الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

من النظائر القرآنية ما جاء في الآيتين الكريمتين التاليتين:

الآية الأولى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} (الأنعام:122).

الآية الثانية: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} (يونس:12). فقد خُتمت آية الأنعام بقوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} وخُتمت آية بونس بقوله سبحانه: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} فما وجه خَتْم كل آية بما خُتمت به؟

أجاب الإسكافي عن الفرق بين الآيتين بما حاصله: إن آية الأنعام تقدَّمها قوله عز من قائل: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} والمراد بـ (الميت) ها هنا: الكافر، والمراد بـ (النور) الإيمان وحياته به، ومَن {في الظلمات} أي: من استمر به الكفر، ولم ينتقل عنه، فكان ذِكْرُ الكافرين بعده أولى.

أما آية يونس فقد جاء قبلها قوله سبحانه: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} (يونس:7) فهذا صفة كفار نعَّموا أبدانهم، ودنَّسوا أديانهم، واقتصروا على عمارة الحياة الدنيا، واطمأنوا بها، ولم يتوجهوا لطلب الآخرة، وهم المسرفون الذين قال الله تعالى فيهم: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} (غافر:43) لأنهم غلوا في إيثار الدنيا وتعجل نعيمها، وتجاوزهم الحد في عمارتها، والإعراض عما هو أهم لهم منها.

ويجوز أن يكون الكفار سُموا (مسرفين) لمجاوزتهم الحد في العصيان، إذ يقال لمن أفرط في ظلم: أسرف، والذين رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وغفلوا عن تدبر آيات الله تعالى، يقال لهم: مسرفون على وجهين:

أحدهما: المبالغة في تنعيم النفوس، وجعلهم الدنيا حظهم مما عرضوا له من النعيم.

الثاني: مجاوزتهم الحد في معصية الله تعالى.

فلما قال سبحانه: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} (يونس:11) وأشار إلى من تقدم ذكرهم في قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون} (يونس:7) ثم وصف حال الإنسان في الشدة والرخاء، وانقطاعه في الشدة إلى الدعاء، ونسيانه ربه في الرخاء، فسمى الذين هذه صفتهم (مسرفين) على أحد الوجهين المتقدمين؛ لإسرافهم في الحالين.

وأجاب ابن الزبير الغرناطي عن الفرق بين الآيتين بنحو ما أجاب به الإسكافي، وحاصل جوابه: أنه لما تقدم قبل آية الأنعام قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} والمراد {أو من كان ميتا} في غمرات الجهل والكفر {فأحييناه} بنور الإيمان والعلم {كمن مثله في الظلمات} أي: ظلمات الجهل والكفر، متمادياً على غيِّه، غير مقلع عن كفره، لا يجدي عليه إنذار، ولا ينتفع بوعظ مذكِّر، فسواء في حقه الإنذار وعدمه، فلما ذكر في هذا الطرف من لم يشم بارق إيمان، ولم يخرج عن مقتضى موبقاته في شنيع ذلك الخذلان، أعقب تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} فوُسِمَ بكفره لليأس من خيره.

أما آية يونس فقد تقدم قبلها قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر} والمراد هنا جنس الإنسان: {دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} أي: دعانا على أي حال كان، كقوله تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} (النحل:53) ثم قال: {فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} فذكر سبحانه من حال الإنسان حال متذكر داع عند مسِّ الضر، غير مشرك ولا كافر، ففي حاله في دعائه عند الضر ومروره في المخالفات، أو الغفلة عند كشفه شَبَه من حال المقول فيهم: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} (التوبة:102) فأعقب ذكر هذا الضرب بقوله تعالى: {كذلك زين للمسرفين} أي: أن هؤلاء زُين لهم لمرتكبهم في مرورهم بعد كشف الضر عنهم على أحوالهم قبل مس الضر إياهم، كما {زين للمسرفين ما كانوا يعملون} فتشابهت أحوالهم بأحوال المسرفين؛ ليزدجر المؤمن، ويستعيذ من مثل تلك الحال، ويدأب على الطاعة والتضرع إلى الله سبحانه.

و(المسرف) هنا يحتمل أن يراد به المسرف في المعاصي دون الكفر، أو المسرف في كفره المقول فيه، وفيمن كان على حاله: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} (غافر:43) فعدل في آية يونس عن أن يقال: {للكافرين} إلى قوله: {للمسرفين} لما في صفة (الإسراف) من الاحتمال لمناسبة ما تقدمه من تقلب حالتي الإنسان عند مس الضر إياه وكشفه عنه.

أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} فإنما ذكر في هذه الآية طرفان قد بولغ فيهما، وهما: المجعول له نور {يمشي به في الناس} لا يفارقه، والمتخبط في ظلمات لا يخرج منها، فلا يمكن أن تكون حاله أسوأ من حال هذا؛ لأن ذكر الطرفين لا واسطة بينهما يقتضي من حيث البلاغة النهاية في كل طرف، فعبر هنا بصفة الكفر، أما حال (المسرف) من حيث ما تقدم من الاحتمال، فدون حال (المتخبط في الظلمات) فعلى هذا يُحتمل أن يكون الإسراف فيما دون الكفر، فيكون المتصف به غير منقطع الرجاء؛ إذ لم يبلغ الكفر، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر:53)، فشتان ما بين مسرف راج، ومتخبط في ظلمات كفر داج، فجاء ختم كل آية على ما يناسب، ولم يكن ليناسب العكس بوجه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة