الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مقصد التزكية في السنة النبوية

مقصد التزكية في السنة النبوية

مقصد التزكية في السنة النبوية

التزكية مقصد من مقاصد بعثة الرسل عموما، كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: "فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما وبيانا، وإرشادا، لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم" انتهى.

وهي غاية من غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ)، فهو يزكيهم بمعنى: يدلهم على ما تزكو به نفوسهم، وليس هو فاعل التزكية فيهم، (ولكن الله يزكي من يشاء).

وقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم على التزكية الربانية في إيمانه وعبادته وخلقه، فأرسله الله لتزكية هذه الأمة، وتطهير النفوس من دسائسها وأمراضها، وملئها بكل خصال الطهر والنقاء، وقد كان ذلك في أصحابه رضوان الله عليهم، الذين تحقق فيهم هذا المقصد العظيم بأبهى صوره، حيث عمل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم على مسارات التزكية الإيمانية، والتعبدية، والأخلاقية، فكانوا صفوة لا تتكرر، وبقيت الأمة تتوارث منهجهم في التزكية، وعلى قدر قرب الأمة وبعدها من هذه القدوات يكون موقعهم من هذا المقصد العظيم (التزكية).

ومفهوم التزكية كما يرى ابن تيميه في الفتاوى: (تكون بعمل الصالحات وترك السيئات أو إزالة الشر وزيادة الخير).

ويمكن القول بأن تزكية النفس: عبارة عن تخلية النفس من العيوب والرذائل والآفات الظاهرة والباطنة، وتحليتها بالفضائل، والاجتهاد المتواصل في تنميتها وإصلاحها بما يرضى الله عز وجل، وتحقيق الاستقامة لصاحبها في الحياة الدنيا، والفلاح والنجاة في الآخرة.

وإذا كانت التزكية أحد مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا سنجد ذلك مبثوثا في صفحات السنة النبوية، وهذه بعض الإشارات التي تبرز هذا المقصد لا على جهة الاستيعاب:

مقصد التزكية في الدعاء النبوي:

مطلب التزكية ظاهر في دعائه المأثور، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب، القبر اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».

ومن الأدعية التي يبرز فيها مقصد تزكية النفس حديث عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: ((يا حُصَينُ، كم تَعبُد اليوم إلهًا؟ قال: سبعة: سِتَّة في الأرض، وواحدًا في السماء، قال: فأيهم تعدُّ لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصينُ، أمَا إنك لو أسلمتَ عَلَّمْتُك كلمتين تنفَعَانِك))، قال: فلما أسلم حُصين، جاء فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: ((قل: اللهمَّ ألهِمني رُشدي، وأعِذْني من شرِّ نفسي))؛ أخرجه الترمذي.

التخلية قبل التحلية:

من قواعد التزكية المشهورة التي تجلت في النصوص النبوية قاعدة: (التخلية قبل التحلية)، بمعنى: تخلية النفوس من العيوب والآفات، ومن ثم تحليتها بالفضائل، والخصال الحسنة، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تخليص أصحابه من أدران الجاهلية، وهذا يعتبر الركن الأول من أركان التزكية، ويدل على ذلك على سبيل المثال:

حديث المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها. فسألته عن ذلك؟ فذكر أنه ساب رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعيره بأمه، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك امرؤ فيك جاهلية).

والمعنى: قد بقي فيك من اخلاق القوم شيء. كما قال ابن هبيرة في الإفصاح، وقد وصل أبو ذر إلى هذا المقام من التخلي عن كل أمر يمكن أن يوصف بأنه جاهلية، حتى أنه ألبس غلامه حلة كحلته، وهذا يدلنا على الأثر البالغ الذي تركته عبارة التزكية في نفسه، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية).

ومن التخلية: النهي عن الغضب، فهو بوابة للشرور، ومفتاح للظلم والعدوان، كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مرارا، قال: «لا تغضب».

ومن التخلية: نزع حب الفواحش، وما اعتادوا عليه من مقارفة الآثام من نفوسهم، كما في مسند أحمد بإسناد صحيح، عن عن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه. فقال: " ادنه، فدنا منه قريبا "، قال: فجلس قال: " أتحبه لأمك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم "، قال: " أفتحبه لابنتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: " ولا الناس يحبونه لبناتهم "، قال: " أفتحبه لأختك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: " ولا الناس يحبونه لأخواتهم "، قال: " أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: " ولا الناس يحبونه لعماتهم"، قال: " أفتحبه لخالتك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لخالاتهم "، قال: فوضع يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه " قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.

فهذا وغيره مما يعزز الركن الأول من التزكية، وهو التخلية من الآفات والأمراض والخبائث، وتطهير النفس من العيوب والآفات المدنسة، وهذا في السنة مما لا يقع تحت الحصر، ومن أبرز ما ورد في السنة المطهرة تخلية النفس عن: (الشرك، والرياء، وحب الجاه، وحب الدنيا، والهوى، والحسد، والكبر، والشح، والغرور، وحب الرياسة، والحمية للنفس، والغضب، والتسويف، والإسراف، والغيبة، والعلو، والطمع، والهلع، والتقصير)، ولا تخفى النصوص النبوية الواردة في النهي عن هذه الآفات، والحث على تطهير النفس منها، وسبل الهدي النبوي في تخليص الناس منها.

الركن الثاني: التحلية بالفضائل، والسمو بالنفس إلى كل خير وعمل صالح، فيدخل في هذا النصوص النبوية الآمرة بكل خير مما يتصل بالإيمان، والعبادة، والأخلاق، فكل هذا هو سلم التزكية، والوصول بالنفس إلى منازل المخلَصين، وملكوت الطائعين.

ومن جوامع هذا الباب: حديث أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة، فاعمل حسنة تمحها» رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني، وقول النبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: " إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة " رواه مسلم.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم آثار الذنوب على القلوب والنفوس في تدسيتها، وآثار الطاعات والفضائل في تزكيتها، بمثل مضروب يقرب المعنى بألطف عبارة، كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه».

أليات التزكية:

وأما طرق التزكية فإننا نلمح من النصوص النبوية المبثوثة آليات يستعملها المسلم في تزكية نفسه، مثل: مجاهدة النفس، وإصلاحها، ومحاسبتها، والاجتهاد في العبادات، ودوام مراقبة الله، وتذكر الموت، وقصر الأمل، وترك المحرمات، وفعل الواجبات، والمبادرة إلى التوبة، ولزوم الاستغفار، والنصوص في هذا كثيرة، والمقصود هو الإشارة إلى حضور مقصد التزكية في السنة النبوية، فيكون الوعي بهذا المقصد مصاحبا للقارئ والمطلع في السنة النبوية، فيعظم الانتفاع أكثر من القراءة المجردة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة