
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).. هكذا أخبر الله تعالى في كتابه، في الآية التاسعة من سورة الحجر.
قال ابن جرير الطبري: "وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما، ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه".
ولا شك أن الذكر يتناول أول ما يتناول القرآن الكريم، إذ هو أصل هذا الدين وعموده الأول، وطنب خيمته وعمود فسطاطه، وهو معجزته الخالدة.. ولهذا تكفل الله تعالى بحفظه، وحرك همم الناس لذلك، وسخر من الأسباب ما يكون سببا لحفظ هذا الكتاب في السطور وفي الصدور.. فلا يمكن لأحد أن يزيد في لفظه ولا ينقص، ولا يغير ولا يبدل.. بل كما قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت:42).
حفظ السنة حفظ للقرآن
ومن حِفظ القرآن الكريم حفظُ السنة؛ فإنها داخلة في معنى الذكر، ولا يتم حفظ القرآن بمعانيه إلا بحفظها.. قال العلامة المعلمي اليماني في كتابه (التنكيل: 1/48):
"والذكر يتناول السنة بمعناه وإن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها"..
ولهذا كان لابد أن ييسر الله للسنة من يحفظها، كما كان الحال مع القرآن، فحرَّك الله همم من اصطفاهم من فحول الرجال، وأهل العلم الكرام لحفظ السنة، بمتونها وأسانيدها، ومعرفة رجالها ودراسة أحوال رواتها، واستحداث العلوم التي بها يعرف صحيحُها من سقيمِها، وسليمُها من عليلِها، وشاذُّها من محفوظِها، ومنكرُها من معروفها، ومتصلُها من مقطوعِها، ومرفوعُها من موقوفِها ومقطوعها، ومنقطعُها من معضلها.. ويعرفوا الرواة وتاريخ ولادتهم ووفياتهم، والأسماء والكنى، والأنساب والألقاب، ومدى جرحهم وتعديلهم، ومن يقبل حديثه ومن يرد، ومن يكون في الطبقة العليا منه ومن هو أدنى من ذلك، والكذاب والوضاع، والمتهم بذلك، ومن فحش غلطه، ومن ساء حفظه، وغير ذلك من الأمور المرتبطة بهذا الفن..
وقد هيأ الله سبحانه جهابذةً نقادًا، وأئمة حفاظا، وأعلاما كبارا جعلوا حفظ حديث رسول الله همهم وغايتهم، فلا يدخل فيه ما ليس منه، كما لا يخرج منه ما هو منه.. فتبقى سنة النبي صلى الله عليه وسلم أمام طالبيها، وليحفظ الله دينه كما وعد.
"فكل من علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وأن شريعته خاتمة الشرائع، وأن سعادة المعاش والمعاد والحياة الأبدية في اتباعه، يعلم أن الناس أحوج إلى حفظ السنة منهم إلى الطعام والشراب"[علم الرجال:19].
يبقى لها الجهابذة
وكما قيض الله للقرآن من يحفظه، وهيأ أسباب بقائه وصفائه ونقائه، كذلك قيض سبحانه لسنة نبيه من يحميها من محاولات أهل الكفر والزيغ والضلال ويمنعوهم التلاعب بها أو الكذب على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أو أن ينسبوا إليه مالم يكن، أو أن يضعوا عليه من الأحاديث ما لم يقله..
روى الإمام الخطيب في (الكفاية ص:80): "قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله سبحانه وتعالى: {إنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]
ومن أجل حفظ السنة قام هؤلاء الأكابر فبذلوا المهج، وهجروا الأوطان والبلدان، وأنفقوا الأموال، وتركوا الأهل والأولاد، ليتعلموا هذا العلم وينشروه، ويدافعوا عنه ويحفظوه، وربما سافروا الأيام ـ بل والشهورـ من أجل أن يتحققوا من حديث واحد ويعرفوا أصله وفصله..
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني في كتابه: (علم الرجال وأهميته: 23):
"وكان نشاط الأئمة في ذلك آية من الآيات؛ فمن أمثلة ذلك: قال العراقي في شرح مقدمة ابن الصلاح: روينا عن مؤمل أنه قال: حدثني شيخ بهذا الحديث – يعني حديث فضائل القرآن سورة سورة – فقلت للشيخ: من حدثك؟ فقال حدثني رجل بالمدائن وهو حي، فصرت إليه، فقلت: من حدثك؟ فقال: حدثني شيخ بواسط، وهو حي؛ فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بعبَّادان، فصرت إليه، فأخذ بيدي، فأدخلني بيتا، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني، فقلت يا شيخ من حدثك؟ فقال لم يحدثني أحد، ولكننا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن"اهـ.
قال المعلمي: لعل هذا الرجل (يعني مؤملا) قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد"اهـ.
وهذا الحديث إنما وضعه أبو عصمة نوح بن أبي مَرْيَم، وهو كذاب وضاع، قال عنه الأئمة: "رزق من كل شَيْء حظا إِلَّا الصدْق فَإِنَّهُ حرمه، نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان".
وقد قيل له مرة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورةً سورةً؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبةً.
وقد قال الإمام النووي في "التقريب" عن مثل هذا النوع من الوضع ما معناه: أنه أسوأ أنواع الوضع؛ لأن الناس يغترون بزهد قائله فيروج عليهم".
ورحلة مؤمل رحمه الله للتأكد من صحة هذا الحديث ومعرفة مصدره، وإنفاق شهور من عمره لأجل ذلك، وما لقي من النصب والتعب، وهجر الراحة.. إنما تدل على ما بذله هؤلاء الأولون الكرام والأئمة الأعلام من أجل حفظ سنة سيد الأنام..
وشعبة بن الحجاج أيضا
ومثل ما فعل مؤمل فعل شعبةُ بن الحجاج أبو بسطام الإمام الكبير، فقد روى ابن عبد البر في التمهيد (1/48)، والخطيب في (الرحلة في طلب الحديث ص:59)، والبيهقي في (القراءة خلف الإمام):
عن نصر بن حماد الوراق، قال: كنا قعوداً على باب شعبة نتذاكر، قلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عبدالله بن عطاء عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعاية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحوله أصحابه، فسمعته يقول: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجداً فصلى ركعتين واستغفر الله، غفر الله له). قلت: بخ بخ. قال: فجذبني رجل من خلفي، فالتفتُّ فإذا هو عمرُ بن الخطاب، فقال: التي قال قبل أحسن. قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت).
قال: فخرج إلىّ شعبة فلطمني ثم دخل، ثم خرج، فقال: ما له قعد يبكي؟ فقال له إدريس: إنك أسأت إليه. فقال: أما تنظر ما يحدث عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالله بن عطاء عن عقبة؟ (قال شعبة) أنا قلت لأبي إسحاق من حدثك؟ قال: حدثني عبدالله بن عطاء عن عقبة؟ قلت: سمع عبدالله بن عطاء من عقبة؟ قال: فغضب ـ ومِسعَرُ بن كِدَامٍ حاضر، فقال قد أغضبت الشيخ. فقلت ليصححن هذا الحديث. فقال مسعر: عبدالله بن عطاء بمكة. فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبدالله بنَ عطاء، فسألته. فقال: سعدُ بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد في المدينة لم يحج العام. فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعداً، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مخراق حدثني. قال شعبة: فلما ذكر زيادًا قلت: أيش هذا الحديث؟ بينا هو كوفي إذا صار مدنياً، إذ رجع إلى البصرة..
فلقيت زياد بن مخراق فسألته. فقال: ليس هو من بابتك. قلت: حدثني به. قال: لا تريده. قلت: حدثني به. قال: حدثني شهرَ بن حَوشَب عن أبي ريحانة عن عقبة.
قال شعبة: فلما ذكر شهراً قلت: دمَّر عليَّ هذا الحديث، لو صح لي مثلُ هذا الحديث كان أحبَّ إلى من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين".اهـ.
فانظر كيف أن البحث في هذا الحديث بيَّن سقوطَ أربعة من رجاله: سعد بن إبراهيم، ثم زياد بن مخراق، ثم شهر بن حوشب، ثم أبو ريحانه. وأن فيهم من هو متكلم فيه كشهر بن حوشب..
وانظر كم من الوقت أمضى شعبة مسافرًا من العراق إلى مكة، ثم إلى المدينة ثم إلى البصرة ثم يعود إلى الكوفة.. فرضي الله عن أبي بسطام وعن جميع هؤلاء الأئمة الأعلام.
يمشي أكثر من ألف فرسخ
وأختم الكلام في هذه النبذة اليسيرة، بكلام أبي حاتم عن رحلته ليعلم كل قعيد الهمة، بطئ السير، كيف تكون الهمم، وكيف تخدم السنة:
نقل الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء: 13/ 257)، وروى ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل: 363-364)، وابن أبي حاتم هنا يحدث عن أبيه قال: سمعت أبي يقول:
"أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي فلما زاد على ألف فرسخ تركته، وأما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، خرجت من البحر من قرب مدينة (سلا) إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس ماشيا، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية إلى طرسوس ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيء من حديث أبي اليمان، فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت إلى الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة كل ذلك ماشيا هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة 213هـ، في شهر رمضان، ورجعت سنة 221هـ".
هكذا نجدهم رحمهم الله تعالى في رحلاتهم، وسفراتهم يتنقلون راجلين يقطعون آلافا من الأميال والفراسخ لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله الذي حفظ لنا القرآن، والحمد لله الذي حفظ لنا سنة النبي العدنان، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.