتابه الإلزامات والتتبع.

فخلاصة الرأي في المجهول أنه لو زكاه جماعة وتفرد عنه راو لم يخرج عن جهالة العين، لأنه جعل حقيقته من لم يرو عنه إلا راو واحد، ووجه قول المحدثين أنه يتنزل أي المجهول العين الموثق منزلة التوثيق المبهم، كقوله: حدثني الثقة، فهو غير مقبول عند أهل الحديث كما تقدم، وقد أشار ابن الصلاح إلى أن ارتفاع الجهالة في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد، فمجهول العين من لم يعرفه العلماء ولم يعرف حديثه إلا من جهة واحدة وقبولهم توثيق الواحد إنما هو فيمن عرفت عينه وجهلت عدالته.

حكم رواية المجهول: حكم رواية المجهول باختلاف نوع الجهالة المتعلقة به، فيرى جمهور العلماء إلى عدم قبول رواية مجهول العين مطلقاً، وحجتهم أن العدالة شرط في صحة الرواية، فمن جهلت عينه جُهلت عدالته من باب أولى. وإذا تفرد بالرواية عنه من لا يروي إلا عن ثقة قُبلت روايته وإلا فلا، وذهب ابن القطان إلى أن مجهول العين إذا زكاه مع راويه الواحد أحد أئمة الجرح والتعديل قُبلت روايته، وإلا فلا. وذهب ابن عبد البر إلى قبول رواية مجهول العين إذا كان مشهوراً بشيء من مكارم الأخلاق، من نجدة أو كرم أو ما إلى ذلك من غير العلم، وإلا فلا. وصرح ابن حبان أنه إذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر فهو ثقة.

أما رواية المستور فقد ذهب الجمهور إلى عدم قبول روايته ما لم تثبت عدالته، وهو قول الشافعي، وذهب أبو حنيفة وبعض الشافعية إلى قبول روايته ما لم يعلم الجرح فيه، قال السيوطي: "ورواية المستور, وهو عدل الظاهر, خفي الباطن أي: مجهول العدالة باطناً يحتج بها بعض من رد الأول, وهو قول بعض الشافعية". وذلك لأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن, فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر, بخلاف الشهادة, فإنها تكون عند الحكام, فلا يتعذر عليهم ذلك.

المجهول من الصحابة: قال علماء الحديث: إن كان مجهول العين صحابياً قُبل، لما يأتي من القول بأن الصحابة كلهم عدول، وهو مذهب الفقهاء والمحدثين، فعدالة المجهول من الصحابة إجماع. أما المجهولون من كبار التابعين، وهم الذين تتلمذوا على أيدي الصحابة الكرام فأمثال هؤلاء يُقبل حديثهم إذا سلم من المخالفة، قال الذهبي: "وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ"، وإذا كان من صغار التابعين فسائغ رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي وتحريه، ومن العلماء من كان ينظر إلى المجاهيل وحكم مروياتهم من خلال النظر إلى مرتبة من يروي عن أولئك المجاهيل، من حيث الوثاقة والاعتبار. هذا والله تعالى أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة