الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وتبتل إليه تبتيلا

وتبتل إليه تبتيلا

وتبتل إليه تبتيلا

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن التبتل مصدر تبتل بمعنى انقطع للعبادة وأخلص فيها، فيقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة: قد تبتل، أي قطع كل شيء إلا أمر الله وطاعته سبحانه.
والبتول من النساء: المنقطعة عن الرجال، لا أرب لها فيهم، وبها سميت مريم البتول ؛ لأنها انقطعت عن الأزواج، كما وصفت فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنها بالبتول لانقطاعها إلى الله تعالى بالعبادة وإخلاصها النية له.

قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}(المزمل:8) . قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: (أكثر من ذكره ، وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك ، وما تحتاج إليه من أمور دنياك ، كما قال: {فإذا فرغت فانصب} (الشرح : 7) أي: إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبادته ، لتكون فارغ البال . قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه .
وقال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي : (وتبتل إليه تبتيلا) أي : أخلص له العبادة.
وقال الحسن : اجتهد وبتل إليه نفسك).انتهى كلامه.

والتبتل أيضا: الانقطاع عن النكاح، وهو بهذا المعنى منهي عنه، قالت عائشة رضي الله عنها: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل". وروى ابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة".
وأخرج مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل".
وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الغاية في التبتل والانقطاع للخدمة والإخلاص للرب تبارك وتعالى مع أخذه مما أباح الله تعالى لعباده من الطيبات، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يصوم ولا يفطر ولمن أراد أن يقوم الليل فلا ينام ومن أراد ألا يتزوج النساء: " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".(رواه البخاري).

فالتبتل الذي يقصدونه في هذا المقام هو الانقطاع إلى الله بالكلية، بحيث يكون العبد متجردًا لسيده ومولاه، ولو أخذ من حظوظ الدنيا مما أحل الله وأباح فلا يتعارض هذا مع التبتل الذي مداره على القلب وانقطاعه لربه وإخلاصه له، قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚقُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} (الأعراف).

وإذا كان غاية شرف النفس دخولها تحت رق العبودية طوعًا واختيارًا ومحبة، لا كرهًا وقهرًا . كما قيل:

شرفُ النفوس دخولها في رقهم .. .. والعبد يحوي الفخر بالتمليكِ

فإن التبتل يجمع أمرين لا يصح إلا بهما: الاتصال ، والانفصال.
أما الانفصال فيُقصد به: انقطاع قلب المتبتل عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله تعالى .
وأما الاتصال: فهو اتصال القلب بالله تعالى، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له، حبًا وخوفًا، ورجاءً وإنابةً وتوكلاً .
ومما يعين على ذلك :
- أن يحسم مادة رجاء المخلوقين من القلب، وذلك بالرضا بحكم الله وقسمه، فمن رضي بحكم الله وقسمه؛ لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع .
- أن يحسم مادة الخوف، وذلك بالتسليم لله تعالى؛ فإن من علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع.
- أن يحسم مادة المبالاة بالناس، وذلك برؤية الأشياء كلها من الله وبالله، وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه . لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته، ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته.
- أن يوطن نفسه على الصبر لله تعالى واضعا نصب عينيه قول الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}(مريم، من الآية:65). قال الطبري رحمه الله:( فالزم طاعته، وذلّ لأمره ونهيه ( وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ) يقول: واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه، والعمل بطاعته، تفز برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) يقول: هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته، والصبر على طاعته مثلا في كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا ما ذلك بموجود).انتهى.

أيها الحبيب: إن من صح فراره إلى الله، صح قراره مع الله، ومن انقطع إلى الله أغناه عمَّن سواه.
هذه مريم البتول انقطعت إلى الله؛ فآثرها على نساء العالمين، وأجرى لها من الكرامة ما أجرى؛ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}(آل عمران: 37) .
وهذه آسيا انقطعت إلى الله وآثرته على الملك والجاه، فآثرها الله بالقرب منه في جنته ودار علاه، وجعلها مثلا للمؤمنين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم 11).
نسأل الله من فضله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة