الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا

من النظائر القرآنية تستوقفنا الآيات الست التالية:

- قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون} (الأنعام:21).

- قوله سبحانه: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} (الأنعام:93).

- قوله عز وجل: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} (الأعراف:37).

- قوله عز من قائل: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} (يونس:17).

- قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} (العنكبوت:68).

- قوله سبحانه: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} (الصف:7).

في هذه الآيات الكريمات سؤالان:

أحدهما: وجه ورود الآيات في هذه المواضع بهذا النص من قوله عز شأنه: {فمن أظلم ممن افترى على الله} وتعقيب كل آية منها بما اتصل بها.

ثانيهما: مجيء لفظ {الكذب} معرفاً بأل التعريف في سورة الصف، وتنكيره فيما عداها.

وقد أجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤال الأول بما حاصله: إن آية سورة الأنعام الأولى تقدمها قوله: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} (الأنعام:5) ثم قال تعالى بعدُ: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} (الأنعام:7) فحصل من هذا افتراؤهم، وفي قولهم: (إنه سحر) وتكذيبهم، قال تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} وجَعْلِهم مع الله آلهة سواه، فجمعوا بين الشرك والتكذيب، فناسب هذا ورود قوله تعالى بعدُ: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} على طريقة التعجب من مُرْتَكَبِهم، وسوء حالهم، أي: من أظلم يا محمد! من هؤلاء الجامعين بين الافتراء، والشرك، والتكذيب، مع وضوح الشواهد، وكثرة الدلائل الواردة أثناء هذه الآيات، مما لا يتوقف فيه مُعْتَبِر. فقد وضح تناسب هذا كله، وحُق لمرتكبه الوصف بـ (الظلم) الذي لا يفلح المتصف به، وهو ظلم (الافتراء) على الله، والشرك، والتكذيب.

أما الآية الثانية من سورة الأنعام، فقد جاء قبلها ذكر الرسل عليهم السلام، وتعقيب ذكرهم بقوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام:90) ثم قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} (الأنعام:91) فأعظم تعالى مُرْتَكبهم في هذا، وفي تعاميهم عن التوراة، وما تضمنته من الهدى والنور، ثم أعقب ذلك بقوله سبحانه؛ تنزيها للرسل عليهم السلام عن الافتراء على الله سبحانه، وادعاء الوحي، فصار الكلام بجملته في قوة أن لو قيل: ألا ترون ما تضمن كتاب موسى عليه السلام من الهدى، والنور، والبراهين الواضحة، وهل أحد أعظم افتراء من هذا! {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} فهذا أوضح شيء. ولما لم يتقدم في الآية الأولى ذكر الأنبياء والوحي إليهم كما في هذه الآية، لم يناسبها ما ورد هنا، فجاء كلُّ على ما يجب ويناسب.

وأما آية الأعراف فتقدمها وعيد من كذَّب بآيات الرسل، واستكبر عنها؛ وأنهم أهل الخلود في النار، فناسب هذا قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته}.

أما آية يونس فتقدم قبلها قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} (يونس:15) إلى آخر الآية، ولا أظلم ممن قال من فصحاء العرب العالمين بأصول الكلام، وجليل النظم، وعليِّ البلاغة: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} مع علمهم بعلوِّ فصاحته، واعترافهم بالعجز عنه، فجمعوا بين إنكار ما علموا صدقه، ممن عرفوا رفيع مكانته، وجليل منصبه، فإخباره تعالى عنهم بقوله: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (الأنعام:33) فجمعوا بين الإنكار، وبين قولهم في إنكارهم: {أو بدله} فلا أظلم من هؤلاء.

ثم في إنكارهم وقولهم: {أو بدله} أعظم إقدام، وأوضح إجرام؛ لأنه كفر على علم؛ فلهذا أعقبت الآية هنا بقوله: {إنه لا يفلح المجرمون} (يونس:17) ولم يقع قبل الآية التي في سورة الأنعام، مثل هذا الإقدام على مثل هذه الجريمة في القول، وإنما تقدم عداوتهم، وظلمهم أنفسهم في مُرْتَكَبَاتهم، وتعاميهم، فناسبه قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} (الأنعام:21). وأما آية الأعراف، وآية العنكبوت، وآية الصف فجوابها بيِّن مما تقدم.

وقد يُجاب أيضاً بأن يقال: إنه قد تقدم ما به الاعتبار في الأولى من آيتي الإنعام، وآية يونس ما فيه كفاء، وإن تنوع فقد جمعه جامع الاعتبار، وفي كل شفاء لمن وُفِّق للاعتبار به، فمن عدل عنه فظالم، إلا أن الإجرام أشد من الظلم، وإن كان قد أجري مع الظلم عدم الفلاح، إلا أن الإجرام أظهر بالشدة وأخص بالإشعار بشناعة المرْتَكَب. ويقال أيضاً: قدَّم سبحانه وصفهم بـ (الظلم) ثم تكرر ذلك {ممن افترى} {أو كذب} وقد وصفهم أولاً بـ (الظلم) ثم وصفهم ثانياً بـ (الإجرام) ترقياً في الشر، كما يُترقى في الخير، وأيضا ليناسب ما وقع في يونس متقدماً من قوله: {وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين} (يونس:13).

وأجاب ابن الزبير الجواب عن السؤال الثاني بما حاصله: إن آية الصف قد انفردت عن كل ما تقدم من هذه الآيات بذكر تعيين المفترى فيه {الكذب} منطوقاً به من غير الإجمال الوارد في الآيات الأُخر، بل ورد على التفصيل والتعيين؛ وذلك بين من قوله تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (الصف:6) ثم قال: {فلما جاءهم بالبينات} (الصف:6) أي: فلما جاءهم الرسول الذي سماه لهم عيسى بالبينات، والدلائل القاطعة، والتصديق لما بين يديه من التوراة، {قالوا هذا سحر مبين} (الصف:6) فافتروا الكذب، وارتكبوا البهتان فيما لا توقف فيه، ولا إشكال، فقيل متعجباً من حالهم وفق الجاري على لسان العرب: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب} (الصف:7) معرَّفاً بأداة العهد {الكذب} ليقوم مقام الوصف، حتى كأنه قد قيل: هذا {الكذب} الذي لا امتراء فيه، ولا توقف، ولما لم يرد في الآيات الأُخر ما تقدم هنا، كان الوجه أن يرد مُنَكَّراً كما ثبت، فورد على ما يناسب ويجب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة