الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

من آيات الأحكام المتعلقة بباب الطهارة نقرأ قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} (النساء:43) نقف في السطور التالية مع أهم ما تضمنته الآية الكريمة من أحكام فقهية، وَفْقَ المسائل الإحدى عشرة التالية:

المسألة الأولى: قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة} اختلف العلماء في المراد من {الصلاة} في الآية الكريمة: فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة، وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف، وهو مذهب الشافعي. وقد اختار الطبري القول الأول، وهو الظاهر المتبادر؛ لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز، كان حمله على الحقيقة أولى.

قال الشيخ رشيد رضا في "تفسير المنار": "المراد بـ {الصلاة} حقيقتها لا موضعها، وهو المساجد كما قال الشافعية، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي، وفي التنزيل خاصة {ولا تقربوا الزنى} (الإسراء:32) والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته".

وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي، وهو: هل يحل للجنب دخول المسجد؟ فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة، وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة، كقوله عليه السلام: (فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض) رواه أبو داود، وضعفه الشيخ الألباني. وغير ذلك من الأدلة. وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصًّا في حرمة دخول الجنب للمسجد، إلا في حالة العبور، فإنه يجوز له العبور دون المكوث.

المسألة الثانية: قوله تعالى: {وأنتم سكارى} الإجماع منعقد على أن السكر إذا بلغ بالشارب إلى حد التخليط، لا تصح صلاته، وفعلها حرام؛ لوجود العلة الموجبة للفساد. وأما الشارب إذا صلى في مبدأ النشوة ودبيب السكر؛ بحيث يعلم ما يقول، فصلاته جائزة صحيحة، وجميع أعماله وأقواله كذلك؛ لعدم العلة؛ ولأنه لا يسمى سكران؛ ولأنه داخل في جملة المكلفين. وإن صلى في حال اختلاط عقله، فلا تصح صلاته اتفاقاً؛ للآية.

ويلحق بالسكر ما في معناه من الحالة التي تقتضي اختلاط العقل، وجهل المصلي بما يقول؛ كتعاطيه للأفيون، والبنج، والحشائش، وكالمغلوب بالنعاس؛ لوجود العلة المقتضية للنهي والفساد.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {ولا جنبا} (الجنب) في الأصل موضوع لمعنى البعد، ومنه قوله تعالى: {والجار الجنب} (النساء:36) سمي بذلك لبعده عن حالة التقرب إلى الله تعالى، وهو مأخوذ من الجنابة. والجنابة تطلق على خروج الماء بالتلذذ، وقد تطلق على الماء نفسه؛ إذا تقرر هذا، فهل يطلق الجنب على من خرج منه الماء بغير تلذذ، فيجب عليه الغسل، أو لا يطلق عليه إلا إذا خرج على الحالة المعتادة، فلا يجب عليه الغسل؟ فقال الشافعي بالأول، وقال جمهور أهل العلم بالثاني.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} أفادت الآية حرمة قربان الصلاة في حال الجنابة حتى نغتسل، إلا أن نكون مسافرين عادمين للماء؛ فإنه أباح لنا سبحانه قربانها، إذا تيممنا صعيداً طيباً؛ وقد اختلف أهل العلم في دخول الجنب المسجد، فقال الشافعية: يجوز للجنب العبور دون القرار. وقال الحنفية والمالكية: لا يقرب المسجد بحال. وقال أحمد، وأهل الظاهر: يجوز مطلقاً، إلا أن أحمد شرط الوضوء.

المسألة الخامسة: قيدت الآية جواز التيمم بـ (المرض) {وإن كنتم مرضى} فيجوز أن يراد به مرض يحصل معه المشقة والضرر باستعمال الماء في الحال، أو في المآل، ولا يعتبر خشية التلف؛ وهذا قول جمهور أهل العلم، والصحيح من قولي الشافعي. ويجوز أن يراد به عدم القدرة على استعمال الماء؛ لخوف التلف في نفس، أو عضو، وهذا أحد قولي الشافعي.

المسألة السادسة: {أو على سفر} ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط لجواز التيمم أن يكون فقدان الماء حاصلاً في سفر قصر، بل يجوز بمطلق السفر، ولو لم يكن سفراً يبيح قصر الصلاة. وقال قوم: لا بد لجواز التيمم من أن يكون السفر سفراً يجوز فيه قصر الصلاة.

المسألة السابعة: قيدت الآية جواز التيمم في حال كون فقدان الماء في سفر، ومن ثم اختلف العلماء في حال عُدِم الماء في الحضر؛ فقال أبو حنيفة: لا يتيمم، ويقف إلى أن يجد الماء. وقال مالك، والشافعي: يتيمم، إلا أن الشافعي قال: عليه الإعادة.

المسألة الثامنة: قوله تعالى: {أو لامستم النساء} اختلف الفقهاء في المراد بـ (الملامسة) في الآية، فمذهب الجمهور أن المراد الجماع، وهو مذهب الحنفية والمالكية. ومذهب الشافعية أن المراد بها اللمس باليد، قال الطبري: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أو لامستم النساء} الجماع دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبَّل بعض نسائه، ثم صلى، ولم يتوضأ. رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني. واختلف العلماء هنا: فقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وهو قول أحمد. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة، سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد، انتقضت به الطهارة، وإلا فلا. وذهب أبو حنيفة إلى أن مس المرأة غير ناقض للوضوء، سواء كان المس بشهوة، أم بغير شهوة، إلا أن يكون معه انتشار فينتقض مع الوضوء.

قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم (اللمس) في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله {أو لامستم النساء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازاً على الجماع، وإذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يُحمل على الحقيقة، حتى يدل الدليل على المجاز.

وقال الآخرون: إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم (الغائط) الذي هو أدل على الحدث، الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض، الذي هو فيه حقيقة.

ثم قال: والذي أعتقده أن (اللمس) وإن كانت دلالته على المعنيين، إلا أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازاً؛ لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع، وهما في معنى اللمس".

المسألة التاسعة: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم: وهي أربعة: (المرض، السفر، المجيء من الغائط، ملامسة النساء) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء، والمرض أيًّا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط عند عدم الماء؛ لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فهذا القيد راجع إلى الكل، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم؛ لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال، فيكون كالفاقد للماء، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه، فهو عادم للماء حكماً.

فإن قيل: ما الفائدة من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح، كلهم على السوء، لا يباح لهم التيمم إلا عند فَقْد الماء؟

أجاب المفسرون عن ذلك، بأن المسافر لما كان غالب حاله عدم وجود الماء، جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يُشعر بأن المرض له دخل في السببية.

المسألة العاشرة: قيدت الآية جواز التيمم بعدم الوجدان {فلم تجدوا ماء} و(الوجدان) اسم للظفر بالمطلوب بعد الطلب، يقال: وجد مطلوبه، ووجد ضالته: إذا ظفر به؛ ولهذا أوجب الشافعي ومالك طلب الماء على فاقده. وعن الإمام أحمد روايتان، والمشهور عنه اشتراط طلب الماء. وقال الحنفية: ليس على المتيمم طلب الماء، إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء، أما إن غلب على ظنه وجود الماء، لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه.

المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} اختلف أهل اللغة في معنى (الصعيد) فقيل: إنه التراب، وقيل: إنه وجه الأرض ترابا ًكان أو غيره، وقيل: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس. وبناء على هذا الاختلاف من حيث الدلالة اللغوية للفظ (الصعيد) اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم:

فذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز إلا بالتراب الخالص الذي له غبار، وبه قال أحمد، وأبو يوسف، وداود، وأكثر الفقهاء. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى جوازه بكل ما صعد من الأرض من أجزائها؛ لوقوع الاسم عليه، ووجود معنى الاشتقاق فيه، حتى أجاز مالك في إحدى رواياته التيمم بالحشيش، والأخشاب، والملح؛ لوجود معنى الاشتقاق؛ لكونه متصاعداً على وجه الأرض، وزاد أبو حنيفة، فجوز بما يتولد من الأرض، مثل النورة، والزرنيخ.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة