الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه

الأنبياء والرُسُل أطهر البشر قلوباً، وأقواهم إيماناً، وأفضلهم عبادة، وأحسنهم أخلاقاً، وجميعهم أمناء صادقون، هُدَاة مُهْتَدُون، وأنه لا يبْلغ منزلتهم أحد مِنَ الخَلْقِ مهما بلغ مِنَ الصلاح والتقوى، إذِ الرسالة اصطفاء من الله عز وجل يختص بها من يشاء مِنْ خَلْقِه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(الحج:75). قال السعدي: "أي: يختار ويجْتبي مِن الملائكة رُسلا ومِنَ الناس رسلا يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخَلْق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المُصْطفِي لهم، السميع البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم عن علم منه، أنهم أهْل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)". والأنبياء والرسل جميعا مُرْسِلهم واحد، وهم حَمَلة رسالة واحدة، ودعاة دين واحد، يبشر المُتقدِّم منهم بالمتأخر، ويُصدق المتأخر المتقدم، وقد بُعِثوا جميعا بتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ}(النحل:36). قال الطبري: "يقول تعالى: ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له".

كُفْر مَنْ آمن بنبوة بعض الأنبياء والرسل دون بعض:
الإيمان برُسُلِ الله وأنبيائه جميعا مِنْ مُسَلَّمات الدين، وأركان العقيدة المُبَيَّنَة في القرآن الكريم، وأحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه حين سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسُلِه، واليوم الآخر، والقدَر خيره وشره). وليس المقصود بـ (ورسله) الاقتصار على الإيمان بالرسل دون الأنبياء، بل كلمة "الرسل" تشمل الأنبياء أيضا، وإنما أُطْلِقت هنا تغليبا لجانب الرُسل الذين هم أشهر وأظهر، والفرق بين النبي والرسول هو: العموم والخصوص، فالنبي أعم، والرسول أخص، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، هذا قول جمهور أهل العلم وعامة أهل السنَّة.. والمراد في هذا الحديث وغيره من آيات قرآنية وأحاديث نبوية الإيمان بالأنبياء والرسل جميعا.
قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "(ورسله) يؤمن بأن المُرْسَلين كلهم رسل الله، وأن دينهم واحد، وإنْ كانت أمهاتهم شتى، وأنه يتعين على كل مؤمن أن يؤمن برسل الله كلهم إلى خَلْقه". وقال الصنعاني في "التَّنوير شَرْح الجامع الصَّغِير": "(ورسله) الأولين إلى خاتمهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، أي تصدق بأنهم رسله وبكل ما جاءوا به". وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح صحيح مسلم": "(وَرُسُلِه) هذا هو الركن الرابع. الرسل هم البشر الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى الخَلْق وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبليغ شرائعه، وهم بَشر خُلِقوا مِنْ أب وأم، إلا عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فان الله خلقه مِن أم بلا أب. أرسلهم الله سبحانه وتعالى رحمة بالعباد واقامة بالحجة عليهم.. وهم عدد كثير، أولهم نوح وأخرهم محمد صلي الله عليه وسلم.. فعلينا أن نؤمن بان جميع الرسل الذين أرسلهم الله صادقون فيما أبلغوا به عن الله وفي رسالتهم. ـ علينا إن نؤمن بأسماء مَنْ عُينت أسماؤهم لنا ومَنْ لم تُعَيَّن أسماؤهم لنا، فإننا نؤمن بهم على سبيل الإجمال ـ".

والمسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم، ويعتقدون بكفر مَنْ أنكر نبوة أحداً من الأنبياء والرسل، لأن الكفر برسول أو نبي واحدٍ كُفْر بجميع الرُسل والأنبياء، والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة:136). قال ابن كثير: "أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مُفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مُجْملا، ونصَّ على أعيانٍ مِن الرُسل، وأجْمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلهم". وقال السعدي: "وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين، التي انفردوا بها عن كل مَنْ يَدَّعي أنه على دين. فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم - وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به مِنَ الرُسل والكتب - فإنهم يكفرون بغيره، فيفرقون بين الرسل والكتب، بعضها يؤمنون به، وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبُهم تصديقَهم، فإن الرسول الذي زعموا، أنهم قد آمنوا به، قد صدَّق سائر الرسل وخصوصا مُحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كذبوا مُحمداً، فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به، فيكون كفرا برسولهم".
2 ـ قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}(البقرة:177). قال ابن كثير: "وآمن بأنبياء الله كلهم مِن أولهم إلى خاتمهم مُحَمَّد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين".
3 ـ قال الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(البقرة:285)، قال الطبري: "والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد مِنْ رُسُله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم.. ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومَن أشبههم مِن الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه". وقال السعدي: "وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله، بل يؤمنون بجميعهم، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله".
4 ـ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}(النساء:151:150). قال ابن كثير: "يتوعَّد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله مِن اليهود والنصارى، حيث فرَّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة، وما ألِفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية. فاليهود -عليهم لعائن الله - آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم". وقال السَّمعانيُّ: "{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} إنَّما حَقَّق كُفْرَهم ليُعلَمَ أنَّهم كُفَّارٌ مُطلقا، لئلَّا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّهم لمَّا آمنوا بالله وبَعض الرُّسُل لا يكون كُفْرُهم مُطلَقًا". وقال السعدي: "هنا قسمان قد وُضِّحا لكل أحد: مؤمنٌ بالله وبرسله كلِّهم وكتبه، وكافرٌ بذلك كله. وبقي قسم ثالث: وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه مِنْ عذاب الله، إنْ هذا إلا مجرد أماني.. مَنْ كفر برسولٍ فقد كفر بجميع الرُسل، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}".
5 ـ قال الله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:84). قال ابن كثير: "{وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وَهَذَا يَعُم جميع الْأَنْبِياء جُمْلَة {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يَعْنِي: بَلْ نؤْمن بِجمِيعِهِم {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فالمؤمنون مِنْ هذه الْأُمَّة يُؤْمِنون بكُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِل، وَبِكُلّ كتابٍ أُنْزِل، لَا يَكْفُرُون بِشَيْء مِنْ ذلِك بَلْ هُمْ مُصَدِّقون بِمَا أُنْزِل مِنْ عِنْد اللَّهِ، وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثه اللَّه".
6 ـ قال الله تعالى عن قَومِ نوح عليه الصلاة والسلام: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}(الشعراء:105)، التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيباً بالرسل كلِّهم، والكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، فمن كَذَّب وكَفَر بنَبيٍّ واحدٍ فقد كَذَب وكَفَر بسائِرِ الأنبياء والرسل، وقوم نوح عليه الصلاة والسلام إنَّما كَذَّبوا وكَفَروا بنوحٍ عليه الصلاة والسَّلام فقط، لكِنْ لَمَّا كان تكذيب نبيٍّ واحدٍ والكُفْر به بمثابة مَن كَذَّب وكَفَر بسائِرِ الأنبياءِ قال الله تعالى عنهم: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}(الفرقان:37). قال ابن كثير: "ومَنْ كذَّب برسول فقد كذب بجميع الرسل، إذ لا فرق بين رسول ورسول، ولو فُرض أن الله بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبونه، ولهذا قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط". وقال البغوي: "{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} أي: الرسول، ومَن كذَّب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل، فلذلك ذُكِر بلفظ الجمع".

فائدة:

1 ـ أنبياء الله عز وجل ورسله جميعاً لهم علينا حقوق وواجبات كثيرة، ومِنْ هذه الحقوق والواجبات: الإيمان بهم ومحبتهم وتوقيرهم، وتصديقهم فيما بُعِثُوا وأُرْسِلوا به، واعتقاد فضلهم على غيرهم من الناس جميعا، واعتقاد تفاضلهم فيما بينهم، فقد فضَّل الله بعضهم على بعض، وأفضل الأنبياء والرسل هم أولو العزم منهم، وهم: محمد، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، وأفضل أولي العزم بلا خلاف نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه سلم.. والمقصود بقوله تعالى: {لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه}(البقرة:285). يعني نؤمن بهم جميعا، لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وهذا لا ينافي تفاضل الأنبياء والرسل فيما بينهم كما جاءت به نصوص الكتاب والسُنة، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}(البقرة:253). قال ابن كثير: "فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، قَطْعاً جَزْماً لا يحتمل النَّقِيض". وقال القاضي عِياض: "تقرر مِنْ دليل القرآن وصحيح الأثر وإجماع الأمة كونه صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وأفضل الأنبياء".
2 ـ قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}(آل عمران:19): "إخبارٌ مِن الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله مِنْ أحدٍ سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى خُتِموا بمُحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمَنْ لقي الله بعد بعثته مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته، فليس بمُتَقَبَّل. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(آلِ عِمْرَانَ:85) وقال فِي هذه الآية مُخْبِرًا بِانْحِصار الدِّين الْمُتَقَبَّل عِنْدَه في الإِسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}(آل عمران:19)". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوت ولَمْ يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كان مِن أصْحاب النَّار) رواه مسلم. قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث من الفقه: وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، ونَسْخ جميع الشرائع بِشَرْعِهِ، فمَنْ كفر به لم ينفعه إيمانه بغيره مِنَ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين".

المسلمون يؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم، ويعتقدون بكفر مَنْ أنكر نبوة مَنْ أثبت الله نبوته، لأن الكفر برسول أو نبي واحد كفر بجميع الرُسل. قال ابن كثير: "من كَفَر بنبيٍّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمَنْ ردَّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبيَّن أن إيمانه بِمَنْ آمن به مِنَ الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ}(النساء:150) فوسَمَهم بأنهم كفار بالله ورسله.. {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} في الإيمان {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي: طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}(النساء:151) أي: كفرهم مُحَقَّق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعياً، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته". وقال الإمام ابن بطة العكبري في "الشرح والإبانة": "الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل مِن عند الله وبجميع ما قال الله عز وجل فهو حق لازم، فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان بِرَدِّ ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء". وقال ابن تيمية في "منهاج السنة": "المسلمون متفقون على كفر مَنْ أقرَّ بنبوة بعض الأنبياء دون بعض". وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه "الإعلام بقواطع الإسلام" الذي جمع فيه الألفاظ والأفعال التي توقع بصاحبها في الكفر والرِدَّة عند أهل السُنة: "ومِنْ ذلك جَحْد جواز بعثة الرسل، أو إنكار نبوة نبي مِنَ الأنبياء المُتَّفَق على نبوتهم - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ـ". وقال الشيخ ابن عثيمين: "نرى أنَّ مَنْ كَفَر برسالة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى النَّاسِ جميعًا، فقد كَفَر بجَميعِ الرُّسُل، حتى برسولِه الذي يزعُمُ أنَّه مؤمِنٌ به، مُتَّبِعٌ له، لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}(الشعراء:105)، فجَعَلهم مُكَذِّبين لجميعِ الرُّسُلِ مع أنَّه لم يَسبِقْ نوحًاً رسول".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة