الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وظائف المسجد في السنة النبوية - الوظيفة التعليمية

وظائف المسجد في السنة النبوية - الوظيفة التعليمية

 وظائف المسجد في السنة النبوية - الوظيفة التعليمية

المسجد كما أنه مكان للعبادة وإظهار الشعائر الدينية والترقية الروحية، فهو مكان للتعليم، ومعهد للتربية، وملتقى للتنمية الاجتماعية، والتكافل المجتمعي، بل هو من أنجح المؤسسات في صياغة المجتمع، وبناء الروابط الإيمانية؛ لما له من القدسية في نفوس أفراد المجتمع.
الوظيفة التعليمية:
وفي السنة النبوية ما يدل على أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان منارة للعلم بالله وبكتابه وشرائع دينه، وبناء التصورات اليقينية في نفوس الصحابة، فقد كان بناء المسجد أولوية في تأسيس مجتمع المدينة، فهو أول مشروع نفذه النبي صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة.

وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المساجد لها وظائف متعددة، وليست لمجرد إقامة الصلاة فقط، ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه ‌المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة ‌وقراءة ‌القرآن».
وجاء الترغيب النبوي في ارتياد المسجد بقصد التعلم كما في صحيح مسلم عن ‌عقبة بن عامر قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين ‌كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم"؟ فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك! قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع. ومن أعدادهن من الإبل».
(الصُّفَّة) أي في موضع مظلل من المسجد الشريف كان فقراء المهاجرين يأوون إليه. وهم المسمون بأصحاب الصفة، وكانوا أضياف الإسلام، (يغدو) أي: يذهب في الغدوة وهي أول النهار، (بُطْحَان) اسم موضع بقرب المدينة، (العقيق) واد بالمدينة. (‌كَوْمَاوَيْنِ) الكوماء من الإبل: العظيمة السنام.
وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من جاء ‌مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير ‌يتعلمه أو يُعلِّمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره».
وفي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقبل ‌ثلاثة ‌نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد: فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر ‌فأعرض ‌فأعرض الله عنه".
وقد كان الصحابة لشدة حرصهم لا يتغيبون عن حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لأحدهم شغل في زرعه أو تجارته تعاقب مع جاره على أن يشهد يوما ويغيب يوما، فينقل أحدهما للآخر ما فاته من العلم.
ففي البخاري عن عمر قال: "وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدته أتيته بما يكون، وإذا غبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد أتاني بما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

دور المسجد النبوي التعليمي:
كان المسجد قبلة السائلين عن دينهم، فيقبل الأعرابي يسأل المسألة فيعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلم الحاضرون معه، حتى كان الصحابة يفرحون بقدوم البادي، فإنه ربما سأل عما استحيوا من سؤاله، وهكذا كان المسجد مصدر علم ومعرفة وبصيرة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم في المسجد كل ما يهمهم من أمر الدنيا والآخرة، وهو العلم النافع الذي يسعد به العبد في الدنيا وينجو به في الآخرة، كما في مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ذات يوم بنهار، ثم قام فخطبنا، إلى أن غابت الشمس، فلم يدع شيئا مما يكون إلى يوم ‌القيامة، إلا حدثناه، حفظ ذلك من حفظ، ونسي ذلك من نسي".
وكان لرسول الله مكان من طين يجلس عليه ليعرفه الغريب إذا دخل المسجد، إذا انصرف من الصلاة جلس يعلمهم ويتلو عليهم الآيات، وربما سألهم كما في صحيح مسلم: "أيكم رأى الليلة رؤيا؟"، فيعبر لهم الرؤى، فإن لم يقص عليه أحد رؤيا قص عليهم رؤياه وعبرها.
وكان تعليمه الناس على طريقتين: أولاهما: أن يملي على حـاضـري مـجـلـسـه مـن القـرآن والـتـربـيـة الـخـلـقـيـة والمـواعظ وأخـبـار الأنبيـاء السابقين، والثانية: جوابه عن أسئلة السائلين المسترشدين وما يدور بينه وبينهم من أطراف الحديث.
فتخرج من ذلك المسجد الخلفاء الراشدون أئمة في العلم والإيمان والقيادة والإدارة، وتصدر علي بن ابي طالب في القضاء، ومعاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وزيد بن ثابت في تقسيم المواريث والأنصبة والغنائم وما إليها، وأبي بن كعب في قراءة القرآن.
ففي المسجد الحرام مدرسة ابن عباس في تفسير القرآن، فقد روى الحسن البصري أنه قال: "كان يقوم على ‌منبرنا هذا، أحسبه قال: عشية عرفة، فيقرأ سورة البقرة وسورة آل عمران يفسرها آية آية". رواه الطبراني في المعجم الكبير، وتعاقب على ذلك طلابه كمجاهد، وعطاء، وعبد الملك بن جرج، وغيرهم.
وفي المسجد النبوي كان الصحابة يروون العلم الذي ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غيرهم، ففي المعجم الأوسط للطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق! ما أعجَزَكم! قالوا: وما ذاك يا أَبا هريرة؟ قال: ذاك ميراثُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقسَم، وأنتم هاهنا؛ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم، ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نرَ فيه شيئاً يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى؛ رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً ‌يتذاكرون ‌الحلالَ ‌والحرامَ، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاكَ ميراثُ محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

نماذج من المساجد في صدر الإسلام وما بعده:
اشتهرت عدة مساجد في صدر الإسلام وما بعده في مجال التعليم واكتساب المعارف، واتسعت العلوم والمعارف التي يقدمها المسجد كالطب والهندسة والفلك وغيرها، وقد برزت نماذج من المساجد.
منها: مسجد دمشق الذي كان منارة للعلوم اشتهرت حلقة أبي الدرداء الذي كان يطلق عليه معلم وقارئ الشام، واشتهرت حلقة زوجته أم الدرداء هجيمة بنت حيي الأوصابية في مسجد دمشق أيضا لتعليم النساء، حتى كان الخليفة عبد الملك بن مروان يستمع لحلقتها من مؤخرة المسجد.
ومنها: المسجد الجامع في البصرة، فقد كان ابن عباس يعقد فيه حلقات العلم حينما ولي إمارتها، ومن بعده الحسن البصري، في التفسير والحديث، وحلقة أيوب السختياني في الحديث.
ومنها: مسجد الكوفة حيث كان عبد الله بن مسعود يعلم فيه أحكام الدين، ومعه سعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وعمار، وأبو موسى الأشعري، وفي عهد علي ابن أبي طالب الذي اتخذ الكوفة عاصمة للخلافة اتسعت رقعة المسجد في تدريس العلوم وتخريج العلماء.
ومنها: مسجد الفسطاط في مصر الذي أنشأه عمرو بن العاص، وكان هو أول من جلس فيه للتدريس، ثم تعاقب عليه الأئمة والعلماء، وقد كان للإمام الشافعي بعد ذلك زاوية فيه، لتدريس الحديث والفقه واللغة، وألف كتابه "الأم" في هذا المسجد، وقد وصف الرحالة ناصر فسرو، هذا الجامع عندما زاره في سنة ٤٣٩هـ إذ يقول عنه: (وفي المسجد حلقات دائمة وقراء كثيرون، وذلك المسجد من معالم البارزة ولا يوجد أقل من خمسة آلاف شخص في المسجد في أي وقت من أوقات الليل والنهار فساحات المسجد لاتخلو من طلاب العلم والغرباء) كتاب "رحلة ناصر فسرو".
ومنها: الجامع الأزهر الذي أنشأه الفاطميون لخدمة فكرهم ليتحول بعد زوال ملكهم إلى نواة جامعة إسلامية، وقد مر على الجامع الأزهر نخبة من العلماء الكبار كابن خلدون، والسيوطي، والمقريزي، وابن حجر، والسخاوي، ولم يزل منارة للعلم والعلماء زاخرا بأنواع المعارف الدينية والدنيوية.
وهكذا مساجد كثيرة كجامع القيروان، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في المغرب، وجامع قرطبة في الأندلس.

وقد ظل المسجد قرونا طويلة هو المؤسسة التعليمية الوحيدة، وحقق ما حققه من نشر العلم والمعرفة لأفراد المجتمع، وقد أُنشِئَت المدارس التي تولت تدريس العلوم كالمدرسة النظامية (459هـ) في القرن الخامس الهجري، والمدارس الشرابية ببغداد وواسط ومكة (632هـ)، وكذلك المدرسة المستنصرية، والمدرسة الأشرفية والناصرية (703هـ) في عهد المماليك، لكن دور المسجد ظل باقيا ومتواصلا، وما إن ضعف دور المسجد في بعض الفترات التي تعرضت فيها بغداد للغزو، حتى عاد دوره مجدداً بقيام الخلافة العثمانية، حيث صار المسجد مركزا تعليميا بالغ الأهمية، فاشتهر مسجد محمد الفاتح، ومسجد سليمان القانوني، وغيرهما من المساجد التي كانت تضم قاعات للدرس والمحاضرات.
المسجد في العصر الحديث:
حين نقارن دور المسجد بين الحاضر ووالماضي نجد أن دور المسجد قد انحسر انحسارا شديدا؛ لعوامل كثيرة يرجع بعضها إلى تطور الحياة العامة التي أدت إلى اختصاص المدارس والجامعات بالوظيفة التعليمية، ولكن ذلك لا يعني قصر دور المسجد على الصلاة وبعض الأنشطة التعليمية البسيطة، ولكن من أهم أسباب انحسار دور المسجد في الوظيفة التعليمية غفلة المسلمين عن مخططات عدوهم في تعطيل دور المسجد، فقد أدرك الغزاة على حين غفلة من المسلمين أن المسجد أهم منابع القوة في تشكيل كيان الأمة، وأن التعليم الديني الذي تقدمه المساجد بالطريقة التقليدية كفيل ببقاء الجيل المسلم قويا مرتبطا بدينه وهويته، فأحالت عملية التعليم على جهات أخرى وعملت على إضعاف مخرجاتها، وجعلت تجتزئ من المقررات الدينية شيئا فشيئا حتى وصلنا إلى الحال التي لا يرتضيها العاقل، ولا بد على العقلاء من استعادة دور المساجد في تعليم الدين من مصادره الأصلية، ومعينه النقي الذي قدمه الصدر الأول وقرونه المفضلة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة