الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إثبات بقاء حجية الإعجاز اللغوي إلى قيام الساعه

إثبات بقاء حجية الإعجاز اللغوي إلى قيام الساعه

إثبات بقاء حجية الإعجاز اللغوي إلى قيام الساعه

الحمد لله وحده، أما بعد: فإن من المغالطة بمكان أن يقال إن إعجاز القرءان في اللغة لا تقوم حجّته على الأعاجم وأشباههم من أهل هذا الزمان لأنهم ليسوا من أهل ذاك اللسان، فإن مفهوم الإعجاز ومعناه في اللغة كما في الشرع إنما هو تحدي المخاطبين بالشيء بدعوى عجزهم عن الإتيان بمثله. فإن قلنا إن بعض هؤلاء المخاطبين ليس بمتأهّل أصلا للاشتغال بتلك الصنعة التي جاء الإعجاز فيها، فإن هذا لا ينافي حقيقة الإعجاز في حقّهم. فعندما نقول لبعض كفار هذا الزمان: إن القرءان يتحدّاكم أن تأتوا بمثله، فلا نجاب بأن هذا التحدي باطل وبأن الإعجاز ليس حاصلاً هنا لكون هؤلاء الكفار لا دراية لهم بلسان العرب أصلا! فإن وجه التحدي إثبات أنهم لا يأتون بمثله، وهذا واقع ولله الحمد!

ولكن قد يقال ههنا إن الإعجاز اللغوي كان أظهر وأقوى في حقّ المخاطبين الأوائل، منه في أي زمان يأتي بعد ذلك، أو بالأحرى كان هو الأصل في تحقّقه، بالنظر إلى أن بُعْد العهد عن اللسان الأصلي يورث – لا محالة - تخلّفاً عاماً عن الوصول إلى درجة من الإجادة في ذلك اللسان تعادل أو تقارب ما كان عليه أهل ذلك اللسان نفسه في زمانه، وهذا كلام معتبر له وجاهته ولا شك، ولكنه ليس مؤداه إسقاط حجية الإعجاز اللغوي عن أهل الأزمان التالية لزمان التنزيل. وإنما يستفاد من تلك الحقيقة عند تصوّرها أنه إن كان الأوّلون قد عجزوا وتخلفوا عن الإتيان بما يناظر هذا الكتاب وهم أهل اللسان وأئمته وأساطينه الذين كانوا يتخاطبون به فيما بينهم وكانت سليقتهم منطبعة عليه وبه، فكيف بمن لم يأتهم ذلك اللسان إلا بالتعلّم من الكتب؟ هؤلاء ولا شك يكونون أعجز – بالضرورة – وأبعد عن إصابة ذلك الأمر مهما علموا!

فإن قيل إن لازم هذا أن يتخلّف معنى الإعجاز عن أهل هذه الأزمان المتأخرة لأنهم لا يملكون سبيلا للوصول إلى تلك الدرجة من الإتقان والإجادة لهذا اللسان التي بها يتصور من أحدهم أن يجيب عن ذلك التحدي، فلا يبقى لهذا الإعجاز من حجة، قلنا إن هذا ليس بصحيح، لأننا قد علمنا أن الأولين من المخاطبين بهذا اللسان – الذين هم أقدر الناس على سباكة اللفظ البليغ والمعنى المحكم به - قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذا القرءان وعن معارضته في بلاغته وقوة معناه ومبناه، ومنهم من شهد بنفسه على ذلك! ونحن نرى بجلاء أنه لم يرد إلينا منهم شيء مما يرقى لتلك المعارضة، ولو وجد مثل هذا لطار به المشركون في زمانه كل مطار، ولتناقله الناس من أهل سائر الملل الأخرى وفي سائر الأمصار، لقوة الداعي لذلك عندهم كما لا يخفى! ولكنه لم يقع ولم يكن! فإذا كان ذلك كذلك، وثبت عجز أساطين ذلك اللسان – الذين كانوا يرتجلون المطولات ارتجالا – عن تلك المعارضة، عُلم أن عجز أهل الأزمنة التالية لذاك الزمان عن إجابة هذا التحدي واقع من باب أولى، وأن التحدي لم يسقط بذلك ولم يفقد حجيته،بل إنه قد أحكم وحسم أمره وأوثق وثاقه إلى قيام الساعة.

أرأيت – على سبيل التنزل - لو أن أحدا من الناس في هذا الزمان تمكن من أن يخرج علينا بما يرقى لهذه المعارضة بالفعل، في محاولة منه لإجابة ذلك التحدي، كما رأينا كثيرا من سفهاء النصارى والملاحدة يسلك ذلك الطريق، أفلا يكون في هذا إبطال لمعنى الإعجاز؟ بلى ولا شك! فإن كانوا في الحقيقة يعجزون عن هذا، وتزيد عجمتهم وتأخرهم في الزمان عن أهل اللسان من قوة الحواجز والموانع أمامهم دون بلوغ هذه الغاية، فكيف يقال إن هذا الإعجاز لا تقوم حجته عليهم؟ بل هي قائمة عليهم كما قامت على الذين من قبلهم، وإنما يكفينا قيامها على الذين من قبلهم للتدليل على قيامها عليهم كذلك من باب أولى. وكلما جاء قرن كان أهله أعجز عن ذلك من أهل القرون السابقة عليه، لزيادة العجمة وبعد العهد باللسان الأول، فإذا ثبت أن الأولين قد عجزوا – وهو ثابت لا مرية فيه – فهيهات لهؤلاء المتأخرين أن يأتوا بما عجز عنه الأولون في ذلك، ومن يأتي بعدهم أعجز منهم لا محالة، إلى قيام الساعة!!

ولهذا فمن المغالطة الواضحة أن يقال لنا: إن الإعجاز اللغوي لا يمكن الاستدلال على صحته لأنه من الممكن أن يكون قد وفق أحد الناس في أحد البلدان في أحد الأزمان للإتيان بمثل القرءان ولكنه لم يظهر لنا ذلك أو لم يبلغنا! هؤلاء جوابهم أن نقول لهم: إن هذا الذي جاء بمثل القرءان إما أن يكون من أهل الزمان الأول، زمان لسان التنزيل، الذين كانوا أول مخاطب بهذا التحدي، وإما أن يكون من أهل الأزمان اللاحقة التي فشت فيها العجمة وتغير فيها اللسان. فإن كان من أهل الزمان الأول، فأين هذا الذي يزعمون أنه كان نظيرا للقرءان ينهض لجواب هذا التحدي؟ إن التحدي لازمه أن من يزعم أنه قد تمكن من الإتيان بمثل القرءان فعليه أن يظهره للناس ليثبت بطلان القرءان! وإلا فما معنى أن يقال إن هناك من جاء به ولكنه أخفاه ولم يظهره؟؟ هذا لا قيمة له! وإن كان لم يظهره في زمانه – وهو الأبلغ منه في جواب التحدي إن كان - فكيف عرفتم أنتم أنه وجد أصلا؟ فالحاصل أنه لما لم يظهر شيء من ذلك البتة في زمان التنزيل، الذي كان أهل هذا اللسان فيه على حال من البلاغة والفصاحة لا يُعرف لها نظير في سائر أمم الأرض عبر تاريخ البشر قاطبة، وكانوا أمكن الناس جميعا من لسان التنزيل بلا نزاع، ثبت أن مثل هذا الزعم باطل رأسا ولا قيام له البتة! وإذا ثبت ذلك، ثبت بالتبعية امتناع وقوع هذه المعارضة في أي زمان من الأزمنة المتأخرة، لشهادة سائر العقلاء بأن أحدا من المتأخرين لن يمكنه – مهما تعلم من اللسان وبرع فيه – أن يباري وينافس أهل اللسان الأوائل فيه، لأنهم قد توفر لهم من ظروف التنشئة على سليقة تلك اللغة ما لم يتوفر لأحد ممن جاء بعدهم، ولا يمكن أن يتوفر لمن يأتي فيما يلي من القرون. وبهذا يثبت امتناع وجود ما ينهض لجواب تحدي القرءان ومعارضة لغته وبلاغته، ويثبت عجز سائر الإنس والجن جميعا عن الإتيان بمثله، من زمان التنزيل وإلى قيام الساعة، وهو ما يعني تمام الإعجاز في هذا الباب وانقضاء أمره، وهو المطلوب.

هذا وينبغي – لتمام الفائدة - التنبيه في هذا المقام إلى أن الإعجاز عن الإتيان بمثله ليس مقصورا على الوجه اللغوي والبياني وحده، وإنما هو يشمل سائر جوانبه بما فيها قوة الحجة العقلية وخلوها من التناقض وخلوها مما يقع فيه البشر عند الكتابة من الخطإ والوهم والتكرار بلا فائدة والحشو بما لا يفيد وغيره من أوجه النقد التي يمكن أن يتعرض لها كتاب من تأليف البشر. ولهذا كان التحدي في الإتيان بمثله عامّاً فيما يناظر ما فيه من الحديث، دون الاقتصار على اللغة وحدها والبيان وحده، ودون تحديد لقدر مخصوص منه، بعدد معين من السور أو من الآيات، فقد تحدى بالإتيان بسورة، كما تحدى بالإتيان بعشر، وقال جلّ شأنه في لفظ مجمل: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور : 34) ونقول إن التحدي قائم حتى في الإتيان بآية واحدة من مثله، لأنه من السهولة أن يأتينا أحدهم يقول إن آية {مدهامتان} أقصر آيات القرءان، يمكنني أن آتي بمثلها، فيبحث في بطون المعاجم عن لفظة مما هو غريب عن أذنه الأعجمية، ثم يثنيه ويؤنثه ثم يقول هاكم قد أتيتكم بمثله!! وهذا عبث محض كما لا يخفى! فإن هذا يقال له: إن كنت فاعلا فأقم ما يصح أن يوصف بأنه "حديث"، يفهم اللفظ فيه في إطار سباقه ولحاقه، ويستفاد المعنى منه على النحو الذي يعقله الناس من اللغة، ثم تعال لتقول هذا مثل القرءان -وهيهات أن تفعل-، وإلا فلا معنى لاصطياد الألفاظ الفذة من هنا وهناك ثم يقال هذا جوابنا للتحدي!! نعم هذه آية كريمة يتعبد بتلاوتها منفردة بل ويستحب الوقف عليها في التلاوة كما هو الأصل في رؤوس الآيات، ولكنها يقينا لا يفهم منها شيء إن نزعت من سياقها وانفردت! وليس تقسيم الآيات في القرءان مشروطا بتمام المعاني كما هو معلوم، بل قد يمتد المعنى المراد على آيتين أو أكثر. قال أبو عمرو الداني في باب تفسير الوقف الحسن ( 5 / 2 ) : "ومما ينبغي له أن يقطع عليه رؤوس الآي ، لأنهن في أنفسهن مقاطع ، وأكثر ما يوجد التام فيهن لاقتضائهن تمام الجمل ، واستبقاء أكثرهن إنقضاء القصص . وقد كان جماعة من الائمة السالفين والقراء الماضين يستحبون القطع عليهن، وإن تعلق كلام بعضهن ببعض، لما ذكرنا من كونهن مقاطع، ولسن بمشبهات لما كان من الكلام التام في أنفسهن دون نهايتهن" اهـ. فلا معنى لأن ينتزع أحدهم آية أو آيتين ويحاول الإتيان بما يشبه نظمها ثم يقول ها أنا ذا قد جئت بمثله!!

ولهذا كان مسيلمة الكذاب مسخرة لأهل زمانه يوم قال إنه قد أوتي مثل القرءان، ثم راح ينشد "ضفدع يا ضفدعين نقي ما تنقين نصفك في الماء ونصفك في الطين... إلى آخر هذا الهراء"!! فمن الواضح بجلاء أنه لسان لا يخلو من ركاكة في اللفظ والبيان، كما لا نعجز نحن اليوم على ما فينا من عجمة عن أن نحكم عليه، فما بالك بحكم أساطين اللسان في زمانهم عليه؟ وحتى لو سلمنا تنزّلاً بأن لسانه هذا يشبه لسان القرءان في شيء من أسلوب النظم، فأي معنى تافه متهافت هذا الذي جاء به، وكيف يقال إنه قد أتي بمثل القرءان؟؟ القرءان كتاب هداية وحكمة لا عبث فيه ولا اختلاف، فليأتوا بمثل هذا إن استطاعوا! {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } (النساء : 82(

لهذا نقول إن حجة الإعجاز اللغوي اللفظي والمعنوي والبياني في القرءان لا انتهاء لها ولاحد، فإنه لا حصر لأوجه ذلك الإعجاز أصلا، لأنه لا حصر لأوجه الخطأ والسهو والنقص البشري التي يمكن أن تقع للإنسان في كلامه وتأليفه، ويتحدى هذا القرءان سائر الناس باستخراج شيء منها فيه! وقد أثبتنا أنه لا يأتي زمان إلا وأهله أشد عجزا عن ذلك ممن سبقوهم، فتحقق المقصود بذلك والله أعلى وأعلم، والحمد لله وحده.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة