الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا

فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا

فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا

يقول تعالى مخبراً ومشرِّعاً عن حال الزوجين حال نفور الرجل من المرأة، وحال اتفاقه معها: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:128) فقد ذكر سبحانه في هذه الآية حكم الرجل مع زوجاته، وندب كل واحد من الزوج والزوجة إلى إسقاط حقه عند نشوز صاحبه؛ لما فيه من البقاء على حسن العهد. والحديث حول هذه الآية يتجه وَفْق المسائل التالية:

المسألة الأولى: روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} قالت: (هي المرأة تكون عند الرجل، لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني، ولا تطلِّقْني، ثم تزوج غيري، فأنت في حِلٍّ من النفقة علي، والقِسْمة لي، فذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير}.

وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي منك لـ عائشة، ففعل، فنزلت: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال: "فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز".

وعن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا بن أختي! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القِسْم من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو في يومها، فيلبث عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أيست، وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي لـ عائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: في ذلك أنزل الله، وفي أشباهها: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} (النساء:128).

وروى مالك عن رافع بن خديج رضي الله عنه، أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها، حتى إذا كانت تَحِلُّ راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فقال: ما شئتِ إنما بقيت واحدة، فإن شئتِ استقررتِ على ما ترين من الأَثرة، وإن شئتِ فارقتك. قالت: بل أستقر على الأَثرة، فأمسكها على ذلك، ولم يرَ رافع عليه إثماً حين قرت عنده على الأثرة.

قال ابن عبد البر: قوله: (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها، والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم، وملبس، ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يُظَنَّ بمثل رافع رضي الله عنه.

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هي المرأة تكون عند الرجل، فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو فقرها، أو كبرها، أو سوء خلقها، وتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً، حلَّ له أن يأخذ، وإن جعلت له من أيامها، فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشبَّ منها، وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار، فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه، وإن أبت ألا ترضى، فعليه أن يعدل بينهما في القِسْم.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وَجَد -أي غضب- رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء، فقالت لي صفية: هل لك أن تُرْضِين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، ولك يومي؟ قالت: فلبست خماراً كان عندي مصبوغاً بزعفران ونضحته -النَّضْح: الرش- ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إليك عني، فإنه ليس بيومك). فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأخبرته الخبر، فرضي عنها.

المسألة الثانية: قوله سبحانه: {وإن امرأة خافت} (خافت) بمعنى توقعت. وقول من قال: خافت: تيقنت، خطأ. قال الزجاج: المعنى: وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. وقال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها، ولا يأنس بها.

المسألة الثالثة: روى البيهقي عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: أن السنة في الآية التي ذكر الله فيها نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} أن المرء إذا نشز عن امرأته، وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها، أن يطلقها، أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القِسْم من ماله ونفسه، فإن استقرت عنده على ذلك، وكرهت أن يطلقها، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك، فإن لم يعرض عليها الطلاق، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه، وتقر عنده على الأثرة في القسم من ماله ونفسه، صلح له ذلك، وجاز صلحها عليه.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: {والصلح خير} (الصلح) لفظ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف، خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه (الصلح) بين الرجل وامرأته في مال، أو وطئ، أو غير ذلك. {خير} أي: خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف، والشحناء، والمباغضة، هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة: (إنها الحالقة) يعني حالقة الدين، لا حالقة الشعر، رواه أحمد، وإسناده ضعيف لانقطاعه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {والصلح خير} يعني التخيير، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها. قال ابن كثير: "والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها، ولم يفارقها، بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام".

المسألة الخامسة: قال العلماء: أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر الزوجة، أو تعطي الزوجة على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأَثرة من غير عطاء، فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

المسألة السادسة: أفادت الآية أن الزوج إذا أراد فراق زوجته، إما لكبر أو دَمَامة، ورضيت بالصلح على إسقاط حقها، وتسليم شيء من مالها؛ لبقاء قِسْمِها، كانت محسنة، ولا جناح على الرجل في قبول ذلك، بل هو أفضل من تفارقهما، وإن صبر على كبرها، وأوفاها حقها، كان محسناً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن الله سبحانه. قال ابن كثير: "إذا خافت المرأة من زوجها أن يَنْفُرَ عنها، أو يُعْرِضَ عنها، فلها أن تُسْقِطَ حقها أو بعضه، من نفقة، أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها".

المسألة السابعة: قوله عز وجل: {وأحضرت الأنفس الشح} إخبار بأن {الشح} كائن في كل أحد، وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجِبِلَّتِه، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، يقال: شح يَشِحُ -بكسر الشين- قال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها، وبقِسْمه لها أيامها. وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها. قال ابن عطية: "وهذا حسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة. و(الشح) الضبط على المعتقدات، والإرادات، والهمم، والأموال، ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9) وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية، أو التي تقتضيها المروءة، فهو البخل، وهي رذيلة". وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة، لم يبق معه خير مرجو، ولا صلاح مأمول.

المسألة الثامنة: قوله سبحانه: {وإن تحسنوا وتتقوا} هذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن، أي: إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن، واتقاء ظلمهن، فهو أفضل لكم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة