الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والفلك التي تجري في البحر

والفلك التي تجري في البحر

والفلك التي تجري في البحر

في سياق تعداده سبحانه لجملة من المظاهر الكونية والنعم الحياتية، ذكر سبحانه {الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية (البقرة:164) وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعض الأحكام المتعلقة بركوب البحر، نذكرها في مسائل:

المسألة الأولى: استدل أهل العلم بقوله عز وجل: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} على إباحة ركوب البحر الجهاد، أو التجارة، أو سائر المنافع؛ إذ لم يخص سبحانه ضَرْباً من المنافع دون غيره. قال القرطبي: "هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً، لتجارة كان، أو عبادة، كالحج، والجهاد". وقد قال تعالى أيضاً: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} (البقرة:22) وقال سبحانه: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله} (الإسراء:66) فقوله تعالى: {ولتبتغوا من فضله} يشمل التجارة وغيرها، كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10) وقال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} (البقرة:198).

المسألة الثانية: روي عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر، ويؤيد ذلك ما جاء في السنة، من ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سُليم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندهم -أي نام وقت الظهيرة- فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله! وما أضحكك؟ قال: (رأيت قوماً ممن يركب ظهر هذا البحر، كالملوك على الأَسِرة) -جمع سرير- قالت: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (فإنك منهم) قالت: ثم نام، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فقال مثل مقالته. قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين). قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فغزا في البحر، فحملها معه، فلما رجع قُرِّبت لها بغلة لتركبها، فصرعتها، فاندقت عنقها فماتت.

قال القرطبي: "في هذا الحديث دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد، فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب".

وروى مالك وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وفي هذا الحديث أيضاً دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً.

ومما يدل على جواز ركوب البحر من جهة المعنى أن حاجات الناس لا تقضى إلا بركوبه؛ فإن الناس موزعون في أماكن شتى، ولا بد لهم من تبادل المنافع والمصالح، وركوب البحر من الوسائل التي تيسير للناس بلوغ حاجاتهم، وتحقيق مقاصدهم.

قال القرطبي: "دلَّ الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعاً: العبادة، والتجارة، فهي الحجة، وفيها الأسوة".

المسألة الثالثة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يركب أحد البحر إلا غازياً، أو حاجاً، أو معتمراً)، وهذا يفيد عدم جواز ركوب البحر لغير هذه الأمور المذكورة، قال العلماء: جائز أن يكون ذلك منه على وجه المشورة والإشفاق على راكبه.

وروي عن العمرين: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه، قال القرطبي: "والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يُكره، أو لا يجوز، لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض، وإليها المـَفْزَع".

وقد تؤول أهل العلم ما روي عن العمرين في المنع من ركوب البحر، بأن ذلك محمول على الاحتياط، وترك التغرير بالنفوس في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا كراهة.

وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يركب البحر إلا حاج، أو معتمر، أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحرا) قال الألباني: "ضعيف". قال العلماء: جائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب؛ لئلا يغرر بنفسه في طلب الدنيا، وأجاز ذلك في الغزو، والحج والعمرة؛ إذ لا غرر فيه؛ لأنه إن مات في هذا الوجه غرقاً كان شهيداً.

وروى أبو داود أيضاً عن أم حرام رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين) قالالألباني: "حسن"، و(المائد) هو من أصابه غثيان ودوار من ركوب البحر.

المسألة الرابعة: قال ابن عبد البر: "كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا، قال: إنما كره ذلك مالك؛ لأن السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها؛ لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكناً؛ فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار، فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلاً من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالاً، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يَخُصَّ بحراً من بر".

المسألة الخامسة: قال العلماء: إن البحر إذا هاج وماج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حال هيجانه، ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. وقال القرطبي: "إن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك، ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط المـَيْد -أي من يكثر غثيانه ودواره عند ركوب البحر- ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة، ونحوها من الفرائض، فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه، ويُمْنَع منه".

المسألة السادسة: قوله تعالى: {بما ينفع الناس} أي: بالذي ينفعهم من التجارات، وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تُكتسب الأرباح، وينتفع من يُحمل إليه المتاع أيضاً.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة