الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ومنهم مَنْ يَقول ائْذَنْ لي ولا تَفْتِنِّي

ومنهم مَنْ يَقول ائْذَنْ لي ولا تَفْتِنِّي

ومنهم مَنْ يَقول ائْذَنْ لي ولا تَفْتِنِّي

غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت أحداثها في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة النبوية، قال ابن حجر: "هي آخِرُ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أخبار أصحاب الأعذار الذين عجزوا عن الجهاد، وأنباء المنافقين الذين فُضِحوا، فضلاً عن كثير من المواقف والأحداث التي صاحبتها". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّ ما يخرج فى غزوة إلا ورَّى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى سيسير إليه، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، وذلك لبُعْد المسافة، وكثرة المشقة، وشدة الحر، وطبيعة وكثرة العدوّ وهم الروم. وقد جاء الفقراء والضعفاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يعينهم للخروج معه إلى الجهاد في سبيل الله، فاعتذر لهم بأنّه لا يجد ما يحملهم عليه، فانصرفوا وقد فاضت أعينهم حزنا على ما فاتهم من شرف وفضل الجهاد، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة: 92:91).

وفي مقابل حزن وبكاء أصحاب الأعذار لعدم استطاعتهم الخروج للجهاد في غزوة تبوك، فقد كان للمنافقين مواقف وكلمات يعتذرون بها عن الخروج للجهاد، ومن ذلك قول أحدهم: "ائذن لي ولا تفتني"، وقول الآخر: "لا تنفروا في الحر". قال ابن القيم في "زاد المعاد": "وفيها ـ في السنة التاسعة للهجرة النبوية ـ كانت غزوة تبوك، وكانت في رجب في زمن عسرة من الناس، وجدب من البلاد حين طابت الثمار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها إلا ما كان من غزوة تبوك، لبُعْد السفر وشدة الزمان، فقال ذات يوم لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساءهم أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذِنْتُ لك، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي}(التوبة:49)، وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}(التوبة: 81)".

ائْذن لي ولا تفتني :

تعلل المنافقون بعلل واهية لعدم الخروج للجهاد، وقد أظهرت هذه العلل ما في قوبهم من ضعف ونفاق، ومن ذلك ما قاله الْجَدّ بْنِ قَيْس: أخشى أن تفتني نساء الروم، ففي السيرة النبوية لابن هشام: ".. ففي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نزلت هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(التوبة:49)، أي إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه". وفي رواية حسنها الألباني: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جَدُّ، هل لكَ في جلادِ بني الأصفرِ؟ قال جدٌّ: أوْ تأذنْ لي يا رسولَ الله، فإني رجلٌ أُحِبُّ النساء، وإني أخشى إن أنِّى رأيتُ بناتِ بني الأصفرِ أن أُفتَن، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُعرضٌ عنه قد أَذِنْتُ لك، فعند ذلك أنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}(التوبة:49). قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلَا تَفْتِنِّي} بالخروج معك، بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا". وقال الطبري في تفسيره: "تضاهرت الأخبار عن أهل التأويل بأن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس". وقد ذكر بعض المفسرين وغيرهم في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجدِّ بن قيس: (يا جدّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووُصَفاء)، وفي رواية أخرى: (اغزوا تغنموا بنات بني الأصفر)، وقد ضعف الألباني إسناد هاتين الروايتين.

لا تنفروا في الحر :

قال ابن هشام في السيرة النبوية: "وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكّاً في الحق، وإرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(التوبة:82:81)". قال ابن كثير: "وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ} لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم {أَشَدُّ حَرّاً} مما فررتم منه من الحر". وقال السعدي: "{وَقَالُوا} أي: المنافقون {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي: قالوا إن النفير مشقة علينا بسبب الحر، فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة الأبدية التامة، وحذروا من الحر الذي يقي منه الظلال، ويذهبه البكور والآصال، على الحر الشديد الذي لا يقادر قدره، وهو النار الحامية، ولهذا قال: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} لما آثروا ما يفنى على ما يبقى، ولما فروا من المشقة الخفيفة المنقضية، إلى المشقة الشديدة الدائمة".

لقد أنزل الله تعالى في شأن المنافقين المتخلفين عن الخروج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك آيات كثيرة في سورة التوبة، ومن ذلك قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة:42)، {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}(التوبة 45: 46)، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}(التوبة: 49)، {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}(التوبة:81). قال ابن كثير في البداية والنهاية: "كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام: مأمورون مأجورون: كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم. ومعذورون: وهم الضعفاء والمرضى، وَالْمُقِلُّون (الفقراء): وَهُمُ الْبَكَّاءُون. وعصاة مذنبون: وهم الثلاثة، وأبو لبابة وأصحابه (الذين ربطوا أنفسهم في المسجد حتى يتوب الله عليهم)، وآخرون ملومون مذمومون: وهم المنافقون".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة