الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كم أهلكنا من قبلهم...وكم أهلكنا قبلهم

كم أهلكنا من قبلهم...وكم أهلكنا قبلهم

كم أهلكنا من قبلهم...وكم أهلكنا قبلهم

من النظائر القرآنية زيادة {من} في ثلاث آيات، وحذفها من خمس آيات؛ فأما الآيات الثلاث التي زيدت فيها {من} فهي:

الآية الأولى: قوله سبحانه: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} (الأنعام:6).

الآية الثانية: قوله تعالى: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون} (السجدة:26).

الآية الثالثة: قوله عز وجل: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص} (ص:3).

وأما الآيات الخمس التي حُذفت منها {من} فهي:

الآية الأولى: قوله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} (مريم:74).

الآية الثانية: قوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} (مريم:98).

الآية الثالثة: قوله عز وجل: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى} (طه:128).

الآية الرابعة: قوله سبحانه: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} (يس:31).

الآية الخامسة: قوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص} (ق:36).

والسؤال الوارد هنا: لماذا وردت الآيات الثلاث الأُول بزيادة {من} فيها، في حين خلت الآيات الخمس الأُخر منها، مع اتحاد مقصودها، أو تقاربه؟

لم يتعرض من كتب في الوجوه والنظائر لهذا السؤال، سوى ابن الزبير الغرناطي، فقد أجاب عن هذا السؤال بما حاصله: أن زيادة {من} إنما زيدت في المواضع التي زيدت فيها لتأكيد معطيات تضمنتها الآية، وإشارة إلى الوعيد، وهي أبداً في أمثال هذه المواضع إنما تفيد معنى التأكيد، لا تنفك عن ذلك؛ فحيث ورد في هذه الآيات ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها، أو أكثر، أو تكرر التهديد، وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام، فذلك موضع زيادتها، والتأكيد بإثباتها، وحيث لم يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد، فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها؛ إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآيات الأُخر، فهذا على وجه الإجمال يوضح ما ورد من الحذف والإثبات في هذا الحرف.

وأما وجه التفصيل فيقال فيه: إن آية الأنعام تقدمها قوله تعالى: {الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} (الأنعام:1)، وقد كانوا يعترفون بأنه تعالى الخالق، كما أخبر جل شأنه عنهم بقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (الزخرف:87) ثم تتابع ما بعدُ على هذا إلى قوله سبحانه: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} {الأنعام:4} على بيان الأمر ووضوحه، ثم قال عز شأنه: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} (الأنعام:5) فحصل التسجيل ببقائهم على الإعراض وإنفاذ الوعيد عليهم، ولا أشد من هذا ونحوه، ومثله في الشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد قوله تعالى في سورة السجدة: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} (السجدة:22) فاكتنف الآية ما تضمنته الآيتان من الوعيد والتهديد، فناسب ذلك ما اقتضته زيادة {من} من مناسبة التأكيد، فقيل: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} (السجدة:26).

أما آية سورة (ص) فحسبك ما تضمنته من أولها إلى قوله: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} (ص:15) ثم قال تعالى مخبراً عن حالهم في تكذيبهم واستبعادهم: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص:16) ولعظيم تمردهم ووعيدهم المحكي عنهم في هذه الآيات ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر في قوله تعالى: {اصبر على ما يقولون} (ص:17) ثم أعقب تعالى بقصة داود عليه السلام؛ إعلاماً لنبيه بأن ذلك مراده منهم بما ُقِّدر لهم في الأزل، فقد سخر الجبال والطير لداود، وألان له الحديد، فلو شاء لهدى هؤلاء؛ فلعظيم ما ورد في هذه الآيات من مرتكبات كفار قريش وغيرهم، ورد التأكيد بزيادة {من} في قوله سبحانه بعد ذكر شقاقهم واغترارهم: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} فهذا وجه زيادة {من} في هذه الآيات الثلاث.

أما الآيات الخمس الأُخر، فلم يرد فيها، ولا فيما اتصل بها ما ورد في هذه الآيات من التغليظ في الوعيد، ومتوالي التهديد، وإن كانت قلَّ ما ترد إلا لذلك، ولكن اشتداد التهديد، إنما هو بحسب ما يقارِن، أو يكتنِف، أو يتقدم، أو يَنْجَر معها من التغليظ في الوعيد، فبحسب ذلك يقوى الرجاء، أو يضعف.

فالمتأمل في قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} لا يجد فيها، أو فيما انتظم معها متقدِّماً، أو متأخِّراً، ما جاء في التهديد في الآيات الثلاث التي زيدت فيها {من}، فلو نوظر بين المعْنِيِّين بهذه الآية، والمهلَكين قبلهم من القرون السالفة، لتبين أن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال، وكثرة المال، حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلًكين قبل هؤلاء أنهم كانوا: {أحسن أثاثا ورئيا} (مريم:74) فهذه الآية كقولهم: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} (سبأ:35) ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} (آل عمران:178) ومع ما أعقب هذه الآية من المنتظم معها من قوله سبحانه: {فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا} (مريم:75) فليست في التغليظ كتلك الآيات، إذا حُقق ما قبلها.

وكذلك الآية الثانية، وهي قوله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} (مريم:98) في نفسها، وفيما انتظمت به.

أما آية (طه) فأوضح في إيحاء الرجاء في نفسها، وما انتظمت به، ألا ترى قوله تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} (طه:128) وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} (طه:128) من عظيم الحلم، وعلى الرفق، وكذا ما بعد؛ فإن هذا غير ما تضمنته تلك الآيات الثلاث.

وأما آية (يس) وآية (ق) فأوضح فيما ذكرنا، وتأمل مفهومها وما انتظم معهما، وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار، وتذكير بالآلاء والنعم، وتأمل قوله في المنتظم بآية (يس) وما أعقبها من قوله سبحانه: {أفلا يشكرون} (يس:73) وعلى ما يترتب الشكر، إذ لا يمكن إلا مرتباً على حصول الإيمان والتصديق.

وقوله سبحانه عقب آية (ق): {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق:37) فقد وضح الفرق ما بين الموضعين، وورود كل منهما على الوجه المناسب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة