الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 1

زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 1

زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 1

الحمد لله ذي الطول والآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وأصحابه الأتقياء. وبعد:
فإن كتاب "أدب الدنيا والدين"، كتابٌ قيمٌ، عظيمُ النفع، فريدٌ في بابه ، أفاض مؤلفه رحمه الله في الحض على تهذيب الأخلاق، والحث على تطهير النفوس والقلوب، وتحليتها بالفضائل والآداب، والرُّقي بها إلى معالي الأخلاق والقيم، وفضائل المُثل والشِّيَم، والبعد بها عما يشينها.
وفي مقالاتنا هنا سنعرض لبعض ما أورده المؤلف رحمه في كتابه من أقوال الصالحين والفقهاء والأدباء مما يحث على تزكية النفوس واكتساب مكارم الأخلاق.

في فضل العقل وذم الهوى:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ومروءته خلقه".
قال بعض الحكماء: "العقل أفضل مرجو، والجهل أنكى عدو".
قال بعض الأدباء: "صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله".

قال إبراهيم بن حسان:
يزين الفتى في الناس صحة عقله *** وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه *** على العقل يجري علمه وتجاربه
وأفضل قسم الله للمرء عقله *** فليس من الأشياء شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله *** فقد كملت أخلاقه ومآربه

قال صالح بن عبد القدوس:
إذا تمَّ عقل المرء تمّت أموره *** وتمّت أمانيه وتمَّ بناؤه.
قال عامر بن قيس: "إذا عَقَلَكَ عقلُك عما لا ينبغي فأنت عاقل".
قيل: "عليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرّت على عيونهم وجوه العِبر، وتصدّت لأسماعهم آثار الغير".
وقيل في منثور الحكم: من طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله. وقيل فيه: لا تدع الأيام جاهلا إلا أدبته. وقال بعض البلغاء: التجربة مرآة العقل، والغرة ثمرة الجهل.
قال بعض الحكماء: "كفى بالتجارب تأدباً، وبتقلب الأيام عظة".
وقال بعض الأدباء: "كفى مخبرا عما بقي ما مضى، وكفى عبرا لأولي الألباب ما جربوا".

قال بعض الشعراء:
ألم تر أن العقل زين لأهله *** ولكن تمام العقل طول التجارب
قال الأصمعي رحمه الله: "قلت لغلام حدث من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحة وملاحة: أيسرّك أن يكون لك مائة ألف درهم، وأنت أحمق؟ قال: لا والله. قال: فقلت: ولمَ؟ قال: أخاف أن يجني عليَّ حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى عليَّ حمقي".

قال بعض الحكماء: "كفاك من عقلك ما دلَّك على سبيل رشدك".
قيل في منثور الحكم: "كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا".

أنشد بعض أهل الأدب هذه الأبيات، وذكر أنها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
إن المكارم أخلاق مطهرة *** فالعقل أولها والدين ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها *** والجود خامسها والعُرف ساديها
والبِرّ سابعها والصبر ثامنها *** والشكر تاسعها واللين عاشيها
والنفس تعلم أني لا أُصدِّقها *** ولست أرشد إلا حين أعصيها
والعين تعلم في عيني محدِّثها *** من كان من حزبها أو من أعاديها
عيناك قد دلّتا عيني منك على *** أشياء لولاهما ما كنت تبديها

قال بعض الحكماء: "الحاجة إلى العقل أقبح من الحاجة إلى المال".
قال أنوشروان لبزرجمهر: "أي الأشياء خير للمرء؟ قال: عقل يعيش به. قال: فإن لم يكن؟ قال: فإخوان يسترون عيبه. قال: فإن لم يكن؟ قال: فمال يتحبب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن؟ قال: فعي صامت. قال: فإن لم يكن؟ قال: فموت جارف".
كانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل.

قال الشاعر: لكل داءٍ دواء يُستطب به *** إلا الحماقة أعيت من يداويها
قال الماوردي: "أما الهوى فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً، ومدخل الشرّ مسلوكاً".
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أخاف عليكم اثنتين: اتباع الهوى وطول الأمل. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة".
قال الشعبي: "إنما سُمِّيَ الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه".
قال أعرابي: الهوى هوان ولكن غلط باسمه، فأخذه الشاعر، وقال: إن الهوان هو الهوى قلب اسمه *** فإذا هويت فقد لقيت هوانا
قيل في منثور الحكم: "من أطاع هواه، أعطى عدوّه مناه". قال بعض الحكماء: "العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع".

قال هشام بن عبد الملك بن مروان:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى *** إلى كل ما فيه عليك مقال
قال بعض الحكماء: "الهوى ملك غشوم، ومتسلِّط ظلوم". وقال بعض الأدباء: "الهوى عسوف، والعدل مألوف".
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب، فسوفها بالتأميل والإرغاب، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلَّت لهما وانقادت".
قال ابن السماك: "كن لهواك مسوفاً، ولعقلك مسعفاً، وانظر إلى ما تسوء عاقبته فوطِّن نفسك على مجانبته فإن ترك النفس وما تهوى داؤها، وترك ما تهوى دواؤها، فاصبر على الدواء، كما تخاف من الداء".
قال الشاعر:
صبرت على الأيام حتى تولَّت *** وألزمْت نفسي صبرها فاستمرّت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى *** فإن طمعت تاقت وإلا تسلّت

قال بعض الأدباء: "من أمات شهوته، فقد أحيا مروءته.
قيل في المثل: "العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح".

قال الشاعر:
إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي *** دعته إليه من حلاوة عاجل
قال بعض الحكماء: "نظر الجاهل بعينه وناظره، ونظر العاقل بقلبه وخاطره".
قال العباس بن عبد المطلب: "إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك، وخذ أثقلهما عليك". وعلة هذا القول هو أن الثقيل يبطئ النفس عن التسرُّع إليه فيتضح مع الإبطاء وتطاول الزمان صواب ما استعجم، وظهور ما استبهم.
وقد قال علي بن أبي طالب: من تفكر أبصر والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيقصر الزمان عن تصفحه ويفوت استدراكه لتقصير فعله فلا ينفع التصفح بعد العمل ولا الاستبانة بعد الفوت.
قال بعض الحكماء: "ما كان عنك معرِضاً، فلا تكن به متعرِّضاً".
وصف بعض البلغاء حال الهوى وما يقارنه من محن الدنيا، فقال: "الهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرِض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي ولا تفتنك دنياك بحسن العواري. فمدة اللهو تنقطع وعارية الدهر ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم، وتكتسبه من المآثم".
وقال علي بن عبد الله الجعفري: سمعتني امرأة بالطواف، وأنا أنشد:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدين
فقالت: هما ضرتان فذر أيهما شئت وخذ الأخرى.
وقال آخر:
يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلّا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ونحن نسأل الله تعالى أن يكفينا دواعي الهوى، ويصرف عنا سبل الردى، ويجعل التوفيق لنا قائدا، والعقل لنا مرشدا. فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى - عليه السلام -: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة