الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

(وما أدراك) (وما يدريك) والفرق بينهما

(وما أدراك) (وما يدريك) والفرق بينهما

(وما أدراك) (وما يدريك) والفرق بينهما

من الاستعمالات القرآنية الجديرة بالتنبه استعمال الفعلين: {وما أدراك} {وما يدريك} جاء الأول منهما في اثني عشر موضعاً في القرآن الكريم، في حين جاء ثانيهما في ثلاثة مواضع فقط.

ولعل أول من نبه إلى الفرق بين الاستعمالين المبرَّد، فقد ذكر في كتابه "ما اتفق لفظه واختلف معناه" ما حاصله من فرق بين الاستعمالين، أن {وما يدريك} وقع في كل مواضعه في القرآن الكريم بدون جواب، في حين أن {وما أدراك} غالباً ما يتبعه جواب. والاستفهام في كلا الاستعمالين خرج مخرج التقرير والتعظيم.

ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء من القرآن من قوله: {وما أدراك} فقد أدراه -أي: للنبي صلى الله عليه وسلم-، وكل شيء من قوله: {وما يدريك} فقد طُويَ عنه. وروى السيوطي عن ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة، قال: كل شيء في القرآن: {وما يدريك} فلم يُخْبر، {وما أدراك} فقد أخبر به. والمراد بالضمير في قول سفيان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

فإن صح هذا المروي، فإن مرادهم أن مفعول {وما أدراك} محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل، وأن مفعول {وما يدريك} غير محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للإنكار، وهو في معنى نفي الدراية. ولعل معنى هذا الكلام أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال.

وقال الراغب الأصفهاني: "كل موضع ذُكر في القرآن {وما أدراك} فقد عقَّب ببيانه، نحو {وما أدراك ما هيه * نار حامية} (القارعة:10-11)، {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} (القدر:2-3)، {ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} (الانفطار:18-19)، {وما أدراك ما الحاقة * كذبت ثمود وعاد بالقارعة} (الحاقة:3-4). وكل موضع ذكر فيه: {وما يدريك} لم يعقبه بذلك، نحو: {وما يدريك لعله يزكى} (عبس:3)، {وما يدريك لعل الساعة قريب} الشورى:17)، كأنه يريد تفسير ما نُقل عن ابن عباس، وغيره.

وقد قال ابن عاشور في هذا الصدد: "ولم أر من اللغويين من وفَّى هذا التركيب حقه من البيان، وبعضهم لم يذكره أصلاً"؛ ومن ثم فقد أوضح الفرق بين الاستعمالين، فقال: إن قولهم: (ما يدريك) له ثلاثة استعمالات:

أحدها: أن يكون مراداً به الرد على المخاطب في ظن يظنه، فيقال له: ما يدريك أنه كذا، فيجعل متعلق فعل الدراية هو الظن الذي يريد المتكلم رده على المخاطب، وهذا الاستعمال يجري فيه تركيب ما يدريك وما أدراك وما تصرف منهما مجرى المثل، فلا يغير عن استعماله، ويكون الاستفهام فيه إنكاريًّا، ويلزم أن يكون متعلق الدراية على نحو ظن المخاطَب من إثبات أو نفي، نحو (ما يدريك أنه يفعل) (وما يدريك أنه لا يفعل).

ثانيها: أن يرد بعد فعل الدراية حرف الرجاء، نحو: {وما يدريك لعله يزكى} (عبس:3)، إذا كان المخاطب غافلاً عن ظنه.

ثالثها: نحو {وما أدراك ما القارعة} (القارعة:3)، مما وقع بعده (ما) الاستفهامية؛ لقصد التهويل والتعظيم.

وتركيب (ما أدراك كذا) و(ما يدريك) مما جرى مجرى المثل، فلا يُغَيَّر عن هذا اللفظ، وهو تركيب مركب من (ما) الاستفهامية، وفعل (أدري) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل، من باب (أعلم) و(أرى)، فـــ (الكاف) مفعوله الأول، وقد عُلِّق على المفعولين الآخرين بـــــ (ما) الاستفهامية الثانية، و(ما) الأولى استفهامية مستعمَلة في التهويل والتعظيم.

قال ابن عاشور: "وفعل: {يدريك} معلَّق عن العمل في مفعوليه؛ لورود حرف (لعل) بعده؛ فإن (لعل) من موجبات تعليق أفعال القلوب؛ إلحاقاً للترجي بالاستفهام في أنه طلب، فلما عُلِّق فعل {يدريك} عن العمل، صار غير متعد إلى ثلاثة مفاعيل، وبقي متعدياً إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه، فصار ما بعده جملة مستأنفة".

والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على أمرٍ مغفول عنه، ثم تقع بعده جملة، نحو قوله سبحانه: {وما أدراك ما القارعة} (القارعة:3) ونحو قوله أيضاً: {وما يدريك لعله يزكى} (عبس:3) والمعنى: أي شيء يجعلك دارياً. وإنما يستعمل مثل هذا؛ لقصد الإجمال، ثم التفصيل.

وقد يقع بعده ما فيه تهويل، نحو قوله سبحانه: {وما أدراك ما هيه * نار حامية} (القارعة:10-11) أي: ما يعلمك حقيقتها. ومثله قوله عز وجل: {وما أدراك ما الحاقة} الحاقة:3) أي: أي شيء أعلمك جواب: {ما الحاقة}.

وقوله سبحانه: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} (الأحزاب:63) وقوله أيضاً: {وما يدريك لعل الساعة قريب} (الشورى:17) المعنى: أي شيء يدريك الساعة بعيدة أو قريبة، لعلها تكون قريباً، ولعلها تكون بعيداً، و(الكاف) منها خطاب لغير معين، بمعنى: قد تدري، أي: قد يدري الداري، و(ما) استفهامية، والاستفهام مستعمل في التنبيه والتهيئة. فالملاحظ هنا أن فعل {وما يدريك} لم يُتبع ببيان، بل بقي مبهماً. وفي معناه قوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} (الأنعام:109) بناء على ترادف فعل {يشعركم} وفعل {يدريكم}.

واستعمال لفظ {وما أدراك} الغرض منه تهويل الأمر المسؤول عنه، وتعظيمه؛ فقوله عز وجل: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} (الانفطار:17-18) الاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر ذلك اليوم وتهويله، بحيث يسأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دارٍ. والاستفهام الثاني حقيقي، أي، سأل سائل عن حقيقة يوم الدين، كما تقول: علمت هل زيد قائم، أي: علمت جواب هذا السؤال.

وقوله عز من قائل: {وما أدراك ما سجين} (المطففين:8) فجملة {وما أدراك ما سجين} معترضة بين جملة: {إن كتاب الفجار لفي سجين} (المطففين:7) وجملة {كتاب مرقوم} (المطففين:9) وهو تهويل لأمر (السجين) تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه.

ونحوه أيضاً قول الباري تعالى: {وما أدراك ما الطارق} (الطارق:2) فقوله سبحانه: {وما أدراك} استفهام، مستعمل في تعظيم الأمر وتهويله.

وقوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة} (البلد:12) هذه الجملة حال من {العقبة} في قوله: {فلا اقتحم العقبة} (البلد:11) للتنويه بها، وأنها لأهميتها يُسأل عنها المخاطب، هل أعلمه معلم ما هي؟ أي: لم يقتحم العقبة في حال جدارتها بأن تقتحم. وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة. و(ما) الأولى استفهام. و(ما) الثانية مثلها. والتقدير: أي شيء أعلمك ما هي العقبة، أي: أعلمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمراً عزيزاً، يحتاج إلى من يُعلمك به.

وقوله عز من قائل: {وما أدراك ما القارعة} (القارعة:3) زيادة تهويل أمر القارعة، و(ما) استفهامية، صادقة على شخص، والتقدير: وأي شخص أدراك، وهذا التعبير مستعمل في تعظيم حقيقتها وهولها؛ لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفه. و{أدراك} بمعنى: أعلمك.

وقوله سبحانه: {وما أدراك ما الحطمة} (الهُمزة:5) في موضع الحال من قوله: {كلا لينبذن في الحطمة} (الهُمزة:4) وذلك إظهار في مقام الإضمار للتهويل، و(ما) فيها استفهامية، وفعل الدراية يفيد تهويل {الحطمة} وتعظيم شأنها.

والملاحظ في هذه الآيات التي صُدِّرت بقوله سبحانه: {وما أدراك} أنه قد جاء بيان المسؤول عن إدراكه؛ فقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين} (الانفطار:17) بُيِّن بقوله تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} (الانفطار:19). وقوله عز وجل: {وما أدراك ما سجين} (المطففين:8) بُيِّن بقوله سبحانه: {كتاب مرقوم} (المطففين:9). وقوله تبارك وتعالى: {وما أدراك ما الطارق} بُيِّن بقوله عز وجل: {النجم الثاقب} (الطارق:3). وقل الشي نفسه فيما تقدم من آيات مشابهة.

وأما قوله سبحانه: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان:34) فليس من هذا الباب؛ لأن (ما) هنا في الآية نافية، و(ما) فيما سلف استفهامية.

وحاصل ما تقدم، أن الآيات التي بدأت بقوله سبحانه: {وما أدراك} قد أعقبها بيان الأمر المسؤول عنه. أما الآيات التي بدأت بقوله عز وجل: {وما يدريك} فلم تُتبع ببيان ما هو مسؤول عنه، وعادة ما يتبع هذا الفعل أداة الترجي (لعل) إذ يكون المخاطب غافلاً عن ظنه. والغرض من كلا الاستعمالين تعظيم الأمر المسؤول عنه وتهويله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة