الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تحريم الحلف بغير الله

تحريم الحلف بغير الله

تحريم الحلف بغير الله

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحَلِف بغير الله عز وجل، وشدَّد في النهي عن ذلك، ومِن الحلف بغير الله: الحلف بالنبي، والكعبة، والآباء، والشرف، والجاه، والأمانة، والنعمة، وتربة فلان، والذمة، والصلاة، ونحو ذلك.. ومِن الحِكمةِ في النهي عن الحلف بغير الله، أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والعظمة إنَّما هي لله وحْدَه، فلا يُحْلفُ إلَّا بالله وأسمائه وصفاته. قال ابن حجر: "قال الْمُهَلَّب: "كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم، لينسيهم ذِكْر كل شيء سواه ويبقي ذكره، لأنه الحق المعبود، فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء". وقال السيوطي: "قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده".
وقد ذكر النووي في كتاب رياض الصالحين: "باب النهي عن الحلف بمخلوق كالنبي، والكعبة، والملائكة، والسماء، والآباء، والحياة، والروح، والرأس (السلطان)، وحياة السلطان، ونعمة السلطان، وتربة فلان، والأمانة، وهي من أشدها نهيا"، ثم أورد في هذا الباب حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع".

والأحاديث النبوية في النهي عن الحلف بغير الله كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ عن عبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: (إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) رواه مسلم.
2 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يحلِفُ بأبيه، فقال: (لا تحلِفوا بآبائِكُم، مَن حلفَ باللَّهِ فليصدُقْ، ومَن حُلِفَ لَه باللَّهِ فليرضَ، ومَن لم يرضَ باللَّهِ فليسَ منَ اللَّه) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
3 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلِفوا بآبائِكم، ولا بأمَّهاتِكم، ولا بالأندادِ، ولا تَحلِفوا إلَّا بالله، ولا تحلفوا باللهِ إلَّا وأنتُم صادقون) رواه أبو داود وصححه الألباني.
4 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب ـ وهو يسير في ركبٍ ـ، يحلف بأبيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمُت) رواه البخاري.
5 ـ عن سعد بن عبيدة رضي الله عنه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمعَ رجلًا يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر: (إنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلفَ بغيرِ اللَّه فقد أشرك) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال المناوي: "أَي فَعَل فِعْل أهل الشّرك أَو تشبه بهم، إذْ كَانَت أيْمانهم بآبائهم وما يعبدونه من دون الله، أوْ فقد أشرك غير الله فِي تَعْظِيمه".
6 ـ عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمانة) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الصنعاني: " (من حلف بالأمانة) قيل: أي بالفرائض كصلاة وصوم، ويحتمل بالأمانة نفسها.. (فليس منا) لأنَّ المؤمن لا يحلف إلا بالله وصفاته والأمانة ليس واحدًا من الأمرين"، وقال المناوي: "(ليس منا) أي ليس من جملة المتقين معدودا، ولا من جملة أكابر المسلمين محسوبا، وليس من ذوي أسوتنا، فإنه من دَيْدن أهل الكتاب، ولأنه سبحانه أمر بالحلف بأسمائه وصفاته، والأمانة أمر من أموره، فالحلف بها يوهم التسوية بينها وبين الأسماء والصفات، فنهوا عنه كما نهوا عن الحلف بالآباء".
7 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلفَ بغيرِ الله فقد كفرَ أو أشرك) رواه أبو داود وصححه الألباني، وفي رواية: (كلُّ يمينٍ يُحْلَفُ بها دون (غير) اللهِ شِرْك). قال العراقي في كتاب "طرح التثريب في شرح التقريب": "وقال الترمذي تفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله كفر أو شرك على التغليظ"، وقال ابن حجر في "فتح الباري": "والتعبير بقوله: (فقد كفر أو أشرك) للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك".

فوائد:
ـ ما جاء في القرآن الكريم من القَسَم بالمرسلات (الملائكة)، والذاريات (الريح)، والنازعات، والفجر، والعصر، والضحى، ومواقع النجوم... وغير ذلك فهو مما أقسَم الله عز وجل به، والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، فأما المخلوق فلا يَحْلِف ويُقْسِم إلا بربه سبحانه وتعالى. قال النووي: "فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بمخلوقاته، كقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}(الصَّفات:1)،{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}(الذاريات:1)،{وَالطُّورِ}(الطُّور:1)،{وَالنَّجْمِ}(النَّجم:1).. فالجواب: أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها على شرفه". وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن": "لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.. وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "فإن الله يُقْسِم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته ورحمته، وحكمته وعظمته وعزته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يُقْسَم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه". وقال الشعبي: "الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق". وقال مطرف بن عبد الله: "إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين، ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها".

ـ جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام فأخبره: (أفلح وأبيه إن صدق) رواه مسلم، وفي رواية البخاري (أفلح إن صدق). قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه) ليس حلفًا إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به، ومضاهاته بالله سبحانه وتعالى، فهذا هو الجواب المرضي وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم". وقال ابن حجر: "فإن قيل ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يُقْصَد بها الحلف.. أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال ورب أبيه".
وقال الشيخابن عثيمين: "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق) ـ فهذه الكلمة: وأبيه ـ اختلف الحفاظ فيها: فمنهم من أنكرها، وقال: لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك، فلا إشكال في الموضوع.. وعلى القول بأنها ثابتة فإن الجواب على ذلك: أن هذا من المُشْكَل، والنهي عن الحلف بغير الله من المُحْكَم، فيكون لدينا مُحْكَم ومتشابه، وطريق الراسخين في العلم في المحكم والمتشابه أن يدَعوا (يتركوا) المتشابه ويأخذوا بالمُحْكم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(آل عمران:7)، ووجه كونه متشابهاً أن فيه احتمالات متعددة: 1ـ قد يكون هذا قبل النهي.2ـ قد يكون هذا خاصاً بالرسول عليه الصلاة والسلام، لبُعْد الشرك في حقه.3ـ قد يكون هذا مما يجري على اللسان بغير قصد. ولما كانت هذه الاحتمالات وغيرها واردة على هذه الكلمة ـ إن صحّت عن الرسول عليه الصلاة والسلام ـ صار الواجب علينا أن نأخذ بالمُحْكَم وهو النهي عن الحلف بغير الله".

ـ
الحلف بغير الله يدخل تحت باب الشرك الأصغر، إلا إذا قصد الحالف بحلفه تعظيم المحلوف به كتعظيم الله، فإنه يصير بذلك شركاً أكبر، قال الشيخ ابن عثيمين: "والحلف بغير الله شرك أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا فهو شرك أصغر"، وقال الشيخ ابن باز: "لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات لا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالكعبة، ولا بالأمانة ولا غير ذلك، في قول جمهور أهل العلم. بل حكاه بعضهم إجماعًا. وقد روي خلاف شاذ في جوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قول لا وجه له بل هو باطل، وخلاف لما سبقه من إجماع أهل العلم وخلاف للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك".
ـ من زلَّ لسانه وحلف بغير الله، عليه أن يقول: "لا إله إلا الله"، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله) رواه البخاري. قال ابن بطال:" مَنْ حَلَفَ فقال في حَلِفِهِ: باللات والعُزَّى، فلْيَقُلْ: لا إِله إلا اللَّه.. قال المهلب: كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم من ذلك من غير قصد منهم، فكان من حلف بذلك، فكأنه قد راجع حاله إلى حالة الشرك، وتشبه بهم في تعظيمهم غير الله، فأمر النبي عليه السلام من عرض له ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له، إذ ذلك براءة من اللات والعزى، ومن كل ما يُعْبَد من دون الله".

عَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه أمورَ التَّوحيد، وبيَّن لهم صَغيرَ الشِّركِ وكبيره ليجتنِبوه، وجاء في السُنة والسيرة النبوية المطهرة الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد، وسد كل باب يوصل إلى نقصه أو نقضه، ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة