الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بر الوالدين..طريق إلى الجنة

بر الوالدين..طريق إلى الجنة

بر الوالدين..طريق إلى الجنة

أوصى الله بالإحسان إلى الوالدين جميعًا، وقرن هذا الأمر بعبادته؛ ليدلل على عظمته، ومكانته في الدين، وأمر كذلك بالشكر لهما والبر بهما، وأن ذلك من شكره: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)[النساء:36].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما".

قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[الإسراء:23، 24].
(فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) قال البغوي: الأف والتف: وسخ الأظفار، يريد لا تقل لهما ما فيه أدنى تبرم.
قال مجاهد: لا تقذرهما كما كانا لا يقذرانك.
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) قال سعيد بن المسيب: "قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ".
أي قولاً لينًا لطيفًا، طيبًا كريمًا يختلط فيه التلطف مع التذلل، والحب والعطف مع الاستمالة والاستكانة؛ كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

فأنت تتذلل لوالديك تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة، إبرادًا لقلبهما، وإثلاجًا لصدرهما، وإرضاءً لخاطرهما، وطلبًا لرضاهما - خصوصًا عند كبرهما – مكافأة لهما على سابق برهما بك، وإحسانهما إليك، ولا مساواة بينكما، وشتان بين حالك وحالهما؛ فقد كانا يحملان أذاك وكلك، وعظيم المشقة في تربيتك، مع غاية الإحسان إليك، راجين حياتك، مؤملين سعادتك. وأنت إن حملت شيئًا من أذاهما رجوت موتهما، وسئمت مصاحبتهما.
لا مساواة:
قال رجل لعمر بن الخطاب: "إن لي أمًّا بلغ منها الكبر، أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية (أي أنه يحملها إلى مكان قضاء الحاجة) فهل أديت حقها؟ قال عمر: لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تفعله وتتمنى فراقها".

وشهد عبد الله بن عمر رجلاً يمانيًّا يطوف بالبيت قد حمل أمه على ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل .. .. إن أذعرت ركابها لم أذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملت .. .. فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
قال: لا ولا بزفرة واحدة.
أيُّ حق تتحدث عنه، وهي التي حملتك في بطنها تسع حجج، وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج ، فرأت مع كل زفرة وطلقة الموت عيانا، أرضعتك حولين كاملين وأنت تأكل من جسدها وتنحت من بدنها.. كم غسلت عنك الأذي بيمينها، وأسهرت من أجل راحتك ليلها، وآثرتك بالغذا على نفسها.. ومع كل هذا كم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا.
ولأجل هذا استحقت التكريم والتعظيم حتى وإن كانت كافرة .

لأمــك حـــق لــو علمت كبــير .. .. كثيـــرك يا هــذا لديه يسير
فكــم ليـــلة باتت بثقـلك تشتكي .. .. لهـــا من جواهــا أنةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة .. فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غســلت عنك الأذى بيمينها .. .. وما حجرهـا إلا لديك سرير
وتفديــك ممـــا تشتــكيه بنفســها .. .. ومن ثديـها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطت قوتـها .. .. حنــوًا وإشفــاقًا وأنت صغير
فآهــا لــذي عقـل ويتبع الهوى .. .. وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها .. .. فأنت لمـــا تدعــو إلــيه فقـير

فلما كان هذا حالها، حض الشرع على زيادة برها، ورعاية حقها، {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14].
وجاء رجل إلى سيد الأبرار الأطهار صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)[رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].

وإن كانا كافرين
وقد أمر الله بهذا البر معها خاصة، ومعهما عامة حتى حال كفرهما، بل ودعوتهما ولدهما للكفر، فأمره بعدم طاعتهما في الكفر مع مداومة البر والإحسان لهما.. قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:15].

وفي الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها قالت: (قَدَمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدهم فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلُها؟ قال: نعم صِلِي أمك).
فإذا كان الله قد أمر بحسن صحبتها مع هذا القبح العظيم – أعني الشرك – والمجاهدة في حمل ابنهما أيضا عليه، فما الظن بالوالدين المسلميْنِ، سيما إن كانا صالحيْن؟! تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وأكبرها، وإن القيام به على وجهه لمن أصعب الأمور وأعظمها، والموفق كل الموفق من هدي إليه، والمحروم من حرمه.

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردت الغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها
).[رواه أحمد وغيره].
يا من تريد الجنة، الجنة تحت قدم والدتك فاطلبها ثَمَّ، يا كثير الهفوات، يا عظيم الزلات، يا أسير الخطايا والرزايا والبليات، يا عظيم الشقاق، يا قليل الوفاق؛ أما تخاف النار؟ أما تريد الانعتاق؟! .. اسمع:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها)[رواه الترمذي مرسلاً ومسندًا. وقال: المرسل أصح].
وإنما ذكر له الخالة لأنه صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخالة بمنزلة الوالدة).
ولما شكا طيلسة بن مياس إلى ابن عمر ذنوبًا عظامًا قال له ابن عمر: أتفرق من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قال: إِي والله. قال: أَحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام؛ لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر"[رواه البخاري في الأدب المفرد].

برهمها بعد موتهما
ولا يقف البر بهما في حياتهما، ولا ينتهي بموتهما، بل تبقى حقوق البر على الابن بعد موت والديه لمن أراد الخير..
فروي عن أبي أسيد الساعدي: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يارسول الله! هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)(رواه أحمد والطبراني).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة