الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عقوبة السرقة في الإسلام

عقوبة السرقة في الإسلام

عقوبة السرقة في الإسلام

شرع الله سبحانه العقوبات في الإسلام صوناً للمجتمع من التدهور والفساد، وحماية لحقوق الأفراد من التعدي والتسلط. ومن العقوبات التي شرعها سبحانه مراعاة لهذا المقصد عقوبة السرقة، وهي عقوبة القصدُ منها أساساً حفظ المال، والمال عزيز على بني الإنسان. ولأجل تحقيق هذا المقصد جاء قوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (المائدة:38) نخصص هذه السطور للوقوف على أهم الأحكام المستفادة من هذه الآية، وذلك من خلال المسائل التالية:

المسألة الأولى: أوجب سبحانه علينا في هذه الآية قطع يد السارق والسارقة، وأطلق ذلك في جميع الأحوال والصفات. وقد اتفق أهل العلم على وجوب قطعهما، واتفقوا على تخصيص هذا الإطلاق والعموم ببعض الأحوال، فاشترطوا أشياء تعارض هذا العموم؛ منها: ما إذا سرق ما له فيه شبهة؛ كالغانم إذا سرق من الغنيمة قبل القسمة، وكالأب إذا سرق مال ابنه؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) رواه الترمذي. ومنها النصاب والحِرْز، وتفصيلها تالياً.

المسألة الثانية: مذهب جمهور أهل العلم أن حد السرقة لا يقام إلا إذا بلغ المسروق نصاباً، ولم يعتبر أهل الظاهر هذا الشرط، وأوجبوا القطع في القليل والكثير. واختلف الجمهور الموجبون للنصاب في مقداره، والمشهور من أقوالهم ثلاثة:

أحدها: أن النصاب رُبُع دينار فقط للدراهم ولسائر الأشياء، فلا تُقطع يد السارق في الثلاثة الدراهم إلا أن تساوي ربع دينار، وهو قول جمهور الصحابة وإليه ذهب الشافعي.

الثاني: أنه ثلاثة دراهم من الفضة، أو ربع دينار من الذهب، أو ما يساوي ثلاثة دراهم من سائر الأشياء، وهو قول مالك وأحمد.

الثالث: أنه عشرة دراهم، وأنها أصل لسائر الأشياء، فلا قَطْعَ فيما دون ذلك، وهو قول أبي حنيفة.

المسألة الثالثة: مذهب جمهور أهل العلم أن حد السرقة لا يقام إلا إذا سُرق المسروق من حِرْز، ولم يشترط الظاهرية ذلك. و(الحِرْز) هو ما نُصب عادة لحفظ أموال الناس، كالدور، والخيم، والفسطاط، التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، وقد يكون الحِرْز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه، وهو يختلف في كل شي بحسب حاله. قال ابن المنذر: "ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم". وقال ابن العربي: "والأُمَّة متفقة على اعتبار الحِرْز في القطع في السرقة؛ لاقتضاء لفظها، ولم أعلم من ترك اعتباره من العلماء، ولا تَحَصَّلَ لي من يهمله من الفقهاء". واختلف الجمهور فيما يكون حِرْزاً، وما لا يكون وبتفصيل ذلك في كتب الفقه.

المسألة الرابعة: اختلف أهل العلم في النبَّاش الذي ينبش القبور ليأخذ ما فيها من أموال أو مجوهرات؛ فقال مالك والشافعي: هو سارق يجب عليه القطع؛ لوجود معنى السرقة، وهو أخذ المال خفية من حِرْز له في العرف والعادة. وقال أبو حنيفة: ليس بسارق، فلا قطع عليه؛ لأنه أخذ المال من غير حِرْز؛ لأنه في موضع ليس فيه ساكن، وإنما تكون السرقة حيث تُتقى الأعين، ويُحْفَظُ من الناس.

المسألة الخامسة: إذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حِرزه، فلا يخلو، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أو لا إلا بتعاونهم، فإذا كان بعضهم ممن يقدر على إخراجه، فلأهل العلم فيه قولان: أحدهما: يُقطع فيه الجميع، والثاني: لا يُقطع فيه أحد منهم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقول عند المالكية، قالوا: لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب. وإن كان مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون، فإنه يُقطع جميعهم باتفاق أهل العلم.

المسألة السادسة: ذهب المالكية إلى أنه إن اشترك اثنان في السرقة، بأن نَقَبَ واحد الحِرْز، وأخرج آخر المسروق، فإن كانا متعاونين قُطِعا، وإن انفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما، بأن يجئ آخر فيُخْرِج، فلا قَطْعَ على واحد منهما. وإن تعاونا في النقب، وانفرد أحدهما بالإخراج، فالقطع عليه خاصة. وقال الشافعي: لا قَطْعَ؛ لأن هذا نَقَبَ، ولم يسرق، والآخر سرق من حِرز مهتوك الحرمة. وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب، ودخل، وأخذ، قُطِع.

المسألة السابعة: لا خلاف بين أهل العلم أن اليمنى هي التي تُقْطع؛ لقراءة ابن مسعود رضي الله عنهما (فاقطعوا أيمانهما) ثم اختلفوا إن سرق ثانية؛ فمذهب جمهورهم أنه تُقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يُعزَّر ويُحبس. ومذهب الحنفية والحنابلة أنه إذا عاد إلى السرقة ثالثاً لا يُقْطَع، لكنه يضمن المسروق، ويسجن حتى يتوب.

المسألة الثامنة: مذهب جمهور أهل العلم أن مكان القطع من المِفْصَل (مِفْصَل الكف) لا من المرفق، ولا من المنكب، وقال الخوارج: تُقْطِع إلى المنكب، وقال قوم: تُقْطِع الأصابع فقط.

المسألة التاسعة: اختلف العلماء هل يكون غُرْم مع القطع أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجتمع الغُرْم مع القطع بحال؛ لأن الله سبحانه قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} ولم يذكر غُرْماً. وقال الشافعي: يَغْرَمُ قيمة السرقة، موسراً كان أو معسراً، وتكون دَيناً عليه، إذا أيسر أداه، قُطِعَ أو لم يُقطع، ولا يسقط الحد لله ما أتلف للعباد، وهو قول أحمد. وقال مالك: إن كانت العين قائمة ردها، وإن تلفت؛ فإن كان موسراً غَرِم، وإن كان معسراً لم يتبع به ديناً، ولم يكن عليه شيء، قال القرطبي: "والصحيح قول الشافعي ومن وافقه".

المسألة العاشرة: مذهب مالك أن السارق إذا سرق المال من الذي سرقه وجب عليه القطع، خلافاً للشافعي؛ لأنه وإن كان سرق من غير المالك، فإن حرمة المالك الأول باقية عليه لم تنقطع عنه، ويد السارق كلا يد؛ ولأنه سرق غير حِرْز.

المسألة الحادية عشرة: الساكنون في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يُقْطع من سرق منهم من بيت صاحبه، إذا أخذ وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار. ولا يُقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئاً، وإن أدخله بيته، أو أخرجه من الدار؛ لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء.

المسألة الثانية عشرة: مذهب جمهور أهل العلم أن من سرق من المحارم كالأخت، والعمة، والخالة، يُقْطع. وقال أبو حنيفة: لا قطع على أحد من ذوي المحارم.

المسألة الثالثة عشرة: مذهب مالك أن من سرق في دار الحرب يقام عليه الحد، وأن الحدود عنده تقام في أرض الحرب، ولا فرق عنده بين دار الحرب ودار الإسلام من حيث إقامة الحدود. وقال الأوزاعي: يقيم من غزا على جيش الحدود في عسكره غير القطع. وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر، أو الشام، أو العراق، أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره.

المسألة الرابعة عشرة: إذا وجب حد السرقة، فقَتَلَ السارق رجلاً؛ فقال مالك: يُقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يُقطع أولاً، ويُقْتَل؛ لأنهما حقان لمستحقين، فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه. قال القرطبي: "وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، وهو اختيار ابن العربي".

المسألة الخامسة عشرة: لا قَطْع في كل ما كان أصله على الإباحة؛ كجواهر الأرض ومعادنها، وشبه ذلك؛ لأنه كان مباح الأصل، ثم طرأ عليه الملك، فتنتصب إباحة أصله شبهة في إسقاط القطع بسرقته.

المسألة السادسة عشرة: مذهب مالك أن أحد الزوجين إذا سرق من الآخر يُقْطَع؛ لأن مال الزوجين محترم لكل واحد منهما عن صاحبه، وإن كانت أبدانهما حلالاً لهما؛ لأنهما لم يتعاقدا بعقد يتعدى إلى المال. وقال أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي: لا يُقْطع؛ لأن الزوجية تقتضي الخلطة والتبسط.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة