الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمثلة تطبيقية على مقاصد السنة النبوية

أمثلة تطبيقية على مقاصد السنة النبوية

أمثلة تطبيقية على مقاصد السنة النبوية

الناظر في السنة النبوية يقطع بحضور المقاصد الشرعية، وتضمن نصوصها للمقاصد بمستوياتها الثلاثة (العامة، والخاصة، والجزئية)، وسنذكر هنا مجموعة من النصوص النبوية المقترنة بالعلل والمقاصد، حتى يتضح ما تقدم من القول باشتمال السنة النبوية على مقاصد الشريعة.

المثال الأول: في البخاري ومسلم عن سهل بن سعد _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ»، وهذا نص بأن مقصود الشارع من تشريع الاستئذان حرمة النظر إلى عورات الناس، أو الاطلاع على ما يكرهون الاطلاع عليه، وبالتالي فإن كل وسيلة تطال هذا المقصد الشرعي فإنها محرمة سواء بالنظر المباشر، أو بالتصوير أو أي آلة حديثة تعود على هذا المقصد بالإبطال.

المثال الثاني: في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الدين يسر"، إلى آخر الحديث، هذا نص على مقصد عظيم من مقاصد الشارع وهو التيسير، ورفع الحرج عن المكلفين، "ما لم يكن إثما"، كما قالت عائشة رضي الله عنها. رواه البخاري ومسلم.

المثال الثالث: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ». رواه مسلم.

فهذا الحديث فيه تنصيص على مقصد حفظ الدين، وأن امتناعه عن إعادة بناء البيت على أساس إبراهيم هو حفظ دين الناس من أن يعتقدوا أنه يهدم المقدسات ويغير معالمها، فيكون في هذا مفسدة عليهم في دينهم، وهذا اعتبار لمآلات الأحكام والتصرفات، ومثل هذا امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، مع استحقاقهم ذلك، حتى لا يجر هذا التصرف إلى الإزراء بالدين، وصد الناس عن الدخول فيه، وكل هذا رعاية لمقام هذا الدين، وحفظ سمعته في صدور أهله، وفي نفوس الراغبين في الدخول فيه من غيرهم.

المثال الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة، وقد خطب امرأة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". رواه الترمذي وابن حبان. فهذا التعليل النبوي بأن النظر للمخطوبة سبب لاستدامة العشرة، هو خادم لمقصد النكاح، وهو مقصد الاطمئنان، وديمومة النكاح بين الزوجين.

المثال الخامس: عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، أخرجه ابن ماجة والدارقطني، وصححه الألباني بمجموع طرقه، والحديث نص على مقصد عظيم، وهو منع حصول الضرر ابتداء أو انتهاء، وقد تواترت الأدلة من السنة على هذا المقصد، وجرى في ضوئه التفريع الفقهي على كثير من الفروع والمسائل.

المثال السادس: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» رواه البخاري ومسلم.
وفيه نص على أحد المقاصد الجزئية للنكاح، وهو الإعفاف، من حيث كونه عونا للمتزوج على غض بصره، وحفظ فرجه، وذلك لما يحصل به من كف فساد عظيم في الدنيا والآخرة، فيحرص المسلم على تحقيق هذا المقصد، من خلال اكتفاءه بما أحل الله له، والاستغناء به عن النظر أو الاستمتاع بغير ما أحل الله له، والنكاح بغير عفاف مناقضة لقصد الشارع، ولذلك كانت عقوبة الزاني المحصن من أشد العقوبات في الشريعة لهذا المعنى، ولأجل هذا المقصد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصوم، كوسيلة بديلة للوصول إلى نفس الغاية، إذا تعذر النكاح.

المثال السابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبع حاضر لباد»، رواه مسلم، وفي رواية: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض». فهذا النص النبوي مقترن بالتعليل بهذا المقصد، وهو تيسير رواج الطعام بين الناس، ومنع تدخل السماسرة لإغلاء أسعار السلع، وهو مناف لمقصد الرواج المشار إليه في الرواية، وهو نفس المقصد في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فالشارع قاصد إلى تسهيل وصول المستهلك إلى السلع الأساسية، ومنع التلاعب بها بأي وسيلة، سواء بالسمسرة، أو الاحتكار، أو غيرها، وفي ضوء هذا المقصد الشرعي يتمكن المفتي أو الفقيه من منع كل معاملة أو تصرف يفضي إلى الإخلال بهذا المقصد.

المثال الثامن: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" وفي رواية: تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة». رواه النسائي وأبو داود والإمام أحمد، وهو حديث صحيح رواه الشافعي عن ابن عمر. فتكثير النسل والذرية مقصد من مقاصد السنة، حثت عليه ورغبت فيه، حفاظاً على بقاء النسل البشري لعمارة الأرض إضافة إلى الحكمة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن تكون أمته أكثر الأمم في الآخرة عند مكاثرة الرسل بأممهم وأتباعهم.

المثال التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء» في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابن عفراء»، قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: «لا»، قلت: فالشطر، قال: «لا»، قلت: الثلث، قال: «فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة، فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون» رواه البخاري ومسلم، هو تعليل صريح لاقتصار الوصية على الثلث ، فهو رعاية لمصلحة عائلة سعد، وهو أعلى من الوصية بالمال كله في جوه الخير، فالسنة مرشدة إلى خير الخيرين، وراعية للمصالح وترتيب الأولويات، والتوازن بين حق الوارث وحق الموروث.

المثال العاشر: روى النسائي في سننه عن أنس وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الأئمة من قريش"، وهذا الحديث قد اختلف فيه الفقها، بين من ذهب إلى ظاهره، وجعل القرشية شرطا في اختيار الإمام، وهم الجمهور، وفهم بعض فقهاء السياسة الشرعية الحديث بناء على مقصده، وبناء على أن من مقاصد الولاية: قوة النفوذ، وهيبة السلطان، لتحقيق المصلحة للأمّة، ودفع الشّر عنها، وقد كان هذا الأمر ظاهرا في قريش كما في قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش"، فالعلة طاعة العرب لقريش، فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار، قد أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدّمته المعروفة.

وهكذا نجد أن السنة النبوية زاخرة بالتأكيد على المقاصد، وحفظ المصالح التي تقوم بها حياة الناس، وتنتظم بها أحوالهم، لا سيما الضروريات الكلية، وأيضا دفع المفاسد وتقليلها، وهو غيض من فيض، فمن المقاصد ما تكون منصوصة، كالتي سبق ذكرها، أو قد تكون باستقراء، أو إيماء، وهذا يبرز معقولية النصوص النبوية، وواقعية تعاليمها، مما يعزز دلائل الإثبات المعنوية لها ولمكانتها السامية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة