الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النصيحة في السنة النبوية

النصيحة في السنة النبوية

 النصيحة في السنة النبوية
من المفاهيم المحورية التي اهتمت بها السنة النبوية حثا وترغيبا، وتوجيها وتسديدا، إضافة إلى تأسيس المبادئ التي تقوم، والأساليب الراقية في أدائها، وإشاعة أهميتها في صلاح الفرد والمجتمع والدولة، مفهوم النصيحة وهو مبدأ أصيل في المجتمع المسلم، لا بد من تفعيله وإشاعته.

المعنى اللغوي للنصيحة:

قال الخطابي في معالم السنن: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي: "إرادة الخير للمنصوح له" وليس يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال نصحت العسل إذا خلصته من الشمع.

المعاني التي تضمنتها النصيحة:


جاءت النصيحة بمعنى إتقان العمل، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده»، وفي رواية: عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق، والنصيحة والطاعة له أجران»، والنصيحة هنا بمعنى إتقان العمل، وامتثال الأمر.

وجاءت بمعنى الثقة وكتمان السر، ففي صحيح البخاري، في قصة الحديبية، وفيه: " فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عَيْبة نُصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة"... الحديث.

قال ابن حجر في فتح الباري: قوله: "وكانوا عَيْبة نُصح" العيبة: بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة ما توضع فيه الثياب لحفظها أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره، "ونصح" - بضم النون وحكى بن التين فتحها - كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب.

وجاءت النصيحة بمعنى العدل وعدم الغش، كما في صحيح مسلم عن أبي المليح أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث لولا أني في الموت لم أحدثك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة».

فقد نقل النووي في شرحه على مسلم عن القاضي عياض رحمه الله قوله: معناه بيِّن في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئا من أمرهم واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح.

الحث على النصيحة في السنة النبوية:


وردت مجموعة من الأحاديث الحاثة على النصيحة، وبيان أهميتها، ومحوريتها في تركيبة المجتمع المسلم أشهرها الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن تميم الدَّاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثا، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم»، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الدين كله، فهو من جوامع الكلم وبه يتبين به أهمية النصيحة، وشمولها لكل المجالات المذكورة.

وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»، وفي الصحيحين - وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم»، قال العيني في عمدة القاري شرحه على البخاري وقال الخطابي: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّصِيحَة للمسلمين شرطًا في الذي يبايع عليه كالصلاة، والزكاة، فلذلك تراه قرنها بهما.

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه».
أساليب النصح النبوي:

لا أحد أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحياته كلها نصح للأمة، وبالتالي فالسنة كلها نصيحة، ولكن نذكر بعض الأساليب النبوية التي كان يخرج فيها النصح حتى يقتدى بها:

فربما قال النصيحة بأسلوب المادح حتى يتفطن المنصوح لنقصٍ فيتمه،
كما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، وأنا غلام حديث السن، وبيتي المسجد قبل أن أنكح، فقلت في نفسي: لو كان فيك خير لرأيت مثل ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعت ذات ليلة قلت: اللهم إن كنت تعلم في خيرا فأرني رؤيا، فبينما أنا كذلك إذ جاءني ملكان، في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلان بي إلى جهنم، وأنا بينهما أدعو الله: اللهم إني أعوذ بك من جهنم، ثم أراني لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، فقال: لن تراع، نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة. فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالا معلقين بالسلاسل، رءوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالا من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عبد الله رجل صالح، لو كان يصلي من الليل» فقال نافع: «فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة».

وكان نصحه صلى الله عليه وسلم لا يخلو من عبارات اللطف والرفق والمودة،
كما في سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، أن رسول صلى عليه وسلم أخذ بيده، وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك» ، فقال: " أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك».

ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري في صحيحه أن الرسول –عليه الصلاة والسلام- لما فتح حنينا قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس، فقام –عليه الصلاة والسلام- فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:« يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ ويقولون: الله ورسوله أمن، ثم قال: « لو شئتم أن تقولوا: كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا»، ثم قال: «الأ ترضون أن يذهب الناس بالشاة والأبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت أمرءا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار»، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- قسما»، فهنا خاطب قلوب الأنصار ومشاعرهم، فكان ذلك أدعى لتأثرهم وزوال ما في نفوسهم.

وكان ينصح بما يناسب الحال، فينصح بما يرى من حال المنصوح وبما ينفعه في شأن الدنيا الآخرة،
فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى» ، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه، يدعو حكيما إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.

وكان نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمرا لا ينقطع، فهو الناصح في كل موقف، وفي كل وقت بما يناسبه، فالنصيحة ينبغي أن تكون منهج حياة للمسلم، فإن كان في فرح وجه بما يناسب، أو في حزن ذكر المحزون بما يليق بحاله، في السفر وفي الحضر، في الصحة وفي المرض، ولا يمنعه الحرج من كثرة التذكير بالنصيحة، وترداده في كل مناسبة، فيؤكد على المهمات، ويحفز الإرادات نحو الكمالات، وقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها شاهدة على ذلك، ولم يزل على ذلك حتى لحق بربه ناصحا مؤديا مهمة البلاغ على أكمل وجه وأتمه وأوفاه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة