الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حرمة الخمر وما كان في معناها

حرمة الخمر وما كان في معناها

حرمة الخمر وما كان في معناها

مما جاء في آيات الأحكام قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90) فقد حرم سبحانه في هذه الآية الخمر، وبيَّن تحريمها بياناً شافياً، وبيَّن علة تحريمها، وقرن تحريمها بتحريم عبادة الأوثان، وأكل الميسر؛ مبالغة في النهي عن ملابستها. نقف على تفصيل الأحكام التي تضمنها هذه الآية من خلال المسائل التالية:

المسألة الأولى: (الخمر) مأخوذة من خَمَرَ إذا ستر، ومنه خِمار المرأة. وكل شي غطى شيئاً فقد خَمَره، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (خمِّروا الآنية) متفق عليه، فالخمر تخمر العقل، أي: تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخَمَر -بفتح الميم- لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه: أخَمَرَت الأرض كثر خَمَرُها. ومنه قولهم: دخل في غُمَار الناس وخُمَارهم، أي: هو في مكان خافٍ. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك. فـ (الخمر) اسم لما خامر العقل وغطاه من الأشربة، سواء كان من العنب، أو العسل، أو غبرهما، هذا رأي جمهور الفقهاء، وقال الحنفية: الخمر خاص بما كان من ماء العنب النيء إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً عندهم، وإن كان حراماً.

المسألة الثانية: (الميسر) هو القمار، مأخوذ من اليَسَر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يَسَرَ لي كذا، إذا وجب، فهو يَيْسِر يَسَراً ومَيْسِراً. والياسر: اللاعب بالقِداح. قال الأزهري: الميسر: الجَزُور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي مَيْسِراً لأنه يُجَزَّأُ أجزاءً، وكل شي جزأته فقد يَسَرْتُه. والياسر: الجازر، لأنه يُجَزِّئُ لحم الجَزُور. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقِداح والمتقامرين على الجَزُور: ياسرون؛ لأنهم جازرون؛ إذ كانوا سبباً لذلك. وفي "الصحاح": ويَسَرَ القوم الجَزُور، أي: اجتزروها، واقتسموا أعضاءها.

قال الإمام مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النَّرْدُ، والشطرنج، والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر -يتراهن- الناس عليه. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به، فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء.

المسألة الثالثة: (الأنصاب) هي الأصنام التي تُعبد من دون الله.

المسألة الرابعة: (الأزلام) واحدها زَلَمٌ -بالفتح والضم- وهي قِداح يكتبون على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، كانت الجاهلية تستقسم بها عند إرادة الأمور، تطلب بها علم ما قُسِمَ لها، فإن خرج الأمر، مضى لأمره، وإن خرج النهي، ترك. ويلحق بهذا كل ما في معناه، كالحكم بالنجوم، والإسطرلاب، وغير ذلك من تنفير الطيور، والتطير بأصواتها، ومنه تطير العامة وكثير من المتفقة بعدة أيام من الشهر. وقمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجلُ في الجاهلية يخاطر -يراهن- الرجلَ على أهله وماله، فأيهما قَمَرَ -غلب- صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزلت الآية. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: كل شي فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق.

قال القرطبي: "{والأزلام} عند العرب ثلاثة أنواع: منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها: افعل، وعلى الثاني: لا تفعل، والثالث: مهمل لا شي عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شي أدخل يده -وهي متشابهة- فإذا خرج أحدها ائتمر، وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القِدْح الذي لا شي عليه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام؛ لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون، كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي. وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه؛ إذ كان نذر نَحْرَ أحدهم إذا كملوا عشرة، الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق. وهذه السبعة أيضاً كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم، على نحو ما كانت في الكعبة عند هُبْل. والنوع الثالث: هو قِداح المسير وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لهواً ولعباً، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء، وكَلَبِ -حِدَّة- البرد، وتعذر التحرف. وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها. وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج".

المسألة الخامسة: أجمع المسلمون على تحريم الخمر، قليلها وكثيرها، وأجمعوا على تحريم القدر المسكر من جميع الأنبذة. واختلفوا في القدر الذي لا يُسكر: فقال جمهور فقهاء الحجاز، وجمهور المحدثين بالتسوية بين قليلها وكثيرها، وأنه مندرج في اسم الخمر. وذهب فقهاء العراق والكوفة، وأكثر أهل البصرة إلى التفرقة بين المسكر وغيره، وأن اسم الخمر ليس بواقع عليه.

المسألة السادسة: فهم العلماء من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك المزني، صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من فقهاء الحنفية والمالكية، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها، وقالوا: لا يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون نجساً، فكم من محرم في الشرع، ليس بنجس!

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن قوله تعالى: {رجس} يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللغة: القذر، والنجاسة، وقد دل على نجاستها أيضاً ما روي أن بعض الصحابة، قالوا: يا رسول الله! إنا نمر في سفرنا على أهل كتاب يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فماذا نصنع؟ فأمرهم عليه السلام بعدم الأكل، أو الشرب منها، فإن لم يجدوا غيرها غسلوها، ثم استعملوها. فالأمر بالغسل يدل على عدم الطهارة؛ إذ لو كانت طاهرة غير متنجسة لما أمرهم بغسلها.

المسألة السابعة: قوله سبحانه: {فاجتنبوه} يريد أبعدوه واجعلوه ناحية، فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث، وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم، فبهذا حُرمت الخمر. ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة (المائدة) نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} (الأنعام:145) وغيرها من الآيات خبراً، وفي الخمر نهياً وزجراً، وهو أقوى التحريم وأوكده.

المسألة الثامنة: قول سبحانه: {فاجتنبوه} يقتضي الاجتناب المطلق، الذي لا يُنتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب، ولا بيع، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك. وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الخمر، ولا إمساكها، ولا تخليلها، وإنما اختلفوا في جواز التداوي، وتطفئة العطش بها. قال القرطبي: "ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد. وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر، ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي، أو غيرها، وهو قول الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، والكوفيين. وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى، وتحولت عن حال الخمر، جاز".

المسألة التاسعة: لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها، أن أكل ذلك الخل حلال. وهو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.

المسألة العاشرة: أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات، وسائر النجاسات، وما لا يحل أكله: ولذلك كره الإمام مالك بيع زبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم؛ لما فيه من المنفعة، والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي.

المسألة الحادية عشرة: قال الزمخشري في "الكشاف": أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد؛ منها: تصدُّر الجملة بـ {إنما}. ومنها: أنه قرنهما بعبادة الأصنام. ومنها: أنه جعلهما (رجساً) كما قال: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج:30) ومنها: أنه جعلهما {من عمل الشيطان} لا يأتي منه إلا الشر البحت. ومنها: أنه أمر بـ (الاجتناب) ومنها: أنه جعل (الاجتناب) من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها: أنه ذكر ما ينتج فيهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات. وهذه الآية دليل على تحريم الخمر، لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد؛ ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس، فضلاً عن جعله شراباً يُشرب".

المسألة الثانية عشرة: قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم: كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة؛ لأنهم كانوا قد أَلِفُوا شربها، وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} (البقرة:219) فترك عند ذلك بعض المسلمين شربها، ولم يتركه آخرون، ثم نزل قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء:43) فتركها البعض أيضاً، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة، حتى نزلت هذه الآية {إنما الخمر والميسر} فصارت حراماً عليهم، حتى كان يقول بعضهم: ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر؛ وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها، وأنها من كبائر الذنوب.

المسألة الثالثة عشرة: شدد المولى جل وعلا في الآية الكريمة النكير على أمر (الخمر) و (الميسر) تشديداً بالغاً، يصرف النفوس عنهما إلى غير عودة، وقرنهما بالأنصاب والأزلام -وهما من أشنع المنكرات، وأقبح الفواحش في نظر الإسلام- ليشير إلى ما في {الخمر والميسر} من ضرر بالغ، وخطورة عظيمة، تهدد الأمة والمجتمع، وتقوض دعائم الحياة.

أما {الخمر} فإنها تُذْهِب العقل، وتنهك الصحة، وتضيع المال، ومتى ذهب العقل جاء الإجرام، وكانت العربدة، وأفعال الطيش والجنون، وحسب السكران ألا يفرق بين النافع والضار، ولا يميز بين الجواهر والأقذار؛ لفقدان العقل.

وأما الميسر (القمار) فإنه يفقد الإنسان الإحساس والشعور حال انشغاله باللعب، حتى لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال، وربما أداه ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو عزم على قتل نفسه بطريق الانتحار، وكم من أسرة تهدمت، وكم من عائلة تشردت، بسبب (القمار) وأصبحت في ذلٍّ وفاقة، بعد أن كانت في عزٍّ ورفاهية، والحوادث التي نسمعها كل يوم أصدق شاهد على ما يجره (القمار) من ويلات ونكبات على الأشخاص والأسر التي بُليت في بعض أفرادها بأناس مقامرين...دع ما يتخذه المقامرون من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة، يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم، وصدق الله حيث يقول: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة:91).

المسألة الرابعة عشرة: قال القرطبي: "هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج، قماراً أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر، أخبر بالمعنى الذي فيها، فقال: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} الآية. ثم قال: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} الآية. فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع {العداوة والبغضاء} بين العاكفين عليه، وصدَّ {عن ذكر الله وعن الصلاة} فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراماً مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر، فلا يقدر معه على الصلاة، وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله تعالى بين {الخمر والميسر} في التحريم، ووصفهما جميعاً بأنهما يوقعان {العداوة والبغضاء} بين الناس، ويصدان {عن ذكر الله وعن الصلاة} ومعلوم أن الخمر إن أسكرت، فالميسر لا يُسْكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم؛ لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضاً فإن قليل الخمر لا يُسكر، كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يُسكر، ثم كان حراماً مثل الكثير، فلا يُنْكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراماً مثل الخمر، وإن كان لا يُسكر. وأيضاً فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السُّكر، فإن كانت الخمر إنما حرمت؛ لأنها تُسْكر، فتصد بالإسكار عن الصلاة، فلْيُحَرَّم اللعب بالنرد والشطرنج؛ لأنه يُغْفِلُ ويُلهي، فيَصُدُّ بذلك عن الصلاة".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة