الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين أحاديث الهجرة

الجمع بين أحاديث الهجرة

الجمع بين أحاديث الهجرة


(الهجرة) هي ترك دار الكفر التي لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، والانتقال إلى دار الإسلام، وقد هاجر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، ويوم فتح مكة قال لهم رسول الله –عليه الصلاة والسلام-: (لا هجرة بعد الفتح...) فهل هذا الحديث معارِض لقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة...)؟ وكيف السبيل لرفع التعارض بينهما؟

الحديث الأول متفق عليه من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).

والحديث الثاني رواه ابن خزيمة في "صحيحه" بسند صحيح، والإمام أحمد في "المسند" عن أبي هند البجلي، قال: كنا عند معاوية -وهو على سريره، وقد غمض عينيه- فتذاكرنا الهجرة، والقائل منا يقول: قد انقطعت، والقائل منا يقول: لم تنقطع، فاستنبه معاوية، فقال: ما كنتم فيه؟ فأخبرناه، وكان قليل الرد على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تذاكرنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).

وقد وجه العلماءُ هذا التعارضَ بتوجيهات يلتئم معها مفهوم الحديثين ليصبحا كأنهما حديث واحد، ويفيدان حكماً واحداً من غير تنافر، ولا تعارض، ووجه ذلك:

كما قال الإمام البيهقي في "السنن الصغرى" : وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) فإنما أراد لا هجرة وجوباً على من أسلم من أهل مكة بعد فتحها؛ فإنها قد صارت دار إسلام وأمن، وهكذا غير أهل مكة إذا صارت دارهم دار إسلام، أو لم يفتنوا عن دينهم في مقامهم، فلا يجب عليهم الهجرة، فإذا فتنوا ولم يقدروا على إظهار دينهم وجبت عليهم الهجرة.

وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينهما بأن قوله: (لا هجرة بعد الفتح) أي: من مكة إلى المدينة، وقوله: (لا تنقطع) أي: من دار الكفر إلى دار الإسلام في حق من أسلم أي- ولم يأمن على ديانته-.

وبهدين النقلين عن الإمامين البيهقي والبغوي يتبين أن الحديث الأول متعلق برفع وجوب الهجرة من مكة بعد فتحها، وقد أَمِنَ المسلمون على دينهم فيها، بعد أن كانوا يؤذَوْن فيها، ويفتنون في دينهم، وكانت الهجرة حينئذٍ فرضاً متعيناً على كل مسلم أن يخرج من مكة إلى المدينة، فلما فُتحت مكة، رُفِع فرض الهجرة من مكة، وبقي لمن فاته فضيلة الهجرة أن يستفرغ جهده في مقاتلة الكفار، وإخلاص العمل لله تعالى، وهذا ظاهر من كلام عائشة -رضي الله عنها- عند البخاري، لما سألها عبيد بن عمير عن الهجرة فقالت: (لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله؛ مخافة أن يُفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء؛ ولكن جهاد ونية).

وأما الحديث الثاني فهو متعلق بمشروعية الهجرة عموما، وأنها باقية ومستمرة في حق المسلمين إلى قيام الساعة، وحكمها باق في حق من أسلم، ولم يأمن على دينه ونفسه، فيجب عليه الهجرة إلى بلاد الإسلام التي يقدر فيها على ممارسة شعائر الإسلام وتكاليفه، ويدل لذلك ما رواه أبو داود -بسند صحيح- من حديث سمرة مرفوعاً، قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظْهُرِ المشركين).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة