
بناء البيوت من زينة الدنيا التي أحلها الله لعباده، فيحق لهم الاختراع والابتكار الهندسي في تصميمها وتوفير سبل الراحة فيها كل بحسب ما يتيسر له، ولم تأت الشريعة بما يمنع من ذلك، وإنما جاءت بما يتمم هذه النعمة، ويوجه تلك الرغبة، وخاصة في الجوانب المعنوية التي تحقق السكينة والطمأنينة في تلك البيوت، فتضيف لها أبعادا إيمانية وتعبدية، والسنة النبوية قد ورد فيها مجموعة من الآداب والتنبيه على بعض المحاذير، نجمع ما تيسر منها تحت هذا الموضوع لنحرج بخلاصات موضوعية نافعة بإذن الله.
ومن حيث المبدأ فإننا نجد في السنة النبوية إباحة التجمل واستحبابه عموما، ففي صحيح مسلم «إن الله جميل يحب الجمال»، وذلك حتى لا يكون في ذهن البعض حرج بأن التجمل في إنشاء البيوت داخل في المنهي عنه، وأنه من الكبر، فقد ورد هذا الحديث كتقييد لهذا المفهوم، ويظهر ذلك من سياقه، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس».
من الآداب النبوية في بناء البيوت: التوسط والاعتدال، فمع أنه يباح له التجمل والتمتع بما أحل الله له فقد ورد ما يدعو إلى الاعتدال والتوسط في ذلك؛ حتى لا يقع المسلم في السرف المذموم، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرش، فقال: «فراش للرجل، وفراش للمرأة، وفراش للضيف، والرابع للشيطان».
فما زاد عن الحاجة واتخذ للمباهاة والخيلاء فإنه يكون مذموما، ويخرج من دائرة الإباحة إلى دائرة الكراهة الشرعية، ولا شك أن الترشيد في الإنفاق على البناء مما يتوافق مع الوضع الاقتصادي اليوم، حيث يدعو العقلاء والخبراء إلى التوسط في الاستهلاك، والمحافظة على الوفرة المالية قدر الاستطاعة، لا سيما وقد تحول الأمر من مجرد بناء للسكن والمأوى إلى تطاول وتكاثر وتفاخر بين الناس، ولا ينبغي للمسلم أن يضيع ماله جريا وراء تلك المنافسات التي لا تفيده بشيء.
ومن الآداب النبوية في بناء البيوت: سعة البيت بما يحقق مقصد السعادة والطمأنينة بحسب القدرة والإمكان، فصلاح البيت للسكنى من سعادة الإنسان، ففي المسند عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء».
ومما يدخل دخولا أوليا في "صلاح المسكن": سعة البيت كما في رواية أخرى في المسند أيضا« والمسكن الواسع»، وقد بحث الإمام البلخي (ت 322هـ) في كتابه "مصالح الأبدان والأنفس" في تحقيق (المسكن الصالح)، ووجوه صلاحه؛ إذ للسكن والهواء والماء أثر على صحة الأبدان والطباع، فذكر من ذلك: موقع البيت، واتجاهه، وارتفاعه، واختيار أماكن الجلوس فيه بحسب تغير الفصول، وهكذا.. وإذا كان صلاح السكن يشمل هندسته الظاهرة، فإن بناءه المعنوي من جهة السكينة والطمأنينة والرفق فيما بين ساكنيه من باب أولى؛ حتى تتحقق به السعادة المذكورة في الحديث.
فالدار التي تكون غير صالحة للسكنى بأن تكون ضيقة، أو يدخل على أهلها من الضيق والشقاء بسببها يحسن التحول عنها كما في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أنس بن مالك، قال: قال رجل يا رسول الله: إنا كنا في دار كثيرٌ فيها عددنا، وكثيرٌ فيها أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا، وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروها فإنها ذميمة».
ومن الآداب النبوية في تأسيس البيوت: أن تجعل الحمامات فيها غير مستقبلة للقبلة، ففي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها».
وبعض العلماء قد رخص بذلك في البيوت وحمل النهي على الصحراء، فقد قال الترمذي بعد رواية الحديث السابق: قال أبو عبد الله الشافعي: إنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها»، إنما هذا في الفيافي، فأما في الكنف المبنية له رخصة في أن يستقبلها، وهكذا قال إسحاق، وقال أحمد بن حنبل: إنما الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في استدبار القبلة بغائط أو بول، فأما استقبال القبلة فلا يستقبلها، كأنه لم ير في الصحراء ولا في الكنف أن يستقبل القبلة.أ.هـ، وما دام ونحن نتحدث عن آداب بناء البيوت وتأسيسها فبالإمكان أن يجعل حماماتها لغير القبلة من البداية فذلك أفضل خروجا من الخلاف.
ومن الآداب في البيوت: أن لا تعلق فيه الصور والتماثيل، ولا يدخل فيها الكلاب، ففي سنن الترمذي عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت، ونهى عن أن يصنع ذلك» وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دَرْنُوْكاً فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته» والدرنوك: نوع من الستور التي كانت تعلق على الجدران.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما قال: « وعد النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، فراث عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال له: إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب».
وقد ذكرالقرطبي في المفهم علة امتناع الملائكة من دخول البيوت التي فيها تصاوير وتماثيل؛ لأنه تشبه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم، ويعظمونها.
وهكذا كل ما كان فيه مناقضة للإسلام من شعارات غير المسلمين فقد دلت السنة على تجنيب البيوت منها، فقد روى البخاري في صحيحه عن أن عائشة، رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه».
ومن الآداب كذلك: تجنب استعمال الأدوات المحرمة فيه كالحرير وأواني الذهب والفضة، ففي صحيح البخاري عن ابن أبي ليلى، قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تلبسوا الحرير والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».