الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رخص الحج

رخص الحج

رخص الحج

رُخص الحج

عمر الزبداني

الرخصة ومفهومها الشرعي

أصل مادة (رخص) يدلُّ على لين، وخلاف شدة؛ من ذلك اللحم الرَّخْص، أي: الناعم. ويقال: هو رَخْصُ الجسد، أي: بيِّن الرَّخَاصَةِ والرُّخُوصَةِ. والرُّخُصةُ والرُّخْصةُ -بضم الخاء وسكونها-: تَرْخِيصُ الله للعبد في أَشياءَ خفَّفها عنه. وقد رُخِّصَ له في كذا ترخيصاً، فترَخَّصَ هو فيه، أَي: لم يَسْتَقْصِ. وتقول: رَخَّصْت فلانًا في كذا وكذا، أَي: أَذِنْتَ له بعد نهيـكَ إياه عنه. ومن ذلك الرُّخْص: خِلاف الغَلاء. والرُّخْصَة في الأمر: خَلاف التَّشْديد. ويتحصل من الأصل اللغوي لهذه المادة، أن الرخصة في لسان العرب عبارة عن اليسر والسهولة.

والرخصة في المفهوم الشرعي، يقصد بها: ما شرعه الشارع للمكلف من الأحكام، لعذر طارئ، أو حاجة نازلة.

والرخص تنقسم إلى أنواع باعتبارات مختلفة، وهي باعتبار مصدرها على نوعين:

1- رخص شرعية: وهي ما شرعه الشارع من الأحكام لعذر؛ تخفيفاً عن المكلفين، وتيسيراً عليهم؛ كالترخيص للمسافر في الفطر في رمضان، وكالترخيص له بقصر الصلاة الرباعية.

2- رخص فقهية: وهي ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمر، في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره؛ كالترخيص بجواز رمي الجمار قبل الزوال أيام التشريق، وكالترخيص في البقاء بمكة لحاجة بعد طواف الوداع.

ومما يذكر هنا، أن الأخذ برخص الفقهاء، بمعنى اتباع ما هو الأخف من أقوالهم، جائز شرعاً، ضمن ضوابط معينة ذكرها الفقهاء.

ثم إن الترخص المشروع نوعان: أحدهما: ما يكون في مقابلة مشقة، لا صبر عليها طبعاً، كالمرض الذي يعجز معه المكلف عن القيام بشروط الصلاة وأركانها وواجباتها على الهيئة المأمور بها شرعاً، وكالمكره على النطق بكلمة الكفر، وكالمضطر لأكل الميتة، ونحو ذلك؛ فالترخص في أمثال هذه الحالات، مطلوب بل مأمور به شرعاً؛ وذلك لما يؤدي ترك الترخص -في مثل هذه الحالات- إلى الإخلال بأصل العبادة، أو إلى الإخلال بأصل كلي من كليات الشريعة.

الثاني: ما يكون في مقابلة مشقة، بالمكلف قدرة على الصبر عليها، وهذا النوع على ضَربين؛ أولهما: ما طلب الشارع فعله من غير اعتبار فيه لوجود المشقة أو عدمها، كالجمع بعرفة والمزدلفة، فهذا النوع من الترخص ملحق بما هو مطلوب شرعاً، لكنه ليس على سبيل الوجوب؛ ثانيهما: أن لا يأمر به الشارع على سبيل الوجوب أو الندب، بل ورد به الشرع على سبيل التيسير ورفع الحرج عن المكلف، فهذا يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج، والإباحة الأصلية، فالمكلف فيه بالخيار، بين الأخذ بأصل العزيمة، وإن تحمَّل في ذلك مشقة، وبين الأخذ بالرخصة.

وبهذا يُعلم، أن حكم الرخصة شرعاً الإباحة مطلقاً، من حيث هي رخصة، بمعنى أنها ليست واجبة، ولا مندوباً إليها. ويدل على هذا الحكم، العديد من الآيات التي تنفي الحرج والإثم والجناح على من ترخص، كقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (النساء:101).

وكذلك، فإن مبدأ رفع الحرج أصل عتيد، وتوجُّه أصيل في هذه الشريعة؛ إذ إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة، قد بلغت مبلغ القطع، كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185) وغير ذلك من النصوص التي تقرر مبدأ رفع الحرج وتؤصِّله.

والمتتبع للنصوص الواردة في موضوع الرخصة، وكذلك لتطبيقات الصحابة رضي الله عنهم لهذا الأصل، ناهيك عن الرخص الفقهية المبثوثة في ثنايا كتب الفقهاء، أقول: إن المتتبع لذلك، يجد أن مفهوم الرخصة يطلق بعدة إطلاقات، يمكن أن نجملها في ثلاثة:

الإطلاق الأول: أن تطلق الرخصة ويراد بها رفع الحرج؛ يقول الشاطبي بهذا الخصوص: "فالذي يظهر من نصوص الرخص، أنها بمعنى رفع الحرج"، فقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (البقرة:173) وقوله: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة:184) وكذلك قوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (النساء:101) كل هذه الآيات ونحوها، تدل على أن المقصود من الترخص هنا، رفع الحرج على المكلف، وهو مقصد أساس من مقاصد الشريعة.

الإطلاق الثاني: أن تطلق الرخصة ويراد بها التخيير بينها وبين العزيمة؛ وكأن الشارع -وَفْق هذا الإطلاق- يخاطب المكلف بقوله: إن شئت فافعل العزيمة، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة، وأنت في سعة من الأمر؛ ويشهد لهذا الإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تُقْبَل رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، فالحديث يفيد أن أمر الله تعالى في الرخصة والعزيمة واحد؛ فكما أن المكلف متعبد بالعمل بالعزيمة، فهو كذلك متعبد بالعمل في الرخصة، إذ هما سيان في شرعة التكليف، والمكلف بالخيار بينهما، فيما يراه الأرفق بحاله، والأوفق بمآله.

الإطلاق الثالث: أن تطلق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي، يقتضي المنع مطلقاً؛ لا لعذرٍ شاق، بل دفعاً لحاجة نازلة؛ وذلك كالمضاربة، فالأصل في مثل هذه العقود عدم صحتها وجوازها، لكن لما اقتضت الحاجة إليها، رخص الشارع فيها، وأباح التعامل فيها استثناء. ويشهد لهذا الإطلاق ما رواه الشيخان من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن المزابنة، ورخص في العرايا)، وأيضًا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخَّص في السلم). ومثل ذلك يقال في عقود المساقاة، والقرض، والسَّلَم، والإجارة ونحوها، فكل هذه العقود جازت استثناء للحاجة، والأصل فيها عدم الصحة.

الإطلاق الرابع: أن تطلق الرخصة ويراد بها التيسير، وعدم التشدد والتعمق في الدين، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185) وقوله سبحانه: {يريد الله أن يخفف عنكم} (النساء:28) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدُّلْجَة) رواه البخاري، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبَّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) رواه البيهقي، و(المنبت) هو الذي انقطع به في السفر، وعطلت راحلته، ولم يقضِ وطره، فلا هو قطع الأرض التي يمم شطرها، ولا هو أبقى دابته ينتفع بها؛ فكذا حال من تكلف من العبادة ما لا يطيق؛ ولأجل هذا المعنى كُره التشدد في العبادة، وأُمر المكلف بالقصد والاعتدال في أدائها، والأخذ بالأرفق والأيسر عند القيام بها.

على أن الأخذ بالرخص، والعمل بها، أحوج ما يكون إليه المكلف، عند أدائه مناسك الحج؛ إذ إن أداء تلك المناسك، وما يصحبها من صعوبات، وما يرافقها من مشاق، يستدعي الالتفات إلى الرخص واللجوء إليها، والتعويل عليها. ولو كلفنا كل ناسك أن يلتزم أداء مناسك الحج على مذهب معين، لشق الأمر على الناس، ولدخل عليهم الحرج، ولما استطاعوا أداء مناسك الحج بالتزام مذهب واحد، إلا بمشقة يأباها الشرع الحنيف، ولا يقرها بحال. وإذا كان الأمر كذلك، كان من الصواب القول: إن الأمر إذا ضاق اتسع. قال بعض أهل العلم: "وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت. ألا ترى أن قليل العمل في الصلاة، لما اضطر إليه سومح به، وكثيره لما لم يكن به حاجة، لم يسامح به".

وإن قول من قال: (اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله تعالى) أصدق ما يصدق، عند أداء مناسك الحج؛ ففي أداء مناسك الحج تتجلى فائدة اختلاف الأئمة، وتبدو الثمرة المرجوة منه.

وفي السياق نفسه، يأتي قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال: (ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم) يقصد اختلاف الصحابة رضي الله عنهم؛ قال القاسم بن محمد: (لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ بقول رجل منهم كان في سعة). وعن القاسم أيضاً: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله)، وعنه أيضاً: (أي ذلك أخذت به، لم يكن في نفسك منه شيء). وقد قال بمثل ذلك جماعة من العلماء.

على أن التقليد لمذهب الغير في بعض الحالات للخروج من المشكلات، جائز عند أصحاب المذاهب الأربعة جميعاً؛ وقد نصَّ ابن عابدين في "حاشيته" في أكثر من موضع على: "أنه يُستحسن في المسائل المشكلة أن يفتى..." يقصد أن يفتى في المسائل المُشْكِلة بالمذهب الأيسر والأرفق بالناس. فالعلماء وإن كرهوا مسلك التلفيق بين المذاهب، ومنعوا من تتبع رخص كل منها، بيد أنهم أجازوا لمن كان يقلد مذهباً معيناً، أن يأخذ برأي مذهب غير مذهبه، إن كان في ذلك حلاً لمشكلة، أو خروجاً من معضلة، ولم يكن ذلك منه على سبيل تتبع الأسهل والأخف.

وقد قرر أهل العلم هنا مسلكاً مهمًّا، فقالوا: "المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال". ومفاد هذا الكلام وفحواه، أن الخروج في إفتاء الناس في النوازل إلى جهة التشدد، أو جهة الانحلال، إنما هو خروج عن جانب القصد والاعتدال، ونقْضٌ لما سعت الشريعة إليه، وأكدت عليه؛ حتى اعتبرت كل خروج عن مسلك القصد والاعتدال، بهذا الاتجاه أو ذاك، خروجاً عن مسلك العدل والقصد، وتنكُّباً عن طريق التوسط والاعتدال، وهو مسلك ليس بالمرضي في شرع الله؛ لما يؤول إليه هذا المسلك من التشدد والانفلات، الأمر الذي يؤدي إلى تبغيض الناس بدين الله، وتنفيرهم منه.

ونختم الحديث عن الرخصة عموماً، والرخصة في الحج خصوصاً، بما رواه أبو نُعيم عن مجاهد، قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أي حاج بيت الله الحرام أفضل، وأعظم أجراً؟ قال: من جمع ثلاث خصال: نية صادقة، وعقلاً وافراً، ونفقة من حلال؛ قال مجاهد: فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، فقال: صدق، فقلت: إذا صدقت نيته، وكانت نفقته من حلال، فما يضره قلة عقله؟ فقال: يا أبا الحجاج! سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (والذي نفسي بيده، ما أطاع العبد ربه عز وجل بشيء أفضل من حسن العقل، ولا يقبل الله تعالى صوم عبد، ولا صلاته، ولا حجه، ولا عمرته، ولا صدقته، ولا شيئاً مما يكون فيه من أنواع البر، إذا لم يعمل بعقل، ولو أن جاهلاً فاق المجتهدين في العبادة، كان ما يفسد أكثر مما يصلح).

رخص الاستطاعة

يقصد بـ (الاستطاعة) في لغة الشرع: قدرة المكلف على القيام بما كُلِّف به بنفسه، من غير افتقار إلى غيره، وهي على أنواع مفصلة في كتب الفقه. والاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج إنما يقصد بها: مِلك الزاد والراحلة، على تفصيل في ذلك، يُرجع إليه أيضًا في مظانه من كتب الفقه؛ والأصل فيها قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران:97) وفي الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: (الزاد والراحلة) رواه الترمذي وابن ماجه، قال الترمذي: هذا حديث حسن. والعمل عليه عند أهل العلم. وقد ألحق بعض أهل العلم شرط الصحة لوجوب الحج.

ومن رخص (الاستطاعة) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو أراد رجل ان يدفع زكاة ماله لآخر ليحج بها، صح ذلك من المزكي، وصح من الآخذ قبول ذلك، وله أن يحج بذلك المال، ويعتبر بذلك محققًا لشرط الاستطاعة. ويدل لهذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة. قال أبو عبيد: فأدنى ما يكون قيمة الرقبة أكثر من مائتي درهم، وقد أرخص ابن عباس رضي الله عنهما أن يجعلها من زكاته لواحد.

المسألة الثانية: لو أوصى إنسان بمبلغ من المال على أن يكون في سبيل الله، جاز صرفه لمن يريد الحج؛ ففي الأثر أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله فقيل له: أنعطيها في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبيل الله) رواه ابن أبي شيبة.

المسألة الثالثة: إذا عجز من يريد حج الفريضة أن يصل إلى مكة لأداء نسكه، لمرض مزمن، أو ظرف مقعد، بحيث لا يمكنه أن يقوم بشؤون نفسه إلا بغيره، جاز له أن ينيب عنه في أداء الحج.

المسألة الرابعة: إذا لم يتيسر للمرأة مَحْرم يذهب معها للحج، أو امتنع زوجها من الذهاب معها، جاز لها أن تذهب مع جماعة من النساء، أو مع امرأة تأمنها؛ قال الشافعي رحمه الله: إذا "كانت مع ثقة من النساء في طريق مأهولة آمنة، فهي ممن عليه الحج عندي، وإن لم يكن معها ذو محرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثنِ فيما يوجب الحج إلا الزاد والراحلة...وقد بلغنا عن عائشة وابن عمر وابن الزبير مثل قولنا: في أن تسافر المرأة للحج، وإن لم يكن معها محرم، أخبرنا مسلم عن ابن جريج قال: سئل عطاء عن امرأة ليس معها ذو محرم، ولا زوج معها، ولكن معها ولائد، وموليات يلين إنزالها وحفظها ورفعها؟ قال: نعم. فلتحج". وإن لم يتيسر لها هذا ولا ذاك، كان لها أن تذهب بنفسها لأداء حج الإسلام. أخذاً برأي ابن حزم.

قال ابن قدامة في "المغني" بعد أن ذكر رواية للإمام أحمد، بأن المَحْرَم للمرأة ليس بشرط في الحج الواجب، قال: "قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال مالك: تخرج مع جماعة النساء. وقال الشافعي: تخرج مع حرة مسلمة ثقة، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول".

المسألة الخامسة: لو لم تجد المرأة مَحْرماً مسلماً يخرج معها للحج، وكان لها محرم ذمي غير مسلم جاز لها أن تخرج معه؛ عملاً بقول الحنفية والشافعية في ذلك، إذ أجازوا أن يكون المحرم على المرأة ذميًّا.

المسألة السادسة: أجاز المالكية أن يكون المحرم على المرأة صبيًّا مميزاً، غير بالغ، فقالوا: "ولا يُشترط في المحرم البلوغ، بل المدار على التمييز ووجود الكفاية".

المسألة السابعة: من كان عاجزاً عن الحج بنفسه، لعجز مزمن، أو مرض مقعدٍ، أو حبسٍ محصرٍ، أو نحو ذلك، لا يجب عليه أن يُنيب من يحج عنه، كما لا يجب عليه أن يوصي بمال للحج عنه؛ وأيضاً من أدركته الوفاة ولم يحج، لا يلزم ورثته أن يخرجوا من ماله ما يحج به عنه. وبهذا قال الحنفية والمالكية.

المسألة الثامنة: إذ أناب العاجز عن الحج بنفسه، ثم عوفي، لم يجب عليه حج آخر؛ لأنه أتى بما أُمر به، فخرج من العهدة، وهو قد أدى حجة الإسلام بأمر الشارع، فلم يلزمه حج ثان، كما لو حج بنفسه. وبهذا قال الحنابلة.

المسألة التاسعة: يجوز أن يحج المدين المعسر إذا حجَّجه غيرُه، ما لم يكن في ذلك إضاعة لحق الدَّين؛ إما بكون المدين عاجزاً عن الكسب، وإما بكون الغريم غائباً لا يمكن توفيته من الكسب.

المسألة العاشرة: من لم يكن مستطيعاً بالمال لأداء فرض الحج، فلا يجب عليه أن يستدين مالاً في ذمته ليحج به، ولو وجد من يقرضه نفقة حجه؛ لأن وجود المال شرط الوجوب، ومن لا مال له، فلا وجوب عليه، والاستدانة غير واجبة في حقه من أجل ذلك.

المسألة الحادية عشرة: من لم يكن قادراً بالمال لأداء فرض الحج، فلا يجب عليه قبول عطية لأداء فرض الحج؛ لعدم توفر شرط الاستطاعة في حقه، وبالتالي لم يكن الحج واجباً عليه.

المسألة الثانية عشرة: أجاز الحنفية لمن لم يحج عن نفسه، أن يحج عن غيره، ولم يشترطوا أن يكون النائب في الحج قد حج عن نفسه؛ عملاً بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة الخثعمية، التي سألته أن تحج عن أبيها، فقال لها: (حجي عن أبيك) رواه الترمذي والنسائي حيث لم يستفسر منها صلى الله عليه وسلم فيما إذا كانت حجت عن نفسها أم لم تحج؛ قال في "البدائع": "وسواء كان الحاج قد حج عن نفسه، أو كان صرورة، أنه يجوز في الحالين جميعاً، إلا أن الأفضل أنه قد حج عن نفسه". وما ذهب إليه الحنفية هو قول للمالكية في هذه المسألة؛ قال مالك: "ويحج عنه من قد حج أحب إلي، ويكره أن يحج عنه الصرورة المستطيع".

رخص الإحرام

المقصود من الإحرام في اصطلاح الشرع: نية الدخول في النسك (الحج أو العمرة) ويُسن له الاغتسال، والتطيب، والتجرد من المخيط، وأن يكون بعد صلاة. وعلى قاصد الحج والعمرة أن لا يتجاوز المواقيت المحددة شرعاً، إلا بعد أن يعقد الإحرام.

ومن رخص (الإحرام) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو أحرم إنسان إحراماً مطلقاً؛ كأن يقصد زيارة البيت الحرام، من غير تعين نية حج أو عمرة، ولم يخطر بباله نية نُسُك من الأنساك الثلاثة: التمتع، أو القِران، أو الإفراد، صح حجه، إذا حج كما يحج المسلمون.

المسألة الثانية: لو لم يعين الحاج نسكاً معيناً؛ كأن يقول: لبيك بإهلال كإهلال فلان، ولم يدرِ أحاج هو أم معتمر، أم هو محرم بهما؟ انعقد إحرامه صحيحاً، وتعينت نيته وَفْق ما نواه فلان؛ ودليل هذا، ما رويَ من أن عليًّا رضي الله عنه عندما رجع من اليمن، وقد بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النسك؛ أحرم وأبهم، وقال: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُنكر عليه.

المسألة الثالثة: يرخص عند الحاجة، كبرد أو حر ونحوهما، تغطية الرأس، ولبس الثياب والسراويل والخفاف، واستعمال الغطاء حال النوم؛ وذلك قياساً على جواز تغطية المرأة وجهها حال إحرامها للحاجة، وقياساً كذلك على جواز تقلد السيف للحاجة أيضاً، ولا فدية في كل ذلك. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن محرمون، فإذا مرَّ بنا الركب، سدلنا الثوب على وجهنا) رواه ابن خزيمة، فهذا الحديث يدل على جواز فعل المحظور عند الحاجة والضرورة؛ وأيضاً فقد كان عطاء يرخص بربط العصابة على الرأس حال الضرورة، ولا يلزم بفعل ذلك شيء.

المسألة الرابعة: من مرَّ بالميقات غير مريد دخول الحرم، بل لقضاء حاجة، أو عمل عمل، أو زيارة شخص؛ ثم بدا له أن يحرم، فله أن يحرم من موضعه الذي بدا له فيه، ويجزئه ذلك، ولا دم عليه، ولا يكلف الرجوع إلى الميقات؛ نصَّ على ذلك النووي في شرحه على "صحيح مسلم" وقال: هذا مذهبنا ومذهب الجمهور.

المسألة الخامسة: لو أحرم المحرم في رداء وإزار غير أبيضين فلا حرج عليه، وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ببرد أخضر؛ وعلى هذا فلا شيء على من أحرم في ثوب غير أبيض.

المسألة السادسة: لبس الهِمْيان مباح ولا حرج فيه؛ وهو كيس تُجعل فيه النفقة، يشده الحاج في وسطه. وترجم البخاري في "صحيحه" لهذا، فقال: (قول عطاء: يَتختَّم ويَلْبَس الهِمْيان. وطاف ابن عمر رضي الله عنهما وهو محرم وقد حَزَم على بطنه بثوب).

المسألة السابعة: لبس المحرم العباءة (القباء) من غير أن يُدْخِل يديه ومنكبيه فيها، بل يكتفي بإلقائه على كتفيه، لدفع برد ونحوه لا حرج فيه. وقد ذهب إلى جواز ذلك أحمد، وأبو حنيفة، كما ذكر ابن قدامة في "المغني"؛ وقد رويَ عن الحسن (أنه كان لا يرى بأساً أن يلبس المحرم القبا، ما لم يُدْخل منكبيه فيه).

المسألة الثامنة: لو جاوز المحرم الميقات من غير إحرام، كان عليه أن يعود ليحرم من الميقات، على تفصيل لأهل العلم في ذلك؛ وقد ذهب الحسن والنخعي إلى أن المحرم لو جاوز الميقات من غير إحرام لسبب ما، فلا يلزمه العود إلى الميقات ليحرم منه، بل يكفيه أن يحرم من المكان الذي هو فيه، ولا دم عليه؛ قال النووي في "المجموع" نقلاً عن ابن المنذر: وهو أحد قولي عطاء.

المسألة التاسعة: يجوز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية؛ وتوجيه جواز ذلك، ما ذكره بعض أهل العلم المعاصرين من أنه "متى كان أصل فرض الحج موقوفاً على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطاً كليًّا بدون استنابة على القول الصحيح، ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفاً محققاً، فكذلك سائر واجباته، تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة، ولا فدية. ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنـزول في مطار جدة...والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) ومن المعلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة، ولا عرفاً، لكون الإتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه: {وأتوا البيوت من أبوابها} (البقرة:189) فإتيان البيوت هو: الوصول إليها، أو دخولها. فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض...ولا أرفق من جعل جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات، أو البواخر، والسفن لتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر رضي الله عنه، حين وقَّت لأهل العراق ذات عِرْق...وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية، كونها بطرق الناس، وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم، وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقَّت عمر رضي الله عنه لأهل العراق ذات عِرْق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء، أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام، والصلاة، وسائر ما يسن للإحرام، إذ هو مما تقتضيه الضرورة وتوجبه المصلحة، ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم".

المسألة العاشرة: لو أحرم مريد الحج من بلده، أو مكان إقامته، ولم ينتظر إلى أن يصل إلى الميقات، صح إحرامه، ولا يلزمه شيء في ذلك، وهذا مذهب الحنفية، وهو المستحب عندهم؛ واستدلوا لقولهم بأن عليًّا رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} (البقرة:196) قال: (أن تحرم من دويرة أهلك).

رخص الإحصار

الإحصار شرعاً: هو كل حابسٍ من عدوٍ أو مرض أو غير ذلك، يمنع الحاج من إتمام نُسكه.

وقد اتفق أهل العلم على أن الإحصار بعدو يبيح التحلل، واختلفوا في التحلل بالمرض ونحوه.

ومن الرخص (الإحصار) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو أحصر من نوى الحج ولم يستطع الفكاك من الإحصار، يتحلل ولا شيء عليه؛ عملاً بقول مالك.

المسألة الثانية: من تعذر عليه الوصول إلى البيت لغير حصر العدو؛ من مرض، وذهاب نفقة، أو نفادها ونحو ذلك، جاز له التحلل بذلك؛ عملاً برأي الحنفية، ورواية لأحمد؛ وهو قول عطاء، والنخعي، والثوري، كما ذكر صاحب "المغني"؛ ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من كُسِر أو عَرَج فقد حلَّ، وعليه الحج من قابل) رواه أصحاب السنن. والذي يتوجه هنا على قول من قال: له التحلل، أن المتحلل بالإحصار -أي إحصار- عليه دم.

المسألة الثالثة: من أُحصر لمرض ونحوه، ولم يكن معه هديٌّ، فلا هدي عليه، وهو مذهب أبي ثور وداود.

المسألة الرابعة: من أحصر لعدو، لا تجب الإعادة عليه؛ وَفْقَ ما ذهب إليه مالك؛ ومستند ما ذهب إليه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلَّ هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحداً من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئاً، ولا يعودوا لشيء) وهذا الحكم يتعلق بغير حجة الإسلام، أما حجة الإسلام فإعادتها متعينة بكل حال. وما ذهب إليه مالك من عدم وجوب القضاء هو مذهب الظاهرية أيضاً.

المسألة الخامسة: إذا شرط المحرم في ابتداء إحرامه أن يحلَّ متى مرض، أو ضاعت نفقته، أو نفدت، أو نحو ذلك، فله التحلل متى وُجِد ذلك، ولا شيء عليه، لا هدي، ولا قضاء، ولا غيرهما. وهذا مذهب الحنابلة.

رخص الطواف

الطواف ركن أساس من أركان الحج، لا يصح الحج إلا به، وهو أنواع؛ منه ما هو فرض، كطواف الإفاضة للحج، وطواف العمرة؛ ومنه ما هو سنة، كطواف القدوم عند الجمهور غير المالكية؛ ومنه ما هو نفل. ولكل أنواع الأطوفة هذه شروط وواجبات وسنن وآداب، هي موضع تفصيل عند أهل العلم.

ومن رخص (الطواف) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو طاف المحرم طواف القدوم قبل الوقوف بعرفة، وتعذر عليه أن يطوف طواف الإفاضة بعد الوقوف، أجزأه ذلك؛ وصورته -كما يذكر ذلك قولاً في مذهب مالك- فيمن نسي طواف الإفاضة حتى عاد إلى بلده؛ إنه يجزئه طواف القدوم.

قال ابن عبد البر: "وأما قوله في حديث ابن عمر: ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف به طوافاً واحداً، ورأى ذلك مجزئاً عنه وأهدى؛ ففيه حجة لمالك في قوله: إن طواف الدخول إذا وُصِلَ بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلاً، أو لسُّنَّة، ولم يؤده حتى رجع إلى بلده، وعليه الهدي".

المسألة الثانية: المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، ولا شيء عليها؛ وهذا صريح عن عطاء أن الطهارة من الحيض ليست شرطاً، وقوله مما اعتد به الإمام أحمد؛ وحديث عائشة رضي الله عنها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) متفق عليه، يبين أنه أمر بليت به، ليس من قِبَلِ نفسها فهي معذورة في ذلك؛ وعن عطاء قال: حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فأتمت بها عائشة بقية طوافها هذا.

المسألة الثالثة: إذا طاف الطائف بالبيت من غير وضوء، صح طوافه ولا شيء عليه؛ في قولٍ عند الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، حيث ذهبوا إلى أن الطهارة من الحدث ليست شرطاً لصحة الطواف. وقد سئل الإمام أحمد عن الطواف بالبيت من غير وضوء، فأجاب: "أحب إلي أن لا يطوف بالبيت وهو غير متوضئ؛ لأن الطواف بالبيت صلاة". وكلام الإمام أحمد يفيد صحة الطواف من غير وضوء، بيد أن الطواف مع الوضوء أفضل، وهذا لا نزاع فيه.

المسألة الرابعة: طهارة الثوب من النجس سنة مؤكدة للطائف حول البيت، على المشهور من مذهب الحنفية؛ وعليه لو طاف وعلى ثوبه نجاسة، صح طوافه، ولا يلزمه شيء.

المسألة الخامسة: إذا حاضت المرأة قبل أن تطوف للإفاضة، ولم تتمكن من البقاء في مكة إلى وقت طهرها، كان لها أن تطوف وهي حائض، بعد أن تغتسل -على سبيل الاستحباب- وتشد عليها ما يمنع خروج شيء من دم حيضها؛ ولا شيء عليها في ذلك. وقد ذهب إلى هذا القول من المتقدمين: الحنفية على تفصيل لهم في المسألة، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأطال النَفَس في نصره وتوجيهه.

وذهب جمعٌ من الفقهاء المعاصرين، إلى القول بصحة الطواف من غير طهارة، حال العجز عن الطواف مع الطهارة؛ منهم: الشيخ مصطفى الزرقا؛ والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود؛ ومما جاء عن الأخير فَيْ هذا الصدد، قوله: "وكذلك طواف الحج، فإنه يطوف على حسب حالهٌ إذ الطهارة للصلاة آكد من الطهارة لطواف الحج. وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه. وهذا هو الذي نعتقده، ونعتمد صحة الفتوى به".

المسألة السادسة: ذهب الحنفية إلى أن ستر العورة واجب من واجبات الطواف، وليس شرطاً لصحته؛ فلو طاف الناسك منكشف العورة، وجب عليه الإعادة، لكن إن تعذر عليه ذلك، كان الواجب في حقه دماً. وما ذهب إليه الحنفية هو وجه للحنابلة في هذه المسألة.

المسألة السابعة: لو أراد أن يطوف أطوفة من غير أن يصلي ركعتي الطواف لكل طواف، ثم صلى بعد الأطوفة لكل طواف ركعتيه، جاز له ذلك دون كراهة؛ وهذا ما ذهب إليه أصحاب الشافعي؛ وممن قال بهذا: المسور بن مخرمة، وعائشة، وطاووس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة.

المسألة الثامنة: يجزئ عن ركعتي الطواف صلاة الفريضة، ونحوها، فإذا صلى الناسك بعد طوافه صلاة مكتوبة أجزأته عن ركعتي الطواف، ولا يلزمه صلاة للطواف بعدها. وبهذا قال الشافعي في الجديد، قال الشربيني: "وتجزئ عنهما الفريضة والراتبة، كما في تحية المسجد" وهذا هو المشهور عن أحمد أيضاً.

المسألة التاسعة: لو ترك الطائف ركعتي الطواف، عمداً أو سهواً، صح طوافه وأجزأه، ولا يلزمه شيء لتركهما؛ وهذا مذهب الحنابلة، ورواية عند المالكية، والأصح عند الشافعية، وهو قول للحنفية في المسألة.

المسألة العاشرة: لو ترك الطائف ركعتي الطواف، نسياناً أو سهواً، فالواجب في حقه أن يؤديهما متى ذكرهما، لا يتقيدان بزمان ولا بمكان، ولا يلزمه بهذا التأخير شيء؛ وهذا قول جمهور أهل العلم.

المسألة الحادية عشرة: يجوز أداء ركعتي الطواف في جميع الأوقات، بلا كراهة، ولو صادف وقت أدائهما وقت طلوع شمس، أو وقت غروبها؛ وهذا مذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة، وهو مذهب عطاء.

المسألة الثانية عشرة: لو كان على الطائف طواف الإفاضة، ونوى غيره، كنذر أو وداع، وقع عن الإفاضة، ولم يقع عما نواه؛ وهذا قول الشافعي.

المسألة الثالثة عشرة: لو طاف طواف الإفاضة قبل أن يحلق أو يقصر، وبعد الرمي، أجزأه ذلك؛ وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي وسائر الفقهاء، قالوا: تجزئه الإفاضة ولا شيء عليه؛ وهذا كله في معنى حديث: (افعل ولا حرج).

المسألة الرابعة عشرة: لو طاف للإفاضة قبل أن يرمي، ثم رمى، صح طوافه ورميه، قال الشافعي: "ولو أفاض قبل أن يرمي فطاف، كان عليه أن يرمي، ولم يكن عليه إعادة الطواف".

المسألة الخامسة عشرة: ولو أخر طواف الإفاضة حتى مضت أيام منى، وأيام بعدها، لم يكن عليه فدية؛ إذ لا وقت محدد لطواف الإفاضة، بل وقته موسع، والواجب الإتيان به، ويبقى محرماً حتى يأتي به.

المسألة السادسة عشرة: لو طاف الحاج للوداع، وأطال الإقامة بمكة لقضاء بعض حاجاته، أو حَبَسَه حابس، من مطر أو ضياع نفقة، ونحوهما؛ ولم ينوِ الإقامة بها، جاز طوافه، وإن أقام سنة؛ وهذا مذهب الحنفية.

المسألة السابعة عشرة: لو طاف طواف الوداع قبل إتمام أعمال الحج، أجزأه ذلك على قولِ الحنفية، وعلى قولٍ عند الشافعية؛ ويُتخرج على هذا، فيما لو طاف الموكِّل في الرمي طواف الوداع، قبل رمي الوكيل، فالذي ينبغي قوله هنا: صحة طواف الوداع من الموكِّل، بناء على ما ذكرنا.

المسألة الثامنة عشرة: إذ طِيف بالصبي محمولاً، صح الطواف عنه وعن الحامل بطواف واحد، إذا نوى كل واحد منهما عن نفسه؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وقد حسَّن هذا القول ابن قدامة، فقال في "المغني" بعد أن نقل أقوال أهل العلم في المسألة: "وهذا القول حسن".

المسألة التاسعة عشرة: لو بدأ الطائف بالبيت طوافه من أي مكان، من غير أن يبتدأ من الحجر الأسود، جاز عند الحنفية، ولو من غير عذر؛ قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "فأما الابتداء من الحجر الأسود فليس بشرط من شرائط جوازه، بل هو سُنَّة في ظاهر الرواية، حتى لو افتتح من غير عذر أجزأه مع الكراهة".

المسألة العشرون: لا يشترط لصحة الطواف الموالاة بين أشواطه، فلو قطع طوافه لعذر أو لغيره، كقضاء حاجة، أو تعب، أو صلاة جنازة، ونحو ذلك؛ صح طوافه وأتم ما بقي عليه من أشواط، ولا يلزم أن يستأنف من جديد؛ وهذا على مذهب الحنفية؛ قال في " البدائع": "والموالاة في الطواف ليست بشرط، حتى لو خرج الطائف من طوافه لصلاة جنازة، أو مكتوبة، أو لتجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه، ولا يلزمه الاستئناف" وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية، الذين ذهبوا أيضاً إلى أن الموالاة بين أشواط الطواف سُنَّة، وليست شرطاً لصحته؛ قال النووي: "والمذهب جواز التفريق مطلقاً".

المسألة الحادية والعشرون: لو قطع الطائف طوافه لعذر أو لغيره، ثم أراد أن يتم طوافه، فيتمه من الموضع الذي قطع منه الطواف، ولا يلزمه أن يبدأ ما قطع من طواف من الحجر الأسود؛ وإلى هذا ذهب المالكية، والشافعية في أصح الوجهين في المسألة. وهذا القول هو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وعلل هذا الترجيح بقوله: "لأنه إذا كان القطع للصلاة معفوًّا عنه، فلا دليل على بطلان أول الشوط".

المسألة الثانية والعشرون: لو ترك الطائف الاضطباع، والرَّمل، والاستلام، وتقبيل الحجر، والدعاء في الطواف فطوافه صحيح ولا إثم عليه، ولا دم عليه، لكن فاتته الفضيلة. قال الشافعي: "وهو مسيء" يعني إساءة لا إثم فيها.

المسألة الثالثة والعشرون: لا خلاف بين أهل العلم أن العاجز عن المشي، أو المحتاج للركوب، لمرض ونحوه، أن له أن يطوف راكبًا أو محمولاً، ولا شيء عليه؛ قال صاحب "المغني": "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في صحة طواف الراكب، إذا كان له عذر" وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير؛ وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: شكوت إلى رسول صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) متفق عليه.

المسألة الرابعة والعشرون: إذا طاف الطائف راكباً أو محمولاً، لغير عذر، أجزأه طوافه بلا كراهة، ولا شيء عليه؛ وإلى هذا ذهب الشافعية، وهو رواية عند أحمد، وهو مذهب الظاهرية أيضاً.

المسألة الخامسة والعشرون: لو طاف الحاج طواف الإفاضة، وخرج من مكة من غير أن يطوف للوداع، أجزأه طواف الإفاضة عن طواف الوداع، وذلك على رواية عند الإمام أحمد، وهي المذهب؛ وعبارة أصحاب المذهب: "ومن أخَّر طواف الزيارة أو القدوم، فطافه عند الخروج، أجزأه كل منهما عن طواف الوداع؛ لأن المأمور أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وقد حصل...ويجزئه أحد هذين الطوافين المذكورين عن طواف الوداع، ولو لم ينوه"؛ ثم إن طواف الوداع ليس بواجب عند المالكية، بل هو مستحب، فلو لم يؤتَ به، فلا شيء بتركه.

المسألة السادسة والعشرون: لو طاف طواف الإفاضة، بعد دخول النصف الثاني من ليلة النحر، أجزأه ذلك، وصح طوافه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة؛ إذ يدخل عندهم وقت طواف الإفاضة بنصف ليلة النحر؛ قال النووي في "المجموع": "أول وقت طواف الإفاضة من نصف ليلة النحر، وآخره آخر عمر الإنسان" وقال في "المغني": "وأما وقت الجواز، فأوله من نصف الليل من ليلة النحر".

المسألة السابعة والعشرون: لو قَدِمت امرأة مكة نهاراً، وهي ذات جمال، وكان من عادتها أن لا تظهر للرجال، سُنَّ لها أن تؤخر طواف القدوم إلى الليل، ولا شيء عليها في هذا التأخير؛ وهذه المسألة مخرَّجة على قول المالكية، القائلين بوجوب طواف القدوم؛ أما على قول الجمهور، فلو لم تطف للقدوم مطلقاً، فلا شيء عليها؛ لأن طواف القدوم سُنَّة عند الجمهور غير المالكية.

رخص السعي

السعي للحج، ركن من أركان الحج عند جمهور الفقهاء؛ المالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد. وذهب الحنفية إلى أن سعي الحج واجب، وليس بركن؛ وثمرة الخلاف بين القولين تظهر فيمن ترك السعي في الحج، فإن حجه لم يصح منه على قول الجمهور؛ لتركه ركناً من أركان الحج، في حين أن حجه صحيح على مذهب الحنفية، لكن عليه دم جبران إن تركه لغير عذر؛ لتركه واجباً.

ومن رخص (السعي) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي؛ فإذا انتهى الناسك من الطواف فله أن يستريح ما شاء، ثم يأتي بالسعي؛ قال أحمد: "لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح، وإلى العشي" وكان عطاء والحسن لا يريان بأساً لمن طاف بالبيت أول النهار، أن يؤخر السعي إلى العشي؛ لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي، ففيما بينه وبين الطواف أولى.

المسألة الثانية: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السعي بين الصفا والمروة، لا تجب له الطهارة، سواء في ذلك الطهارة من الحدث، أم الطهارة من الجنابة والحيض؛ إذ ليس في المناسك ما تجب له الطهارة إلا الطواف، فالطواف بالبيت تجب له الطهارة باتفاق العلماء، إلا في حالات الضرورة، وقد ذكرتها في رخص الطواف.

المسألة الثالثة: يجوز لمن تعب في السعي أن يجلس ويستريح ثم يكمل سعيه ماشياً أو على عربة ونحوها، ويكمل من المكان الذي توقف فيه؛ وعن عطاء أنه (كان لا يرى بأساً أن يستريح الرجل في سعيه، إذا طاف بين الصفا والمروة) وعلى هذا، فالموالاة بين أشواط السعي ليست شرطًا لصحته، كما يفهم ذلك من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، كما ذكر ابن قدامة رحمه الله في "المغني".

المسألة الرابعة: إذا أقيمت الصلاة، وكان الساعي لا يزال يسعى في المسعى، ولم يتم شوطه أو سعيه، قطع سعيه، ودخل في الصلاة، فإذا سلَّم أتم سعيه من المكان الذي انتهى إليه قبل إقامة الصلاة، ولا يلزمه ابتداء الشوط من بدايته.

المسألة الخامسة: لو قدَّم الحاج السعي بين الصفا والمروة على طواف الإفاضة، ولم يكن قد طاف طواف القدوم ولا غيره، أجزأه ذلك؛ عملاً بقول عطاء؛ وقد روى ابن جريج عن عطاء أنه قال: (من بدأ بالصفا والمروة قبل البيت، أنه يطوف بالبيت، وقد أجزأ عنه) وهو قول سفيان الثوري، وعند أحمد يجزئه إن كان ناسياً أو جاهلاً؛ والقائلون بهذا استدلوا بحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، أو قدَّمت شيئاً، أو أخَّرت شيئاً، فكان يقول: (لا حرج لا حرج) رواه أبو داود.

المسألة السادسة: إذا سعى الساعي أكثر أشواط السعي، وترك أقله، أجزأه ذلك، وهو قول الحنفية، وعلى فاعل ذلك صدقة لكل شوط تركه. والأصل في ذلك عندهم: أن كل ما يكون في ترك جمعيه دم، يكون في ترك أقله صدقة.

المسألة السابعة: إذا أخَّر الحاج السعي عن وقته الأصلي بعد طواف الإفاضة -ووقته أيام النحر بعد طواف الإفاضة- جاز أن يسعى، ويستدرك ما فاته، إن لم يكن قد رجع إلى أهله، ولا شيء عليه في ذلك؛ وإن كان رجع إلى أهله فعليه دم؛ لتركه السعي من غير عذر، ولا يلزمه أن يعود، وهذا عند الحنفية؛ وروي عن أحمد أن السعي سُنَّة، لا يجب بتركه دم.

المسألة الثامنة: إذا ترك الحاج سعي الحج لغير عذر، صح حجه، ولا شيء عليه؛ عملاً برواية لأحمد بأن سعي الحج سُنَّة، لا يجب بتركه دم، وهو قول لعطاء أيضاً. وقد رُوي ذلك عن ابن عباس، وأنس رضي الله عنهم، وغيرهما. فعلى قول ابن عباس وأنس رضي الله عنهم ورواية لأحمد، لو ترك الحاج السعي ولو متعمداً، ولم يأتِ به مطلقاً، أجزأه الحج، ولا شيء عليه؛ تخريجاً على قول من قال: إن السعي سُنَّة. وقد استدل من قال: إن السعي سُنَّة، بقول الله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (البقرة:158) قالوا: نفي الحرج عن فاعله دليل على عدم الوجوب.

المسألة التاسعة: لو ترك الحاج السعي عامداً، أو لغير عذر، صح منه الحج، وعليه دم جبران؛ تخريجاً على مذهب الحنفية في هذه المسألة؛ إذ يرون أن السعي واجب، وليس فرضاً، وتاركه عمداً ولغير عذر عليه دم؛ لتركه واجباً. وهو قول لعطاء، واختار هذا القول من الحنابلة ابن قدامة.

المسألة العاشرة: ولو ترك الحاج السعي لعذر، كجهل، أو نسيان، أو مرض طارئ، فلا شيء عليه، وهذا عند الحنفية؛ وهو يتجه مع قول من قال: إن السعي سُنَّة، وهو قول لعطاء، ورواية عن أحمد، كما سبق وذكرنا.

المسألة الحادية عشرة: المتمتع إن كان قد سعى بعد طوافه للعمرة، لم يلزمه سعي بعد طواف الإفاضة، ولا شيء عليه بتركه، بناء على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من أن طواف العمرة للمتمتع كافٍ له عن سعي الإفاضة، ونقل ما ذهب إليه قولاً عن الإمام أحمد؛ ويُستدل لهذا بما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً).

رخص المبيت في منى

المبيت في منى ليلة وقوف عرفة، سنة باتفاق الأئمة الأربعة، ولا يترتب على تركه شيء باتفاقهم جميعاً، وإن كان تركه خلاف السنة. أما المبيت في منى ليالي التشريق، وهي ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، فجمهور الأئمة، المالكية والشافعية والحنابلة، على أن المبيت في منى هذه الليالي واجب، يجب بتركه دم جبران؛ وذهب الحنفية إلى أن المبيت في منى أيام التشريق سنة، وليس بواجب، ولا يجب بتركه شيء، إلا أن تركه خلاف السنة.

ومن رخص (المبيت بمنى) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو خرج إلى عرفة من غير أن يذهب قبلها إلى منى، فلا إثم عليه، لما ذكرنا من أن المبيت بمنى ليلة عرفة سنة بالاتفاق، لكن يكون بفعله هذا قد ترك الأفضل والأكثر ثواباً.

المسألة الثانية: يجوز ترك المبيت في منى أيام التشريق، ولا شيء على من فعل ذلك؛ عملاً بقول الحنفية في هذا، إذ المبيت بمنى عندهم أيام التشريق سنة، وليس بواجب، وهو رواية عن أحمد أيضاً؛ وقد رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه أن يبيت بمكة للسقاية، ويقاس على هذا كل حاجة تستدعي المبيت خارج منى؛ كالخوف على النفس، أو المال، أو ضياع مريض، أو مساعدة كبير، أو ذي حاجة، أو حصول مرض يشق معه المبيت مشقة لا تحتمل عادة. ومما يروى هنا عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (إذا رميت الجمار، فبِتْ حيث شئت) وعن عطاء قال: (لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالي منى إذا كان في ضيعة) وعن مجاهد قال: (لا بأس بأن يكون أول الليل بمكة وآخره بمنى؛ أو أول الليل بمنى وآخره بمكة).

المسألة الثالثة: يُخَرَّج على قول الحنفية، القائلين بأن المبيت في منى أيام التشريق سُنَّة، أنه لو وكَّل المحرِم غيره في رمي الجمار؛ لعذر يمنعه من الرمي، جاز له أن يخرج من منى، قبل انتهاء أيام التشريق، كما جاز له ذلك، قبل أن يرمي عنه الموكِّل، ولا شيء عليه؛ وذلك بناء على قول الأحناف، من أن المبيت في منى أيام التشريق سُنَّة، كما ذكرنا.

المسألة الرابعة: الشافعية القائلون بوجوب المبيت بمنى أيام التشريق، ذهبوا إلى أن الواجب المبيت أكثر الليل لا كله؛ وعلى هذا لو أمضى الحاج بعض الليل خارج منى، وبات أكثره فيها، فلا حرج عليه، استناداً إلى ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسألة.

رخص الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة ركن أساس من أركان الحج، بل هو الركن الأكبر، حتى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الحج كله بقوله: (الحج عرفة) ولأجل هذا اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، لا يصح الحج ولا يسقط عن المكلف إلا بفعله، وإن اختلفوا في تفاصيل هذا الوقوف من جهة وقت بدئه، ومن جهة مقداره؛ وليس هذا مكان بسطها.

ومن رخص (الوقوف بعرفة) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو وقف أحد بنَمِرَة بعد زوال الشمس إلى وقت الغروب، أجزأه الحج؛ بناء على أن نَمِرَة من عرفة، على أحد قولين للعلماء، نصَّ على هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقال: "ولم أرَ من صرح به، مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه".

المسألة الثانية: إذا وقف الحاج على عرفة نهاراً، ودفع قبل الغروب، ولم يقف شيئاً من الليل، أجزأه ذلك ولا شيء عليه، بناء على الأصح من قولين للشافعية في هذه المسألة؛ ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه) رواه أصحاب السنن.

المسألة الثالثة: إذا خرج الحاج من عرفة قبل غروب الشمس، ولم يعد ليقف شيئاً من الليل أجزأه ذلك، لكن عليه دم، وهذا قول جمهور أهل العلم، وخالف في ذلك مالك، فقال: لا يجزئه الوقوف إلا بأن يقف جزءاً من الليل.

المسألة الرابعة: إذا وقع خطأ في تقدير يوم عرفة، ووقف الحجيج كلهم في غير يوم عرفة؛ كأن يقفون في اليوم الثامن مثلاً، وهو يوم التروية, أو يقفون في اليوم العاشر، وهو يوم العيد، وكان ذلك على سبيل الخطأ في إثبات هلال ذي الحجة، أجزأهم ذلك، إذا اتفقوا عليه وأطبقوا عليه. نص عليه الإمام أحمد؛ ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، اليوم الذي يُعرِّف الناس فيه) رواه الدار قطني.

رخص الوقوف بمزدلفة والمبيت فيها

الوقوف بمزدلفة واجب عند الأئمة الأربعة، بيد أنهم اختلفوا في مقدار الوقوف ووقته، وليس هذا محل تفصيل ذلك؛ والجمع بين صلاتي المغرب والعشاء فيها سنة عند الجمهور، وواجب عند الحنفية.

وعلى هذا لو ترك أحد الوقوف بمزدلفة أو المبيت فيها، صح حجه بالاتفاق، لكن عليه دم جبران، لتركه واجباً.

ومن رخص (الوقوف بمزدلفة) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: إذا صلى الحاج المغرب قبل أن يأتيَ مزدلفة، ولم يجمع بها المغرب والعشاء، صحت صلاته، ولا يلزمه الإعادة في مزدلفة؛ وهذا قول جمهور أهل العلم.

المسألة الثانية: إذا جمع الحاج بين صلاتي المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو جمع بينهما في غير المزدلفة جاز، ولا شيء عليه في ذلك. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.

المسألة الثالثة: لو ترك المبيت بمزدلفة، فلا شيء عليه؛ عملاً بقولٍ عند الشافعية بأن المبيت سُنَّة، وهو رواية عند أحمد؛ وعلى هذا القول والرواية، فليس على تارك المبيت شيء؛ قال ابن جماعة: "وكلام الرافعي في الشرح يُشْعِر بترجيحه".

المسألة الرابعة: لو خرج من مزدلفة بعد منتصف الليل، ولم يبقَ فيها إلى طلوع فجر يوم النحر، أجزأه ذلك ولا شيء عليه، قال النووي في "المجموع": "فإن دفع غير الضعفة قبل الفجر، بعد نصف الليل، جاز؛ ولا دم". وعلى هذا القول، يرخص بالخروج من مزدلفة بعد مضي نصف الليل، وترك المبيت فيها، تحاشياً للزحام وما يتبعه من مشقة وحرج، وهو مرفوع ومدفوع شرعاً، قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78).

المسألة الخامسة: من لم يصل إلى مزدلفة إلا في النصف الآخر من الليل، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وهذا كمن أدرك عرفات ليلاً دون النهار، فلا شيء عليه في الحالتين.

المسألة السادسة: من وصل إلى عرفات ليلة النحر، واشتغل بالوقوف فيها عن المبيت بالمزدلفة فلا شيء عليه.

المسألة السابعة: لو أفاض الحاج من عرفات إلى مكة بعد نصف ليلة النحر، وطاف طواف الإفاضة، ففاته المبيت بالمزدلفة بسبب الطواف لا شيء عليه؛ لأنه اشتغل بركن فأشبه المشتغل بالوقوف. وبهذا القول قال بعض الشافعية.

رخص رمي الجمار

رمي جمرة العقبة يوم النحر، والجمار الثلاث أيام التشريق، واجب باتفاق الأئمة الأربعة، فمن تركه صح حجه، لكن عليه دم جبران، لتركه واجبًا؛ والسنة في رمي جمرة العقبة أن يكون ذلك ضحى يوم النحر، ويمتد إلى آخر النهار؛ والسنة في الرمي أيام التشريق، أن يكون بعد الزوال إلى آخر النهار.

ومن الرخص الواردة في (رمي الجمار) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: إذا رمى الحاج جمرة العقبة بعد نصف الليل من ليلة النحر، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وهو قول عطاء والشافعي وأحمد؛ ودليل الجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت؛ ورويَ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها كانت ترمي الجمار بالليل.

المسألة الثانية: الرمي بعد فجر يوم النحر، وقبل طلوع شمس ذلك اليوم، يجزيء باتفاق الأئمة الأربعة، ولا شيء في ذلك.

المسألة الثالثة: لو أخَّر الحاج رمي جمرة العقبة يوم النحر إلى آخر اليوم، جاز ولا شيء عليه. قال ابن عبد البر: "وأجمعوا: أن من رماها يوم النحر قبل المغيب، فقد رماها في وقت لها".

المسألة الرابعة: ولو أخَّر الحاج رمي جمرة العقبة إلى الليل، أجزأه ذلك على قولٍ عند الشافعية، ولا شيء عليه؛ ودليل الجواز، قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله يوم النحر قائلاً: رميتُ بعد ما أمسيت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حرج) ويدل على الجواز أيضاً، عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ارمِ ولا حرج) متفق عليه.

المسألة الخامسة: لو أخَّر الحاج الرمي في أيام التشريق -سوى يوم النفر- إلى ما بعد الغروب، ثم رمى من الليل، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ قال النووي في "المجموع" بعد أن ذكر أن وقت الرمي فيها يبقى إلى الغروب، قال: "وفيه وجه مشهور، أنه يبقى إلى الفجر الثاني من تلك الليلة".

المسألة السادسة: لو أخَّر الحاج رمي يوم من أيام التشريق إلى ما بعده، أو أخَّر رمي الجمار كلها، بما في ذلك رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم رماها جميعًا في اليوم الثالث من أيام التشريق، أجزأه ذلك؛ لاعتبار أن أيام منى كالوقت الواحد. وهذا ظاهر مذهب الحنابلة، والصحيح عند الشافعية، وهو قول الصاحبين من الحنفية؛ لكونه قد وقع التسهيل والتيسير من النبي صلى الله عليه وسلم في بقية واجبات الحج التي تُفعل يوم العيد وأيام التشريق، حيث إنه ما سئل عن شيء قُدِّم أو أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج).

المسألة السابعة: يصح رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؛ ولا شيء في ذلك؛ وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وهو قول عطاء، وطاوس، وعكرمة من المتقدمين؛ وإلى هذا القول جنح جَمْعٌ من المعاصرين، منهم الشيخ عبد الله آل محمود، والشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي، والشيخ مصطفى الزرقا. وعمدة من قال بجواز ذلك، رفع الحرج عن الناس، وأيضاً دفع المشقة المترتبة على الرمي بعد الزوال، إضافة إلى عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) وهذا الحديث في "الصحيحين" وهو نص صحيح وصريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال، أو تأخيرها عن هذا الوقت؛ واستدل لهذا القول المجوِّزون بما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رخص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا) رواه الدار قطني وغيره، وعليه فيجوز رمي الجمار في أية ساعة، من ليل أو نهار، أشبه النحر والحلق، وأشبه طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج الأكبر، وقد قال العلماء بجواز التوسعة في فعله، وأنه يطوف في أية ساعة شاء، من ليل أو نهار من يوم العيد، أو سائر أيام التشريق.

المسألة الثامنة: يجوز الاستنابة والتوكيل في رمي الجمار للعاجز عن مباشرة الرمي؛ وذلك لمرض أو كبر سن أو صغر، وكذا لمن يخشى على غيره؛ كالحامل، وذات الطفل التي لا تجد من يحفظ طفلها حتى ترجع، لما عليهما من الخطر والضرر في مزاحمة الناس وقت الرمي. وقد نص أهل العلم على هذه المسألة، واحتجوا لها بحديث جابر رضي الله عنه، قال: (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، معنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم) رواه ابن ماجه. ويُستدل لجواز الاستنابة أيضاً، بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن:16) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه ومالك.


قال الشيخ ابن العثيمين: "وأما من يشق عليه الرمي بنفسه؛ كالمريض، والكبير، والمرأة الحامل، ونحوهم، فإنه يجوز أن يوكل من يرمي عنه، سواء كان حجه فرضاً أم نفلاً، وسواء لقط الحصى وأعطاها الوكيل، أم لقطها الوكيل بنفسه، فكل ذلك جائز".

المسألة التاسعة: للنائب في الرمي أن يرمي عن نفسه ثم عن مستنيبه كل جمرة من الجمرات الثلاث، في آن واحد، ولا يلزمه أن يكمل رمي الجمار الثلاث عن نفسه، ثم يرجع إلى الجمرة الأولى، فيرمي عن مستنيبه.

المسألة العاشرة: إذا رمى الحاج جزءاً من الحصيات السبع، كأن رمى حصاتين أو ثلاثاً، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم توقف للاستراحة أو لأمر آخر، ثم عاد إلى الرمي، رمى ما بقي عليه من السبع، وأجزأه ذلك، ولا شيء عليه، ولا يشترط أن يبدأ الرمي بسبع حصيات جديدة؛ وذلك عملاً بقول الشافعية في هذه المسألة؛ إذ الموالاة عندهم والمتابعة في رمي الحصيات ليست شرطًا من شروط صحة الرمي.

المسألة الحادية عشرة: المتابعة والموالاة بين رمي الجمرات الثلاث سنة، ليس في تركها شيء؛ فلو رمى الجمرة الأولى ثم شغله شاغل، أو عاقه عائق، أو أدركه تعب ومشقة، كان له أن يتوقف عن متابعة الرمي بين الجمرات، ثم يعاود الرمي من الجمرة التي توقف عندها؛ بناء على أن الموالاة بين رمي الجمرات سنة كما هو المذهب عند الشافعية؛ قال النووي في "المجموع": "وهذه الموالاة سُنَّةٌ، ليست بشرط على المذهب، وبه قطع الأكثرون".

المسألة الثانية عشرة: إذا رمى الحاج الجمرة بسبع حصيات دَفعة واحدة، ووقعت متفرقة في موضع الجمرة، جاز ذلك وأجزأه، ولا شيء عليه، وهو قول عطاء، قال صاحب "المغني": "وقال عطاء: يجزئه، ويكبر لكل حصاة".

المسألة الثالثة عشرة: لو ترك حصاة أو حصاتين، ناسياً، أو خاطئاً في العدد، جاز ولا شيء عليه في رواية عند الإمام أحمد؛ قال صاحب "المغني": "فإن نقص حصاة أو حصاتين، فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك" وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: (ما أبالي رميت الجمار بست أو بسبع) رواه ابن أبي شيبة.

المسألة الرابعة عشرة: لو رمى الجمرات من غير ترتيب بينها؛ فبدأ برمي جمرة العقبة، ثم رمى الجمرة الوسطى، ثم رمى الجمرة الأولى، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وهو مذهب الحنفية؛ قال الكاساني في "بدائع الصنائع": "لأن الرميات مما يجوز أن ينفرد بعضها من بعض؛ بدليل أن يوم النحر يرمي فيه جمرة العقبة، ولا يرمي غيرها من الجمار، وفيما جاز أن ينفرد البعض من البعض، لا يشترط فيه الترتيب" وقد روى ابن حزم في "المحلى" عن حُميد أنه أتى الحسن البصري بمكة ثاني يوم النحر، قد بدأ يرمي جمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأخرى، قال: "فسألت فقهاء مكة عن ذلك، فلم ينكروه".

المسألة الخامسة عشرة: لو رمى الحاج الجمرة من مكان بعيد، فوقعت الحصاة عند الجمرة أو قريبًا منها، أجزأه ذلك. ولا يشترط لصحة الرمي إصابة الشاخص الذي في وسط المرمى؛ لأن ما يقرب من ذلك المكان يأخذ حكمه، لكونه تبعاً له.

المسألة السادسة عشرة: وبأي شيء من جنس الأرض رمى الجمرة أجزأه ذلك، سواء أكان حجراً، أم طيناً، أم غيرهما، وهذا على قول الحنفية.

المسألة السابعة عشرة: لا يُشترط لصحة الرمي أن يكون جمع الحصى من المزدلفة، بل يصح الرمي بها؛ ولو جُمعت من أي مكان في الحرم؛ كمنى أو مكة، ويجزئ كذلك التقاط الحصى من مكان الرمي، ولا شيء في ذلك، وعن الإمام أحمد، قال: "خذ الحصى من حيث شئت".

المسألة الثامنة عشرة: لو أخذ الحصى من المرمى، وإن كان قد رمى بها غيره، ثم رمى بها نفسها أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وإلى هذا ذهب الشافعي.

المسألة التاسعة عشرة: السُّنَّة أن تكون الحصى كحصى الخَذْف؛ فإن رمى بحجر كبير أو صغير، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ قال الشافعي في "الأم": "وإن رمى بأصغر من ذلك أو أكبر، كرهتُ ذلك، وليس عليه إعادة".

المسألة العشرون: لو جمع له غيره الحصيات ورمى بها، أجزأه ذلك؛ ويُستدل لصحة هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة، وهو على ناقته: (اُلْقُط لي حصى) قال: فالتقطتُ له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن، ويقول: (أمثال هؤلاء فارموا)، ثم قال: (يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) رواه ابن ماجه.

المسألة الحادية والعشرون: لو رمى حصاة إلى المرمى، وشك هل وقعت فيه أم لم تقع، أجزأه ذلك. وهو قول الشافعي في مذهبه القديم، نقله عنه بعض الشافعية؛ لأن الظاهر وقوعها في المرمى.

رخص الهدي والذبح

السُّنَّة لمن كان معه هديٌ، واجباً أو تطوعاً، أن يذبحه يوم النحر بمنى، بعد الفراغ من رمي جمرة العقبة؛ والمستحب للحاج أن يتولى الذبح بنفسه.

ومن الرخص الواردة في (الهدي والذبح) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو أخَّر الذبح الواجب أو المتطوع به إلى أيام التشريق، بما فيها اليوم الثالث، بعد يوم النحر؛ أجزأه ذلك؛ وقد رويَ عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده. وإلى هذا القول ذهب الشافعي وعطاء وغيرهما. وقد قيل: الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة.

المسألة الثانية: يجوز ذبح الهدي في الليالي المتخللة لأيام النحر، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجماعة.

المسألة الثالثة: يجوز نحر أو ذبح هدي التمتع، والقِران، والنفل، ودم جبران ارتكاب المحظور سوى الصيد، في أي موضع شاء من الحرم، ولا يختص بمنى، وهذا عند الحنفية والشافعية؛ قال الشافعي رحمه الله: "الحرم كله منحر، حيث نحر منه أجزأه". وثمة قول يذهب إلى أن للمُهْدي أن ينحر أو يذبح هديه حيث شاء؛ وهو مذهب الطبري.

المسألة الرابعة: لو وكَّل شخصاً، أو جهة معتبرة لينحر أو يذبح عنه أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وكذلك لو دفع هديه إلى الفقراء سليماً، فنحروه أو ذبحوه أجزأه ذلك، وصح منه؛ وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه فنحر له تمام المئة من الهدي الذي كان قد ساقه معه.

المسألة الخامسة: لو نحر أو ذبح ما هو واجب عليه، أو ما هو نفل، بعد انقضاء أيام التشريق، صح منه، وأجزأه ذلك؛ وهذا مُخَرَّجٌ على وجه عند الشافعية؛ قال في "المجموع": "والوجه الثاني: حكاه الخراسانيون، أنه لا يختص بزمان، بل يجوز قبل يوم النحر، وفيه، وبعد أيام التشريق".

المسألة السادسة: السُّنَّة يوم النحر، أن يرمي الحاج جمرة العقبة، ثم ينحر أو يذبح؛ فإن نحر أو ذبح ما هو واجب عليه، أو ما كان تطوعاً، قبل أن يرمي، فلا حرج عليه، وأجزأه ما قام به؛ والعمدة في هذا قوله صلى الله عله وسلم: (افعل ولا حرج) متفق عليه؛ قال الشافعي: "فإن ذبح قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يذبح، أو قدم نُسكاً قبل نُسك مما يُعمل يوم النحر، فلا حرج ولا فدية". وهذا الذي قلناه هو رواية عند الإمام أحمد، ووجه مشهور في مذهب الشافعي؛ بل قد قال الشافعية أيضاً: إن نحر بعد نصف ليلة النحر، وقبل الفجر، أجزأه ذلك، ولا يلزمه شيء.

رخص الحلق

السُّنَّة للحاج أن يحلق أو يقصر شعره بعد رمي جمرة العقبة، وبعد نحر الهدي أو ذبحه؛ والحلق للرجل أفضل من التقصير، أما المرأة فالواجب في حقها التقصير مقدار أنملة من أطراف شعرها؛ قال الشافعي: "ويستحب للمرأة أن تقصر بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها".

ومن الرخص الواردة في (الحلق) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: لو حلق أو قصر قبل أن يرمي، أو قبل أن ينحر، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه؛ وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وهو قول عطاء، وغير واحد من العلماء؛ سواء في ذلك أكان ناسياً، أم جاهلاً بالسُّنَّة، أم متعمداً؛ ودليل الإجزاء ما ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أَشعر، فحلقت قبل أن أذبح، فقال: (اذبح ولا حرج) فجاء آخر فقال: لم أَشعر، فنحرت قبل أن أرمي، قال: (ارمِ ولا حرج) فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج) وقد قال عطاء: (من قدَّم نُسكاً قبل نسك، فلا حرج).

المسألة الثانية: السُّنَّة للحاج في الحلق أو التقصير، أن يكون في منى، ولو حلق أو قصر خارجها، ولو في وطنه، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه.

المسألة الثالثة: يجوز تأخير الحلق أو التقصير إلى آخر أيام النحر؛ ولو أخرهما إلى ما بعدها، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه أيضاً؛ وبهذا قال عطاء، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد.

المسألة الرابعة: أقل ما يجزئ الحلق أو التقصير ثلاث شعرات من شعر الرأس، ولا يجزئ أقل منها؛ وهو مذهب الشافعي.

المسألة الخامسة: لا يُشْرَع في حق النساء الحلق، بل يُكره لهن ذلك؛ لأنه بدعة في حقهن، وفيه مثلة، إنما الواجب عليهن التقصير؛ والسنة فيه أن تقصر المرأة من كل قرن من شعرها مثل الأنملة؛ وأقل ما يجزئ عنها ثلاث شعرات، وهو مذهب الشافعي.

المسألة السادسة: الأفضل أن يحلق الناسك أو يقصِّر جميع شعره دفعة واحدة؛ ولو حلق أو قصَّر في وقتين أو ثلاثة أوقات، أجزأه ذلك، ولا شيء عليه، لكن فاتته الفضيلة.

المسألة السابعة: الأصلع الذي لا شعر على رأسه، يستحب له أن يُمِرَّ الموسى على رأسه، وليس واجباً عليه، فإن لم يفعل فلا شيء عليه؛ وهو مذهب جمهور أهل العلم، غير أبي حنيفة.

رخص النفر من منى

في خصوص النفر من منى، يقول تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} (البقرة:203) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه) رواه أصحاب السنن، وصححه الشيخ الألباني.

والسُّنَّة في النفر من منى لمن تعجل، أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، فإذا غربت عليه الشمس قبل خروجه، لم ينفر، وعليه المبيت فيها إلى التالي، فيرمي ثم ينفر. وهذا الحكم يستوي فيه المقيم في مكة، وغير المقيم فيها.

ومن الرخص الواردة في (النفر) المسألتان الآتيتان:

المسألة الأولى: من أراد أن يتعجل وينفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، عليه أن يخرج من منى قبل غروب شمس ذلك اليوم، فإن لم ينفر حتى غربت عليه الشمس، كُره له أن ينفر قبل أن تطلع عليه شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي، ويرمي الجمار الثلاث، ولو نفر قبل طلوع الفجر لا شيء عليه؛ لأنه لم يدخل اليوم الآخر، فجاز له النفر، كما لو نفر قبل الغروب، وهذا مذهب أبي حنيفة.

المسألة الثانية: لو غربت الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر -ثاني أيام التشريق- بغير اختيارٍ ممن أراد أن يتعجل؛ كأن يكون قد ارتحل وركب لكن تأخر خروجه بسبب زحام السيارات، أو صادف خروجه نزول مطر منعه عن متابعة سيره، فإنه لا يلزمه التأخر والمبيت إلى اليوم التالي، ويمكن متابعة خروجه من منى متى زال المانع له من الخروج، ولا شيء عليه في ذلك؛ لأن تأخره إلى الغروب لم يكن باختياره، بل لعارض خارج عن إرادته.

رخص محظورات الإحرام

المحظورات التي يجب على المحرم أن يتجنبها حال إحرامه في الحج، منها ما هو مشترك بين الرجال والنساء؛ كإزالة شعر الرأس والبدن، بحلق أو غيره، وتقليم الأظافر، واستعمال الطيب في الثوب والبدن، وعقد النكاح، والمباشرة بشهوة، كتقبيل أو لمس، وصيد حيوان البر المأكول أو قتله؛ ومنها ما يختص بالرجال؛ كلبس المخيط، وتغطية الرأس بملاصق؛ ومنها ما يختص بالمرأة؛ كتغطية الوجه، ولبس القفازين.

ومن الرخص الواردة في (محظورات الإحرام) المسائل الآتية:

المسألة الأولى: إذا أحرم قاصد الحج ناوياً الإفراد، أو القِران، أو أطلق، فلم ينو شيئاً، جاز له أن يفسخ ما نواه، وينوي التمتع، سواء كان ما نواه عند إحرامه، أم كان عند طوافه للقدوم، فله الفسخ على كل حال، ما لم يقف في عرفة؛ وهذا مذهب أحمد، بل هو المستحب عنده.

المسألة الثانية: يجوز للمحرم أن يعقد إزاره، أو يشده بحبل ونحوه، ولا شيء في ذلك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة؛ قال صاحب "المغني": "يجوز أن يعقد إزاره عليه؛ لأنه يحتاج إليه لستر العورة، فيباح كاللباس للمرأة. وإن شد وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل، جاز إذا لم يعقده". ويجوز أيضاً عقد الرداء، وهو قول الجويني والغزالي من الشافعية.

المسألة الثالثة: إذا وجد المحرم في رأسه قملاً، جاز له قتله وإزالته، ولا شيء عليه في ذلك؛ وقال الجويني من الشافعية: يجب قتل قمل الرأس على المحرم؛ لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس، وهو مدفوع شرعًا؛ وفي حديث كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أيؤذيك هوامُّ رأسك؟) قلت: نعم! قال: وأنزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة:196) متفق عليه، والذين أوجبوا الفدية هنا إنما أوجبوها لأجل حلق الشعر للتخلص من القمل، لا لأجل القتل.

المسألة الرابعة: لا حرج على المحرم أن يغسل بدنه ورأسه بالصابون، وبكل ما يُزيل الأوساخ عن الرأس والبدن، ولا شيء عليه في فعل ذلك؛ عملاً برأي الشافعية، الذين قالوا: لا كراهه في ذلك على المذهب.

المسألة الخامسة: لو تحلل الحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، من غير أن يطوف للإفاضة أو يحلق أو ينحر، صح تحلله، ولا شيء عليه؛ وهو مذهب المالكية؛ إذ التحلل الأول عندهم يحصل بالرمي وحده، ومال إلى هذا القول ابن قدامة من الحنابلة؛ قال القرافي في "الذخيرة": "والتحلل تحللان: رمي جمرة العقبة، أو خروج وقتها؛ والثاني: الفراغ من أركان الحج، فيحل بالأول كل ما حرم بالإحرام، إلا النساء، والطيب، والصيد، قاله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ويختلف قبل الإفاضة؛ في الثياب، والصيد، واللمس، وعقد النكاح، والطِّيب، والمذهب التحريم؛ لبقاء الإحرام" وقد روى مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة.

المسألة السادسة: إذا قتل المحرم صيداً خطأً، أو ناسيًا لإحرامه، فلا شيء عليه؛ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا صاد المحرم ناسياً لا شيء عليه، إنما على العامد) ولأن الله تعالى قال: {ومن قتله منكم متعمداً} (المائدة:95) والمفهوم المخالف للآية، أنه لا جزاء على من قتله خطأً، أو ناسياً؛ ولأن الأصل براءة الذمة، فلا تُشغل إلا بدليل. وهذا مذهب ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس، وابن المنذر، وداود، وابن حزم، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، ذكرها ابن مفلح في "الفروع".

المسألة السابعة: يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً، إذا صاده الحلال -غير المحرم- وهذا عند الحنفية؛ ودليلهم فيما ذهبوا إليه حديث عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه، عندما صاد حمار وحش، ولم يكن محرماً، وعرض على أصحابه أن يأكلوا منه، فأكل بعضهم، وأبى آخرون، ثم عرض الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (كلوا) وهم محرمون. قال في "بدائع الصنائع": "وسواء صاده الحلال لنفسه أو للمحرم، بعد أن لا يكون بأمره عندنا" فلا شيء على المحرم إن أكل ما صاده غير المحرم، سواء صاده لنفسه، أم للمحرم؛ ما لم يكن بأمره، بناء على هذا القول.
المسألة الثامنة: يجوز للمحرم أن يقتل ما كان يغلب عليه الأذى من الهوام والحيوانات، ولا شيء عليه في ذلك؛ قال صاحب "بدائع الصنائع": "وأما الذي يبتدئ بالأذى غالباً، فللمحرم أن يقتله، ولا شيء عليه، وذلك نحو الأسد، والذئب...وأما الذي لا يبتدئ بالأذى غالباً، كالضبع، والثعلب، وغيرهما فله أن يقتله إن عدى عليه، ولا شيء عليه إذا قتله" وبهذا القول قال الحنفية، ودليلهم فيما ذهبوا إليه، قول ابن عمر رضي الله عنهما، وقد سُئل عما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والحية) ولما كانت هذه الدواب من المؤذيات المبتدئة غالباً، التحقت بالمؤذيات المنصوص عليها، من الحية، والعقرب، والكلب العقور وغيرهم.

المسألة التاسعة: يجوز في حال قتل المحرم صيداً دفع القيمة، بدلاً من إخراج المثل؛ وهو مذهب الحنفية، بل إخراج القيمة عندهم واجب؛ لعدم إمكان تحقق المثلية.

المسألة العاشرة: يجوز للمحرم أن يعقد النكاح على امرأة حال الإحرام، دون أن يدخل عليها، أو يباشرها بأي نوع من أنواع المباشرة، ويبقى على إحرامه، ولا شيء عليه؛ عملاً بقول الحنفية في هذه المسألة، وقد قال سفيان في هذا: (والمحرم يتزوج ولا يدخل بامرأته) مراده أن له أن يعقد عليها، لكن لا يدخل بها.

المسألة الحادية عشرة: من أفسد حجه بالجماع، كان له أن يفسخ حجه إلى عمرة؛ أي: ينوي بقلبه عمرة، فتنعقد عمرة فاسدة، ثم يتحلل بأعمالها، ثم يُحرم بحج القضاء في سنته، ويقع عن الحجة التي كان نواها أولاً، كما هو شأن القضاء، إذ يقع على ما فات أولاً؛ وهذا مذهب أحمد في هذه المسألة. وذكر صاحب "حاشية الجمل": "أن بعض المكيين العارفين، أفتى بعض الحجاج الذي وقع له الجماع، ففسد حجه، وحصل له ضيق، لفقره وعدم قدرته على العود السنة القابلة، فأفتاه بتقليد ابن حنبل". وهذا بناء على أصله في فسخ الحج إلى العمرة.

المسألة الثانية عشرة: إذا جامع المحرم بعد الوقوف بعرفة، وقبل التحلل الثاني، لم يفسد حجه، لكن عليه ذبح بدنة، وهو قول الحنفية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) رواه أصحاب السنن إلا أبا داود، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج، ومن فاتته عرفة فقد فاته الحج) رواه ابن ابي شيبة في "مصنفه"، فإذا أدرك الحاج وقوف عرفة، فقد أدرك الحج.

المسألة الثالثة عشرة: إذا جامع المحرم، ناسياً، أو جاهلاً، أو مكرهاً، قبل التحلل من العمرة، أو قبل التحلل الأول من الحج لا يفسد حجه، ولا كفارة عليه؛ وهو قول الشافعي في الجديد، وهو الأصح من قولين له في المسألة، ورواية لأحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ويُستدل لمن قال بهذا، بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي رواية ثانية: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

المسألة الرابعة عشرة: إذا جامع المحرم بالحج زوجته مراراً عامداً، ولم يكن قد كفَّر عن أول جماع وقع منه؛ فإن كان قبل وقوف عرفة، فسد حجه، وعليه بدنة واحدة عن جماعه مهما تكرر منه؛ وإن كان بعد وقوف عرفة، وقبل التحلل الثاني، صحَّ حجه، ويكفيه أيضاً بدنة واحدة عن الجميع. وهذا قول مالك في تكرار الجماع من المحرم؛ قال صاحب "الاستذكار": "قال مالك: ليس على من جامع مراراً إلا هدي واحد" وهو قول عطاء، وقولٌ عند الشافعية.

المسألة الخامسة عشرة: يجزئ في كفارة الجماع حال الإحرام بدنة واحدة عن الرجل والمرأة المطاوعة، وهو القول الأشهر في المسألة عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وروي ذلك عن عطاء؛ قال في "المغني": "وعن أحمد أنه قال: أرجو أن يجزئهما هدي واحد".

المسألة السادسة عشرة: لو ردد المحرم النظر إلى مثير -كزوجته، أو امرأة غيرها، أو صورة- فأمنى، لم يفسد حجه، ولا شيء عليه؛ لأن ذلك حصل منه من غير مباشرة ولمس؛ وسواء حصل ذلك منه بنظرة واحدة، أم بتكرار نظر، فالحكم في الحالين واحد؛ وهذا مذهب أبي ثور والحنفية والشافعي.

المسألة السابعة عشرة: لو فكر المحرم بأمر مثير، أو استحضر في ذهنه صورة مثيرة، فأنزل، فلا شيء عليه أيضاً؛ فإن الفكر يعرض للإنسان من غير إرادة ولا اختيار، فلم يتعلق به حكم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم) متفق عليه. وهذه المسألة وافق فيها الحنابلةُ الحنفيةَ والشافعيةَ.

المسألة الثامنة عشرة: لو قطع المحرم نبات الحرم، أو شجر فيه، كُره له ذلك، ولا شيء عليه، وبهذا قال المالكية؛ قال في "المدونة": "وقال مالك: ليس على من قطع شجر الحرم جزاء يحكم فيه".

المسألة التاسعة عشرة: من فاته الحج لسبب ما -والحج بعد الشروع فيه لا يفوت إلا بفوات الوقوف بعرفة- تحلل بعمرة، ولا هدي عليه، وعليه أن يحج في العام القابل، وبهذا قال الحنفية، واستدلوا لذلك بما روي عن الأسود بن يزيد، قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل فاته الحج، قال: يحل بعمرة من غير هدي، وعليه الحج من قابل.

المسألة العشرون: لو فعل المحرم محظوراً من جنس واحد يوجب عليه دماً، وتكرر ذلك منه؛ كما لو لبس مخيطاً مرة بعد مرة، أو حلق شعراً مرة بعد مرة، أو قص ظفراً أو أكثر، وشبه ذلك، أجزأه كفارة واحدة عن الجميع، ما لم يكن قد كفَّر عن فعله الأول؛ وسواء فعل تلك المحظورات متفرقة أم مجتمعة، فالحكم فيها واحد في وجوب فدية واحدة للجميع، إلا في إتلاف الصيد، ففي كل واحد مثله أو ما يعادله، أو إطعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً، على تفصيل في ذلك ليس هذا موضعه. وهذا مذهب الحنابلة، وقول الشافعي في القديم.

وثمة رواية عند الحنابلة أن الحكم بتداخل الكفارات، يشمل أيضاً فعل المحظورات من أجناس مختلفة؛ فلو لبس المحرم مخيطاً، وحلق شعراً، وقص ظفراً، أو فعل ما يوجب عليه دماً، فعليه كفارة واحدة عن الجميع، ما لم يكن قد كفَّر عن أحدها قبل أن يفعل المحظور الآخر.

* فائدة: ذكر الإمام النووي في "المجموع" نقلاً عن الإمام الجويني وغيره، ضابطاً في فعل المحظورات في الحج؛ قال: "ضابط هذه المسائل: إذا فعل المحرم محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً، فإن كان إتلافاً، كقتل الصيد، والحلق، والقَلْم، فالمذهب وجوب الفدية...وإن كان استمتاعاً محضاً، كالطِّيب، واللباس، ودهن الرأس، واللحية، والقُبلة، واللمس، وسائر المباشرات بالشهوة، ما عدا الجماع، فلا فدية، وإن كان جماعاً فلا فدية في الأصح" ومفاد هذا الضابط، أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام، وكان إتلافاً، ناسياً، أو جاهلاً، فلا فدية عليه عند الشافعية، وهذا على القول المقابل لـ (المذهب).

رخص متفرقة

هذه بعض الرخص العامة، المتعلقة برخص أداء مناسك الحج، والتي لا تندرج ضمن أي فصل من الفصول المتقدمة، ننظمها في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: يرخص للمرأة أن تأخذ حبوباً لمنع الحيض، تمنع بها الدورة الشهرية أيام الحج حتى تطوف مع الناس ولا تتعطل عن أعمال الحج؛ وإن وُجد غير الحبوب يمنع من الدورة فلا بأس، إذا لم يكن فيه محذور شرعاً أو مضرة. أفتى بهذا جمع من العلماء المعاصرين في مقدمتهم الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله.

المسألة الثانية: السترة للمصلي في الحرم، غير معتبرة، ولا حرج على المصلي داخل الحرم أن يمر بين يديه أحد من المارة وهو يصلي، وليس له منع أحد أو دفعه؛ قال ابن قدامة: "سائر الصلوات في مكة، لا يعتبر لها سترة". وقد رئي النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة) قال الإمام أحمد: "لأن مكة ليست كغيرها" كأن مكة مخصوصة؛ إذ إقامة السترة في ذلك المكان من الأمور التي تشق على الناس، والمشقة مرفوعة شرعاً، وإقامتها ربما تتسبب في إعاقة حركة الطائفين حول البيت، فمن هذه الجهة سقط اعتبارها، لكن يتحرى المصلي أن يصلي في مكان بعيد عن مكان الطواف، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وحكم الحرم كله حكم مكة في هذا.

المسألة الثالثة: لا تكره صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات في الحرم، سواء أكانت في مكة أم في سائر الحرم.

المسألة الرابعة: لا حرج على الحائض والنفساء أن تقرآ القرآن وغيره من الأدعية حال إحرامهما؛ لأنه لم يرد -كما يقول الشيخ ابن باز رحمه الله- نص صحيح صريح يمنع الحائض والنفساء من قراءة القرآن، وإنما ورد في الجُنب خاصة بأن لا يقرأ القرآن وهو جنب...وجواز قراءة القرآن للحائض والنفساء حال الإحرام يقصد بذلك القراءة غيباً عن ظهر قلب، من غير مس المصحف.

المسألة الخامسة: يجوز لمن لم يحج عن نفسه حجة الإسلام؛ أن يُوكَّل بالحج عن غيره، ويصح ذلك منه، وإن كان الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه أولاً. وبهذا قال الحنفية والمالكية، واستدلوا بحديث الخثعمية التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الحج عن أبيها، فقال لها: (حجي عن أبيك) رواه الترمذي والنسائي، حيث لم يسألها فيما إذا كانت قد حجت عن نفسها أم لم تحج.

المسألة السادسة: لو حج إنسان بمال حرام، صح حجه، سواء أكان حجه فرضًا أم نفلاً، لكنه آثم بذلك؛ ولا منافاة بين الحكم بالصحة والقول بالإثم؛ لأن أثر الإثم في ترتب العقاب، وأثر الصحة في سقوط الطلب. وبصحة الحج بالمال الحرام قال الحنفية والمالكية والشافعية.

المسألة السابعة: لو أحرم الحاج مفرداً، غير قارن ولا متمتع، جاز له عقد الإحرام بالعمرة، سواء عقد نية الإحرام بالعمرة، بعد أن تحلل من أعمال الحج كاملة، أم قبل أن يتحلل منها بالكامل؛ والحكم في جواز هذه المسألة وتصحيحها، هو أحد القولين عند الحنفية؛ وقال به الحنابلة للحاجة والضرورة. ويفيد كلام ابن تيمية أن إدخال العمرة على الحج صحيح، لكنه مكروه؛ وقد صحح الشافعية الإحرام بالعمرة فيما إذا نفر النفر الأول، وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق، فمن أحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق، ليلاً أو نهاراً، صحت منه؛ ولم يقولوا بصحة العمرة في غير هذه الصورة؛ وعلى قول الشافعية والحنابلة، لا يلزم من إدخال العمرة على الحج شيء.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة