الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كفى بالله كفيلا

كفى بالله كفيلا

كفى بالله كفيلا

ما أحوج الإنسان في زمن طغت فيه المادة ، وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله ، إلى أن يجدد في نفسه قضية الثقة بالله، والاعتماد عليه في قضاء الحوائج ، وتفريج الكروب، فقد يتعلق العبد بالأسباب, ويركن إليها، وينسى مسبب الأسباب الذي بيده مقاليد الأمور، وخزائن السماوات والأرض، ولذلك نجد أن الله عز وجل يبين في كثير من الآيات في كتابه هذه القضية، كما في قوله تعالى:( وكفى بالله شهيدا ) (الفتح/ 28)، وقوله: ( وكفى بالله وكيلا )( الأحزاب/ 3) ، وقوله : ( أليس الله بكاف عبده ) (الزمر/ 36) , كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس، وعدم نسيانه في زحمة الحياة، وفي السنة قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجلين من الأمم السابقة ، ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل, سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشْهِدُهُم، فقال: كفى بالله شهيدا, قال: فأتني بالكفيل، قال : كفى بالله كفيلا ، قال: صدقت, فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته ، ثم التمس مركبا يركبها يقْدَمُ عليه للأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبا , فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار, وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجَّجَ موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال : اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا, فقلت:كفى بالله كفيلا ، فرضي بك ، وسألني شهيدا ، فقلت : كفى بالله شهيدا ، فرضي بك ، وأَني جَهَدتُ أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له ، فلم أقدِر، وإني أستودِعُكَها ، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف ، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله, فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها ، وجد المال والصحيفة ، ثم قَدِم الذي كان أسلفه ، فأتى بالألف دينار, فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه ، قال : هل كنت بعثت إلي بشيء ، قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة ، فانْصَرِفْ بالألف الدينار راشدا ).
زجَّج: أي: سمرها بمسامير من الزج، وهو سنان الرمح، وقيل: أي: سوى موضع النقر وأصلحه.
هذه قصة رجلين صالحين من بني إسرائيل، كانا يسكنان بلدا واحدا على ساحل البحر، فأراد أحدهما أن يسافر للتجارة ، واحتاج إلى مبلغ من المال , فسأل الآخر أن يقرضه ألف دينار، على أن يسددها له في موعد محدد ، فطلب منه الرجل إحضار شهود على هذا الدين، فقال له : كفى بالله شهيدا ، فرضي بشهادة الله , ثم طلب منه إحضار كفيل يضمن له ماله في حال عجزه عن السداد , فقال له : كفى بالله كفيلا، فرضي بكفالة الله، مما يدل على إيمان صاحب الدين ، وثقته بالله عز وجل ، ثم سافر المدين لحاجته , ولما اقترب موعد السداد، أراد أن يرجع إلى بلده ، ليقضي الدين في الموعد المحدد، ولكنه لم يجد سفينة تحمله إلى بلده، فتذكر وعده الذي وعده ، وشهادةَ الله وكفالتَه لهذا الدين، ففكر في طريقة يوصل بها المال في موعده، فما كان منه إلا أن أخذ خشبة ثم حفرها ، وحشى فيها الألف الدينار، وأرفق معها رسالة يبين فيها ما حصل له، ثم سوى موضع الحفرة، وأحكم إغلاقها ، ورمى بها في عرض البحر، وهو واثق بالله، متوكل عليه ، مطمئن أنه استودعها من لا تضيع عنده الودائع ، ثم انصرف يبحث عن سفينة يرجع بها إلى بلده ، وأما صاحب الدين ، فقد خرج إلى شاطئ البحر في الموعد المحدد، ينتظر سفينة يقدُم فيها الرجل أو رسولا عنه يوصل إليه ماله، فلم يجد أحدا ، ووجد خشبة قذفت بها الأمواج إلى الشاطئ ، فأخذها لينتفع بها أهله في الحطب، ولما قطعها بالمنشار وجد المال الذي أرسله المدين له والرسالة المرفقة، ولما تيسرت للمدين العودة إلى بلده، جاء بسرعة إلى صاحب الدين، ومعه ألف دينار أخرى ، خوفا منه أن تكون الألف الأولى لم تصل إليه، فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد ، فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله، قد أدى عنه دينه في موعده المحدد .
إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه، وكفايته لعبده إذا توكل عليه وفوض الأمر إليه، وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات, فإن من صح توكله على ربه تكفل الله بنصره وعونه قال عز وجل ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ( الطلاق/3)، فالذي يجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام ، وفي جميع الأحوال ، والله عز وجل عند ظن العبد به، فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع ، وإن ظن به غير ذلك فقد ظن بربه ظن السوء .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

مقاصد السنة النبوية

الاستقامة والنهي عن الغلو من خلال أحاديث السنة النبوية

الرغبة بالخير وحدها لا تكفي لوصول العبد إلى مراد الله تعالى، بل المطلوب شرعا هو الاستقامة دون طغيان، كما ورد ذلك...المزيد