
كان من المسالك التي سار عليها الإمام البقاعي لبيان مقصده الأسمى من تفسيره القرآن- وهو بيان تناسب سور القرآن وآياته - ما يأتي:
خامسًا: مسلك مناسبة آخر السورة لأولها: وهو الذي يسميه البقاعي رد المقطع على المطلع، فيقول في آخر تفسير سورة النساء مثلًا: "ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء، فكأنه قيل: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر - ولو عن حكم من أحكامه - فسيجازيه يوم الحشر".
سادسًا: مسلك بيان المناسبة بين الآيات نفسها: وبيان التناسب بين الآيات نفسها عهد أخذه البقاعي على نفسه، وأكثر من ذكره في تفسيره، فتراه دائما ما يذكر أداة الربط: (ولـمَّا ولـمَّا) أي ولـمَّا ذكر تعالى كذا أتى بعده بكذا، ولذا كان من أسماء تفسيره تفسير (لـمَّا) وسواء في ذلك الآية ببعضها أم الآية بالتي بعدها، فمن مناسبة الآية للآية التي قبلها قوله في تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] : "ولـمَّا نهى عن نصرة الخائن وحذر منها؛ ندب إلى التوبة من كل سوء فقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]"، وذكر مثل هذا كثير في تفسير البقاعي.
ثم إن البقاعي قد أكثر من ذكر مناسبة الآية لبعضها البعض أكثر من ذكره مناسبة الآية للآية، فمن ذلك: أن بيَّن مناسبة ذكر الله تعالى السماء في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] مع أن ذكر الإنزال في الآية يفهم منه أنه من السماء فقال: "ولما كان الإنزال مفهمًا للسماء حققه تعظيماً له بقوله: {من السماء بما}"، ومن ذلك أنه في تفسيره قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، قد بين مناسبة بعض الآية لبعض فقال: "ولما كان صاحب هذا الصدر لا تكاد الهداية تصل إليه، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت...؛ كانت ترجمته قوله: {كأنما يصعد} أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود {في السماء}".
سابعًا: مسلك بيان مناسبة آخر سور القرآن لأولها: البقاعي الذي أراد إظهار القرآن كتلة واحد لا يختلف أوله عن آخره ظل مستحضرًا تحقيق هذا المقصد حتى نهاية تفسيره، فنراه يقول في تفسير سورة قريش آخر القرآن: "وكما التقى آخر كل سورة مع أولها فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها" فهو يربط بينها وبين سورة التوبة تاسع سورة من سور القرآن بعد الفاتحة، ثم يقول في تفسير سورة الناس آخر سور القرآن: "ومقصود هذه السورة معلول لمقصود الفاتحة الذي هو المراقبة، وهي شاملة لجميع علوم القرآن التي هي مصادقة الله، ومعاداة الشيطان ببراعة الختام، وفذلكة النظام، كما أن الفاتحة شاملة لذلك لأنها براعة الاستهلال، ورعاية الجلال والجمال، فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول، والدليل بالمدلول، والمثل بالممثول".
بهذه المسالك ونحوها استطاع البقاعي -رحمه الله- أن يحقق مراده في إظهار القرآن كتلة واحدة، قد اتصل مطلع كل سورة بآخره، وأول القرآن بآخره، وفي ذلك أعظم رد على من زعم من المستشرقين أن القرآن شتيت من الآيات، ولفيف من الجمل والعبارات التي لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط، فجزى الله البقاعي عن القرآن وأهله خير الجزاء.