الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتاب: النص القرآني الخالد عبر العصور

كتاب: النص القرآني الخالد عبر العصور

كتاب: النص القرآني الخالد عبر العصور

تعددت الطرق والوسائل التي استُخدمت لإخراج المصاحف والقطع والأجزاء القرآنية المخطوطة في القرن الماضي والحاضر، فقد ظهر في بداية القرن العشرين نموذج النسخة الدبلوماسية (Diplomatic)، التي تعتمد على فكرة تفريغ نصّ المخطوط المراد نشره مع الحفاظ على الهجاء الأصلي للكلمات، ويُضاف لهذه النسخة تعليقات وتحشيات ورموز متّفق عليها سلفاً لبيان مواضع السَّقط والزيادة والضرب وفواصل الآيات والزخارف، وغيرها من الخصائص النصيّة والفنيّة.

ولا يتضمن هذا النوع من الإصدارات صوراً فوتوغرافية للمخطوط كاملاً، بل يُكتفى بعينات بصرية محدودة، ومن الأمثلة على هذه الطريقة؛ إخراج مخطوط (طِرس) الذي يحتوي نصوصاً قرآنية وعِظات مسيحية بالعربية، من قِبَل المستشرقين: ألفونس منغنا، وأجنيس لويس سميث عام (1914م) بعنوان: (أوراق من ثلاثة قِطَع قرآنية قديمة؛ على الأغلب ما قَبْل عثمانية، مع قائمة باختلافاتها النصيّة) طُبع في جامعة كامبردج (1914م) وأعيدت طباعته عام (2014م).

ومن عيوب هذه الطريقة أن الباحث يتعامل مع نصوص مجردة، لا يستطيع التأكّد من صحتها إلا بالرجوع للمخطوط الأصلي وإجراء المقارنات بنفسه، فهي عمليًّا غير مجدية بالقدر المطلوب. وهنا يظهر نموذج آخر يسدُّ هذه الثَّغرة، يعتمد على فكرة إخراج المخطوط كاملاً في صورة فوتوغرافية ملونة، بالمقاسات الأصلية أو المصغرة أحياناً مع إدراج النَّسْخ أو التفريغ النصِّي في الصفحة المقابلة بخط مُحْدَث؛ تسهيلًا لقراءة خط المخطوط القديم، وهو ما يُعرف بالنسخة العينية أو الفاكسيميلية (Facsimile).

ومن أهم النُّسَخ القرآنية المبكرة التي أُخْرِجت بهذه الطريقة في أواخر القرن الماضي: بقايا من أقدم مصحف محفوظ في المكتبة البريطانية برقم (2165) وصحائف قرآنية من المكتبة الوطنية الفرنسية برقم (328) -كلاهما من القرن الأول الهجري- من قِبَل فرانسوا ديروش، وسرجو نويا نوزاده، ضمن سلسلة بحثيّة كانا يصدرانها عن المصاحف بالأسلوب الحجازي.

أما الكِتاب موضوع الحديث فقد اتَّبع فيه مؤلِّفُه أستاذ الحديث الراحل محمد مصطفى الأعظمي طريقة جديدة نوعيًّا، تعتمد على ما أسماه منهج الإثبات البصري؛ الذي يُعرِّفه على أنه: "إقامة الدليل على سلامة النصّ القرآني بدون اللجوء إلى كلمات".

يشتمل الكِتاب على قسمَين؛ الأول: التمهيد. والثاني: لوحات سورة الإسراء. وهو جوهر هذا الكتاب الذي أراد له مؤلفه أن يكون (كتلوجاً) بصريًّا لسورة الإسراء في ثمانية عشر (18) مصحفاً مخطوطاً من القرن الأول الهجري وصولاً إلى المصحف المطبوع في القرن الخامس عشر الهجري.

في الفصل التمهيدي، يعرض المؤلف موجزاً لبحوثه السابقة في علم الحديث (دراسةً وجمعاً وتحقيقاً)، ثم توجُّهه لدراسات القرآن الكريم ومخطوطاته؛ لِمَا أحسَّه من اهتمامٍ بالغٍ بهذا المجال في الغرب. وقد جاءته فكرة إعداد (الكتلوج) البصري التتابعي لسورة الإسراء بعد اطلاعه على عدد من الإصدارات الدبلوماسية الخاصة بمخطوطات الكتاب المقدّس بعهدَيْه: القديم، والجديد. يرجع أقدمها إلى سنة (1812م) وقصورها حيث إنها لا تعدو كونها طباعة للنص المخطوطي لا صورة منه؛ يقول المؤلف: "فلم نَرَ بأنفسنا المخطوطة الأصلية ولا رشاقة الريشة وهي تشقّ طريقها على مسار الحبر على الرقاع" ولهذا الغرض تبلورت في ذهنه فكرة جمع مخطوطات القرآن الكريم ابتداء من عام (2000م) واختار سورة الإسراء أنموذجاً؛ لأنها تقع وسط المصحف (ترتيبها 17)، ومعلومٌ أنّ الأوراق التي تُفْقَد من المصاحف المخطوطة تكون عادة من الأطراف الأمامية أو الخلفية، فالأوراق التي تتضمن سوراً مثل الفاتحة والناس هي الأكثر تعرضاً للضياع مِن سواها؛ فكان هذا إجراءً صحيحًا للوصول إلى السورة في أكبرِ عددٍ من القطع القرآنية المبكّرة.

ويقدِّم الفصل نظرة سريعة حول نزول القرآن الكريم، وتدوينه في العهد النبوي، وعملية جمعه الأول زمن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وجمعه الثاني زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما نُسِخَت الصحائف المجموعة زمن أبي بكر في المصاحف، وأُرسلت إلى الأمصار المختلفة، كمكة والشام والبصرة. والمؤلف هنا يُحِيل إلى كتابه الآخر المنشور بالإنجليزية بعنوان: (تاريخ النص القرآني من الجمع إلى التدوين) الطبعة الأولى (2003م) لمراجعة نقاشٍ موسّع لقضايا الأحرف السبعة ومعناها، والجمع البكري والعثماني، والقراءات القرآنية، وغيرها من المسائل المتعلقة بالنص ونقله، التي ذكرها في (كتلوجه) على سبيل الإيجاز.

اعتمد الباحث في مقاربته البصرية على عدد من المصاحف المخطوطة المتنوعة (شكلاً، وخطًّا، وزماناً) والتي تغطي في مجموعها الفترة من القرن الأول الهجري إلى القرن السابع الهجري، مروراً بالمصحف المطبوع في القرن الخامس عشر الهجري؛ مصحف المدينة النبوية الصادر عن مجمع الملك فهد، الذي يُعَدّ من أشهر طبعات المصاحف في العالم الإسلامي وأكثرها انتشاراً اليوم.

وهذا بيان بتفاصيل النُّسَخ القرآنية التي اعتمد عليها المؤلف:

فمِن بريطانيا، اختار العمل على أقدم مصحف محفوظ بالمكتبة البريطانية برقم (2165) والذي يَرقى إلى القرن الأول الهجري، وهو في (121) ورقة، مكتوب بالخط الحجازي أو المائل. ومِن أوزباكستان، اعتمد على نسخة فوتوغرافية منشورة عام (1905م) لـ (مصحف سمرقند) المنسوب للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمكتوب بالخط الكوفي المجرد من النقط والشكل؛ المتبقّى منه (353) ورقة. ومن تركيا، اختار ستة مصاحف: الأول المصحف المنسوب لـ عثمان بن عفان بقصر طوب قابي، وهو مصحف كامل لا تنقصه إلا ورقتان فقط، وخمسة مصاحف أخرى من المكتبة السليمانية.

ومن الهند، استعان بمصحف منسوب للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يُعرف اختصاراً بـ (علي-رامبور) من مكتبة رضا في (350) ورقة، ومصحف منسوب لـ ابن مُقْلَة في (216) ورقة، ومصحف آخر لـ ياقوت المستعصمي، محفوظ بمتحف سالار جونغ بحيدرآباد.

ومن صنعاء، استخدم مجموعة من القطع القرآنية المحفوظة بدار المخطوطات، والتي تغطي أجزاءً متفرقة من سورة الإسراء.

ومن تونس، مصحفَيْنِ محفوظَيْنِ بمتحف الفن الإسلامي برقَادة بجانب جامع القيروان، يَرقيان للقرن الثالث أو الرابع الهجريَّين.

ومن السعودية، مصحف يَرقى للقرن الثاني أو الثالث الهجري محفوظ بمكتبة الملك فهد بالرياض.

ومن إيرلندا، مصحف كتَبه ابن البواب سنة (391هـ).

وتوفَّر للباحث من ألمانيا مصحفَان آخَرَان -لم يضمهما للمقارنة البصرية، لكنه ذكرهما في جداول المقارنات النصيّة-: الأول من مكتبة جامعة توبنغين برقم (Ma VI 165) والثاني من مكتبة برلين الحكومية برقم (Wetzstein II 1913) كلاهما من القرن الأول والثاني الهجري.

يقول المؤلف: "وقد جرى تصنيف هذه المخطوطات السبع عشرة في ظلّ إطار ما يُعرف بـ (collate) ومعنى تلك الجملة المعجمي هو الضمّ؛ لتسهيل اقتفاء المتشابهات والاختلافات، وبصَفِّ الكلمات جنباً إلى جنب يمكن للقارئ أن يميز كل كلمة وكل حرف وكل آية بشكل أفضل، كما نُقلت عبر القرون بطريقة بصرية، يمكن معها التعاطي بيُسْر وغنى في التفاصيل وفي خصائص التطور الأسلوبي المتكرر صداه عبر الزمان".

لقد استخرج المؤلف كلمات سورة الإسراء من جميع المخطوطات القرآنية الآنفة الذكر، وعَرَضَها في صورة بصرية مرتبة وفق التسلسل الزمني، وأضافَ جداول نصيَّة تبيّن مواضع الاتفاق والاختلاف الهجائي بين بعضها بعضاً مقارنة بمصحف المدينة النبوية المطبوع سنة (1405هـ‍/1984م). وقد ظهر له أن الفوارق الهجائية بين هذه المصاحف المخطوطة تقع في (196) كلمة فقط من أصل (1559) هي مجموع كلمات سورة الإسراء. فمن الناحية الهجائية، يخالف مصحف المكتبة البريطانية مصحف المدينة في (56) موضعاً، أي إنه يطابقه بنسبة (96.4%) في حين يخالف مُصحف مكتبة برلين الحكومية في (37) موضعاً، أي إنه يطابقه بنسبة (97.60%). وأكثر هذه المصاحف مخالَفَةً هو المصحف المنسوب لـ ابن البواب؛ إذ يخالفه في (117) موضعاً، أي إنه يطابقه بنسبة (92.6%).

وأكثر هذه الفوارق الهجائية يتعلق بظاهرة حذف أو إثبات الألف: (مثال: قل = قال؛ قلوا = قالوا؛ السموت = السموات؛ يفرعون = يا فرعون؛ بركنا = باركنا...)، وطريقة كتابة الألف المقصورة أو الممدودة: (مثال: علَى = علا؛ الأقصَى = الأقصا).

وبطبيعة الحال، فإنّ المصاحف هي وسائل مساعدة للحفظ، فيُفترَض -في بيئة تعتمد التلقي الشفوي لإيصال النصّ القرآني- معرفة متى تُقرأ الكلمة بإثبات الألف، ومتى تُقرأ بحذفها، رغم أنها تُكتب برسمٍ واحدٍ، ويقاس على ذلك.

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الأخطاء النَّسْخية واردة في أيّ نص تخطّه يد الإنسان، ولا يُستثنَى من ذلك المخطوطات القرآنية. مع ذلك؛ فالأخطاء النسخية فيها ضئيلة للغاية؛ نظراً لطبيعة النصّ المقدّس، فالناسخ المؤمن يتحرّى الدقة في الكتابة طلباً للأجر والثواب؛ ولهذا، فإنّ عدد الأخطاء النسخية الواردة في المخطوطات التي درسها الباحث لسورة الإسراء لا تتجاوز ما نسبته (0.007%) وهو رقم لا قيمة له. ومن هذه الأخطاء، كتابة (المجسد) بدل {المسجد} (الإسراء:1) في مصحف سمرقند، و(صلين) بدل {صالحين} (الإسراء:25) في مصحف طوب قابي.

ويُعَدّ كتاب (النص القرآني الخالد عبر العصور) بمثابة مقاربة جديدة، غير مسبوقة، في دراسة المخطوط القرآني. وهي فتحٌ بلا شك؛ فهذا العرض البصري التتابعي لسورة واحدة، يُتيح لنا النظر في الآيات وتفحُّصها من خلال المخطوطات القرآنية على اختلاف أزمنتها التاريخية، ورَصْد الظواهر الهجائية ومقارنتها بالمصاحف المطبوعة ومرويات علماء الرسم، فضلاً عن طريقة الإخراج الفني التي تُبرِز الجانب الجمالي للمخطوط القرآني على مرِّ الأزمان والعصور. ومن شأن هذه المقاربة أن تُظهِر سلامة النص القرآني، وعدم تعرض مخطوطاته للتغيير أو التزوير المتعمَّدَيْن، الذي من شأنه أن يعضد الرواية الإسلامية، ويؤكد موثوقيتها.

إنّ فكرة هذا (الكتلوج) البصري جديرة بالتبنِّي والاستخدام، والمأمول أن تُصنَع (كتلوجات) قرآنية مستقبليّة على أساس الفكرة التي عرضها الأعظمي في عمله هذا، مع اختيار نماذج لسور قرآنية مختلفة، ومخطوطات متنوعة زمانيًّا ومكانيًّا؛ تغطي القرن الأول الهجري وصولًا إلى المصاحف المتأخرة من العهد العثماني.

يبقى أن نشير إلى أن الكتاب صدرت طبعته الأولى عن دار الأعظمي للنشر-تراث للنشر، سنة (1438هـ-2017م) تحت عنوان (النص القرآني الخالد عبر العصور: دراسة مقارنة مصوَّرة لسورة الإسراء بين تسعة عشر مصحفاً من منتصف القرن الأول إلى القرن الخامس عشر) وبلغت عدد صفحاته (263) صفحة، ولغة الكتاب العربية، والإنجليزية.

* مادة المقال مستفادة من موقع (مركز تفسير للدراسات القرآنية).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة