الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مقاصد صلاة الجماعة

مقاصد صلاة الجماعة

مقاصد صلاة الجماعة

شرع الله تعالى لهذه الأمة الاجتماع في المساجد في أوقات معلومة لمقاصد سامية في الدنيا والآخرة، وقد أولى فقهاء الشريعة صلاة الجماعة عنايتهم بحثا عن مختلف أحكامها الفقهية، وأبرز علماء المقاصد والأسرار ما تتضمنه هذه الشعيرة من غايات وحكم باهرة، وليس بغريب أن تسجل السنة النبوية حضورا واضحا في إبراز مقاصد صلاة الجماعة، من خلال النظر الكلي إلى مجموع نصوصها الواردة في ذلك.

المقصد التعبدي لصلاة الجماعة:
الأساس في مقاصد صلاة الجماعة أنها صلة بين العبد وربه، وتقوية لهذه الصلة، بحيث ترتقي علاقته الروحية بربه إلى مستوى عال من اليقظة التي تمكنه من أن يعبده فيها كأنه يراه، وبالتالي رفع درجات المراقبة والمحاسبة والخوف من الله، فضلا عن رفع درجة إيجابيته الاجتماعية، وهذا المقصد الروحي للصلاة، يعد من أهم مقاصدها، لأن هذا هو غاية الخلق عموما، وتأتي بقية المقاصد تابعة لهذا الأصل.

كما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة» رواه أحمد، وأصله في الصحيحين عن أنس بن مالك.
فعلمه أن المساجد بقاع مقدسة، وأن الاجتماع فيها له مقصود شريف، وهو ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، ومجموع تلك الأعمال هو التعبد لله تعالى، وتقوية الارتباط بين العبد وربه تبارك وتعالى، وهذا المقصد ظاهر غني عن الاستدلال عليه.

مقصد الاجتماع والألفة:
الاجتماع هو: "الاتفاق واتحاد الرأي" كما قال ابن عاشور التحرير والتنوير، ولا شك أن الاجتماع لصلاة الجماعة في المساجد لا يقصد به مجرد اجتماع الأبدان، إذ قد يتفق ذلك في المجالس، والأسواق، والمناسبات العامة، ولكن المقصود به اجتماع مبني على الألفة، والصلة الإيمانية بين المصلين، وذلك مظنة الوحدة الفكرية، واجتماع الرأي.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على التنبيه على هذا المعنى، كما في حديث أبي مسعود قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" رواه مسلم، فهي بهذا الاعتبار رمز لوحدة المسلمين وجمع قلوبهم واتحاد صفوفهم، كما في حديث أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية"، قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة. رواه أبو داود بإسناد حسن، والمتأمل في طبيعتها وأهدافها وخصائصها ووظائفها الروحية والاجتماعية، يلاحظ أثرها على تنمية الحس الاصطلاحي والخيري لدى المسلم، والعمل على السير بها قدمًا في اتجاه الانسجام والتوازن والصلاح والخير.

ولذلك قال ابن العربي في أحكام القرآن في التعليق على قوله تعالى: {وتفريقا بين المؤمنين} [التوبة: 107]: يعني أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد، فأرادوا أن يفرقوا شملهم في الطاعة، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية، وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة؛ وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسادة. انتهى.

وقد شرع الاجتماع للصلاة مع اختلاف أغراضها ومناسباتها، فشرعت لصلاة الفرائض الخمس، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة التراويح، وصلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، مما يدل على أن الصلاة مقترنة بالاجتماع في أغلب أحوالها.

ولما لم يكن الغرض هو مجرد جمع الناس في مكان واحد فحسب، بل شرع لهذا الاجتماع أمور تنظمه، وتحقق مقصد الألفة والانضباط، كتسوية الصفوف، واحترام قدسية المكان بعدم رفع الأصوات، وهيشات الأسواق، والنهي عن إنشاد الضالة، والنهي عن مسابقة الإمام، أو الاختلاف عليه، حينها تبين أن المقصد هو الاجتماع المنتظم، الذي تتهذب به كل نوازع الفرقة والاختلاف والأنانية.

فحرصت الشريعة على أن يكون الإمام موضع رضا من المأمومين، بمعنى غير ساخطين له، حتى يتحقق به مقصد الاجتماع، كما في حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "ثلاثة لا يقبلُ الله منهم صلاةَ: (وذكر منهم) مَن تقدَّمَ قوماً وهم له كارهون...الحديث" رواه أبو داود وحسنه الألباني.

ويستدل أيضا في هذا المقام بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد صلاة الجمعة، وفعل الخلفاء الراشدين من بعده، مما يدل على تأكد مقصد الاجتماع، وهكذا رأي فقهاء الأمصار في منع تعدد الجمعة إلا على سبيل الاستثناء للحاجة الظاهرة، عند توسع الدول والأقطار، وإلا فيبقى الرأي على جمع الناس في خطبة واحدة، فهذا أدعى لتحقيق مقصد الاجتماع، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، بخلاف ما جرى في هذا العصر من التساهل في إنشاء الجمعة دون التفات إلى ما سبق، فهذا يعود على مقصدها بالنقص والاختلال.

يقول الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين. انتهى

مقصد التنظيم والترتيب في صلاة الجماعة:
يبرز أيضا في صلاة الجماعة مقصد تدريب المسلم على النظام والترتيب، من خلال الإلزام بمتابعة الإمام؛ دون تقدم عليه ولا تأخر عنه في جميع أفعال الصلاة امتثالا لقصد الشارع الظاهر في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: "فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائمًا فصلوا قيامًا"، وهي بذلك تعلم المسلمين التوحد، وجمع الكلمة، وتربط بين المسلم ومجتمعه، وتشجعه على نبذ الفوضى والأنانية، والخلاف والشقاق، ومن ثم فهي تعمل على حفظ وحدة صفوف المسلمين، وقيام نظام الألفة والتربية على الانتظام والانضباط والإتباع والسمع والطاعة والاقتداء.
وهذا يقتضي التهيئة لإقامة النظام بمفهومه الأوسع في حياة المسلمين، من خلال إقامة نظام الجماعة السياسية المسلمة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا صاغوا أنفسهم في جماعة واحدة، وفي صفوف متراصة كالبنيان الواحد وراء إمام واحد دفعا للفساد والاختلاف، ومنه سمي المسجد بالمسجد الجامع: لأنه علامة للاجتماع، ومن لم يتعلم الانضباط في هذه الصورة المصغرة فسيكون فوضويا في المشهد الأكبر المتعلق بالأمة، ولذلك فإن المقيمين لصلاة الجماعة بهذا الوعي يكونون أقدر على احتمال الفروض الكفائية الأخرى بكامل الانضباط والإتقان.
وهذا ملحوظ في قول عمر رضي الله عنه الذي أورده الآجري في الشريعة: "رضيناه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا"، فقد استأنس الصحابة بمثل هذا القياس اللطيف، وهو ما يسمى بقياس الأولى عند جمهور الأصوليين، بحيث قدموا الصديق رضي الله عنه في الإمامة الكبرى قياسا على إمامة الصلاة، وهذا يدلنا على أن الصلاة وما يتعلق بها من مشروعية الجماعة وإن كانت مشهدا مصغرا في حياة المسلمين لكنها مرتبطة بالإمامة العظمى، من حيث تربية النفوس على معاني الانضباط التي يحتاجونها في مثل هذه القضايا المصيرية.
وصلاة الجماعة تربي على ممارسة صور الرقابة الشعبية على أعمال الإمام في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا أخطأ الإمام ساهيا عن قول أو فعل من أوضاع الصلاة فعلى المأموم تصحيح الخطأ بتنبيه الإمام إليه، وفي ذلك تدريب على تقديم النصح والرقابة بالمعروف والموعظة الحسنة، وكما أنه لا يجوز للمأموم متابعة الإمام على زيادة في ركعات الصلاة أو في أركانها على سبيل المثال رغم أنه مأمور بمتابعته في جميع الأحوال ركوعا وسجودا؛ ابتداء وانتهاء؛ إلا انه اذا خرج عن قواعد المشروعية وجب رده برفق ولين، وهو في ذلك كله يمارس ويتدرب على واجب طاعة الحاكم في غير معصية، فان خرج الحاكم على قواعد المشروعية وجب نصحه بالاستفتاح دون الخروج عليه، ولا المتابعة له على المعصية.
مقصد المساواة في صلاة الجماعة:
ويظهر هذا المقصد من خلال الأمر بتسوية الصفوف بلا تمييز أو تفضيل، فالجميع خاضع خضوع عبودية لله، ولا يسوغ لأحد أن يخل باستقامة الصف بتقديم أو تأخير؛ وإلا كان معتديا على نظام الجماعة، لا فرق بين حاكم ومحكوم؛ ولا بين الصغير والكبير؛ أو بين الغني والفقير، لا فرق بين أيٍّ من المصلين؛ فبتكبيرة الإمام يكبر المأمومون، وبتسليمه يسلمون كلهم على صف واحد في نظام عجيب.
ففي أداء صلاة الجماعة تأكيد للمساواة الكاملة، بحيث ينتظم الجميع في صفوف متراصة على سبيل المساواة بعضها خلف بعض؛ كل فرد حر في اختيار مكانه من الصف؛ لا يجوز أن يؤثر عليه غيره مهما كانت منزلته؛ كما لا يحق لأي أحد أن يمنعه من ذلك، وأحاديث السنة النبوية وافرة معلومة في كل جزئية مما سبق.
وهنا نسجل شهادة الكاتب الانجليزي "هراس ليف" على ما شاهده من مظهر المساواة وهو يرى جموع المصلين، حين قال: "ما كان شيء في العالم ليقنعني بأن أي دين من الأديان يدعو الى المساواة بين الناس، ولو أن بعضها يتظاهر بهذه الدعوة، فقد زرت كثيرا من الكنائس والمعابد، رأيت التفريق بين داخل المعابد كما هو خارجها، وكان اعتقادي بالطبع أن الأمر لا بد كذلك داخل المساجد الإسلامية، ولكن ما كان أشد دهشتي حينما رأيت الشعور بالمساواة على أتمه بين المسلمين في عيد الفطر في مسجد ووكنج بلندن ، هنالك وجدت أجناسا مختلطين على اختلافهم في المراتب اختلاطا لك أن تسميه أخويا، ولم أكن شاهدت مثل ذلك، ترى في المسجد فقيرا يصافح عظيما من رجال الأعمال المصريين أو سياسيا من بلاد العرب، وقد ارتفعت الكلفة بين الجميع فلا يأنف أحدهم مهما عظم قدره من أن يجاوره في الصلاة أقل الناس شأنا، وإنك لا تجد اقل محاولة لتخطي الصفوف الى مكان ممتاز في المسجد، لأنه ليس هنالك أي مكان ممتاز فالكل عند الله سواء، لا فضل لأحد على سواه". انتهى المجلة الإسلامية الإنجليزية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة