الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بين تدليس الشيوخ وتدليس التسوية

بين تدليس الشيوخ وتدليس التسوية

بين تدليس الشيوخ وتدليس التسوية

التدليس له صور كثيرة، جعلها بعض العلماء في صورتين، هما: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وجعلها آخرون أكثر من ذلك، فتدليس الشيوخ، هو أن يُعمِّي الرّاوي أمر شيخه، بأن يذكره بغير ما اشتهر به، أو يسمّيه أو يكنّيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به، وتدليس الإسناد أن يُسقط الرّاوي الواسطة بينه وبين من لقيه، أو بينه وبين من عاصره ولم يلقه، أو يسقط شيخ شيخه، ويسوي الإسناد بعن فيصير عاليًا، ومن صوره أن يدلس عمن سمع منه، وهو ما يسميه المحدثون الإرسال الخفي، فهو في حقيقة الأمر تدليساً، ومنه تدليس التسوية، الذي يعد شر صور التدليس، وهو من أقسام تدليس الإسناد، وهو أن الراوي المدلّس لا يسقط اسم شيخه الذي حدثه، لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً يكون ضعيفاً في الرواية أو صغير السن، يحسِّن الحديث بذلك.

قال العلماء: "التدليس قسمان: الأول تدليس الإسناد بأن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً سماعه، وربما لم يسقط شيخه وأسقطه غيره، لكونه ضعيفاً أو صغيراً، تحسيناً للحديث، والثاني تدليس الشيوخ، بأن يسمى شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به أو يصف شيخ شيخه بذلك".

قال البقاعي: "والتّحقيق أنه ليس إلا قسمان، تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، ويتفرع على الأول تدليس العطف، وتدليس الحذف، وأما تدليس التّسوية فيدخل في القسمين، فتارة يصف شيوخ السند بما لا يعرفون من غير إسقاط، فتكون تسوية الشيوخ، وتارة يسقط الضعفاء، فتكون تسوية السند، وهذا يسميه القدماء تجويداً فيقولون: جوده فلان، يريدون ذكر من فيه من الأجواد وحذف الأدنياء".

وقال زين الدين: "التدليس على ثلاثة أقسام، فإن أراد البقاعي أصل التدليس فليس إلا ما ذكر ابن الصلاح من كونهما اثنين باعتبار إسقاط الراوي، أو ذكره وتعمية وصفه، وإن أراد الأنواع فهي أكثر من ثلاثة، بما يأتي من تدليس القطع وتدليس الضعف".

تدليس الإسناد

هو أن يروي عمن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه موهما سماعه، قائلاً قال فلان أو عن فلان ونحوه وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره, وهو مكروه جداً، ذمه الجمهور حتى قال شعبة: "لأن أزني أحب إلى من أن أدلّس"، وقال: "التدليس أخو الكذب"، وحكمه أن ما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع لم يقبل وما بينه فيه كسمعت وحدثنا وأخبرنا ونحو ذلك فمقبول يحتج به، ويتفرع على الأول تدليس العطف وتدليس الحذف.

وتدليس الشيوخ أخف من تدليس الإسناد، وتختلف الحال في كراهيته بحسب اختلاف القصد الحامل عليه، وهو أما لكونه ضعيفاً أو صغيراً أو متأخر الوفاة، أو لكونه مكثراً عنه فيكره تكراره على صورة واحدة، وهو أخفها، وقد جرى عليه المصنفون وتسمحوا به وأكثر الخطيب منه.

والسّبب في أنه أخفّ، أنّ شيخه الذي دلّس اسمه لا يخلو إما أن يُعرف فيزول الغرر، أو لا يُعرف فيكون في الإسناد مجهول، كما قال زين الدّين العراقي: "ويختلف الحال في كراهية هذا القسم باختلاف المقصد "للمدلّس" الحامل له على ذلك التدليس، فشر ذلك أن يكون الحامل على ذلك كون المروي عنه ضعيفاً فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء"، وهذا غش للمسلمين.

فسبب هذا النوع من التدليس، هو: كون الشيخ مجروحاً، أو كون المدلس قد شورك في الرواية عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو العلم أو غير ذلك، أو كون ذلك الشيخ أصغر سناً من الراوي عنه، أو كثرة ما عند ذلك الراوي عن الشيخ ، فيغير في اسمه دفعاً للتكرار.

وأصل التدليس التغطية والستر، ومنه التدليس في البيع يقال: دلس فلان على فلان أي ستر عنه العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر، وأصله مما ذكرنا من الدلس، وهو في الاصطلاح راجع إلى ذلك من حيث إن من أسقط من الإسناد شيئاً فقد غطى ذلك الذي أسقطه، وزاد في التغطية في إتيانه بعبارة موهمة، وكذلك الحال بالنسبة لتدليس الشيوخ، حيث إن الراوي يغطي الوصف الذي يعرف به الشيخ ويصفه بغير ما اشتهر به.

فتدليس الإسناد أن يسند عن من لقيه ما لم يسمع منه بلفظ موهم، وعرفه ابن الصلاح بقوله: "هو أن يروي عن من لقيه ما لم يسمعه منه، موهماً أنه سمعه منه، أو عن من عاصره"، وتدليس الإسناد له شرطان، أحدهما: أن يأتي بلفظ محتمل غير كذب، مثل: عن فلان ونحوه، وثانيهما: أن يكون عاصره، لأن شرط التدليس إيهام أنه سمع منه، ولا يتم إلا بالمعاصرة واللقاء عند شرطه، وإذا لم يعاصره زال التدليس، وصار كذاباً أو مرسلاً محضاً، هذا هو الصحيح المشهور، وروى ابن عبد البر في التمهيد، عن بعضهم أنه لا يشترط ذلك، قال: "فجعل التدليس أن يحدث الرجل عن الرجل بما لم يسمعه منه بلفظ لا يقتضي تصريحاً بالسماع، وإلا لكان كذباً".

تدليس التسوية

عرّفه العلماء بأنه: إسقاط ضعيف بين ثقتين، وزاد بعضهم: بأن يكون هؤلاء الرواة الثقات قد سمع أحدهما من الآخر، فهذا هو المعروف والمعتبر، وهذا هو الذي عليه العمل، وبتعريف أدق: هو أن يروي المدلس حديثاً عن شيخ ثقة بسند فيه راو ضعيف، فيحذفه المدلس من بين الثقتين اللذين لقي أحدهما الآخر. قال الحافظ ابن حجر في توجيه النظر: تدليس التسوية هو أن يسقط ضعيفاً بين ثقتين، وصورته أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل فيصير السند كله ثقات، فهو يسقط ممن فوق شيخه في الإسناد، الراوي المجروح أو المجهول، أو صغير السن، ويحسن الحديث بذلك ويجوده، وسمي بهذا الاسم (تسوية)؛ سماه بذلك ابن القطان، لأن الراوي يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة، وبعض العلماء يسميه (تجويداً أو تحسيناً).

قال العراقي: وهو قادح فيمن تعمد فعله، ولا شك أنه جرح، وإن وصف به الثوري والأعمش فلا اعتذار أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفاً عند غيرهما، قال: ثم ابن القطان إنما سماه تسوية بدون لفظ التدليس، فيقول: سواه فلان، وهذه تسوية والقدماء يسمونه تجويداً، فيقولون: جوده فلان، أي: ذكر من فيه من الأجواد، وحذف غيرهم، قال: والتحقيق أن يقال متى قيل تدليس التسوية فلا بد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل: تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كما فعل مالك، فإنه لم يقع في التدليس أصلاً.

وقال الحافظ ابن حجر: والتسوية هي أعم من أن تكون بتدليس أو لم تكن، ومثالها التي لا تدخل في التدليس ما ذكره ابن عبد البر وغيره أن مالكاً سمع عن ثور بن زيد أحاديث عن عكرمة عن ابن عباس ثم حدث بها عن ثور عن ابن عباس وحذف عكرمة لأنه كان لا يرى الاحتجاج بحديثه، فهذا قد سوى الإسناد بإبقاء من هو عنده ثقة وحذف من ليس بثقة، فالتسوية قد تكون بلا تدليس، وتكون بالإرسال، فهذا تحرير القول فيها، وقد وقع هذا لمالك في مواضع أخرى، وعد الحافظ روايات وقعت لمالك كذلك، ثم قال: فلو كانت التسوية تدليساً لعد مالك في المدلسين، وقد أنكروا على من عده منهم. وتمام هذا الموضوع يحتاج أكثر من هذا، وهو في مظانه من كتب مصطلح الحديث، والله تعالى أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة